الأربعاء، 21 أغسطس 2024

عن مفهوم الجاهليّة ومركزيّتها وأحوالها بين يدي ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم

 

عن مفهوم الجاهليّة ومركزيّتها وأحوالها بين يدي ولادة رسول الله


 صلى الله عليه وسلّم


محمد خير موسى
مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب



لم تكن جزيرة العرب بين يدي ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلّم بأفضل حالًا من العالم حولها من الفرس والروم والأحباش الذين كانت تسيطر عليهم حالة الجموح العسكري والغزو الاستعماري المقترن بالانحدار القيمي الأخلاقيّ؛ غير أنّ العرب كانوا هم الفريسة التي تنهشها الضّباع الغازية، فكانوا قبائل متناحرة فيما بينهم أشداء على بعضهم أذلة على عدوّهم 

يصدق فيهم قول عمران بن حطّان:

 أَسدٌ عَلَيَّ وَفي الحُروبِ نَعامَةٌ

رَبداءُ تجفلُ مِن صَفيرِ الصافِرِ

وكان المجتمع آنذاك يصطبغ بسمات رئيسة ومركزيّة، هي عنوان المرحلة التي جاء فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأول هذه السّمات هي الجاهليّة.

دارت نقاشات عديدة وسطّرت أبحاث كثيرة لتحرير مفهوم الجاهليّة وتجلية معناه، ومنها ما ذهب إلى أنّ المفهوم مرتكز على الجهل بمعنى عدم العلم، أي أنّ صفة المجتمع والحقبة التي سبقت قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلّم كانت تتسم بجهل النّاس وعدم علمهم، وقليل من النظر في الواقع يؤكد أنّ هذا المعنى غير دقيق؛ فالحالة عند العرب وإن كانت متردية علميًا لأسباب كثيرة غير أنّ الحضور العلمي والفكري كان ظاهرًا فالعرب كانت صنعتهم العلمية والفكرية الكلام، وبرزوا بالشعر، وكانت المواسم الثقافية ذات حضور عالٍ مجتمعيًّا وكانت تعقد بشكل دوري، وأسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز وكذا أسواق الرابية والمشقر ودومة الجندل ونطاة خيبر وهجَر كلّها شاهدة على ذلك.

أمّا الجاهلية التي هي مصدر صناعيّ يدلّ ابتداء على الحقبة الزمنيّة التي سبقت النبي صلى الله عليه وسلّم فهي ابتكار إسلاميّ صرف ومصطلح لم تعرفه العرب قبل الإسلام، لكنّها عرفت جذره واستخدمه الشعراء في فخرهم واعتدادهم، وهو يدلّ على كل ما ينافي الحلم من النزق والطيش والعصبيّة الضيّقة، ليتحول المفهوم مع الترسيخ القرآني والنبويّ له للدلالة على حالة فكريّة تعصف بالفرد والمجتمع غير محدود ببيئة زمانيّة أو مكانيّة بل يمكن أن توجد في كلّ وقت وحين.

وقد عبّر ابن الرومي عن مقابلة الجهل للحلم والنزق والطيش إذ يقول:

يُلاقي العِدَا والأولياءَ ابْنُ مَخْلَدٍ

لقاءَ امْرىءٍ في اللّه يَرْضَى ويعْبَدُ

بِجَهْلٍ كجهلِ السيفِ والسيفُ مُنْتَضىً

وحلْمٍ كحلم السيف والسيفُ مُغْمَدُ

وليسَ بِجَهْل الأغبياء ذوِي العَمَى

ولكنَّه جَهْلٌ به اللَّهُ يُعْبَدُ

ولك أن تتأمل مفهوم الجاهليّة من خلال قول عمرو بن كلثوم في معلقته التي كتبت بماء الذهب وعلقت على صدر الكعبة تعبيرًا عن تمجيد المجتمع لها:

أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا

فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا

فالجهل هنا هو العصبيّة القبليّة، وهي الأساس المركزيّ لمفهوم الجاهليّة التي تفرعت منها بقيّة المعاني السلوكيّة والتمظهرات العمليّة، وهذه العصبية هي التي كانت تمثل قانونًا مجتمعيًّا مسيطرًا ومهيمنًا في بيئة تمثل فيها القبيلة الصّنم الفكريّ الذي يدور حوله الأشخاص ويخضعون لسطوة حضوره؛ 
ومن أبلغ التعبيرات عن هذا المعنى قول دريد بن الصّمة:

أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِوى

فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إِلّا ضُحى الغَدِ

فَلَمّا عَصوني كُنتُ مِنهُم وَقَد أَرى

غِوايَتَهُم وَأَنَّني غَيرُ مُهتَدي

وَهَل أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ إِن غَوَت

غَوَيتُ وَإِن تَرشُد غَزيَّةُ أَرشَدِ

فالجاهليّة هي العصبيّة للشخص الاعتباريّ كيانًا كان أو مكانًا، وقد كان الشخص الاعتباريّ الذي يتعصّب له المجموع في مرحلة ما قبل الإسلام هو القبيلة؛ فكانت القبيلة التي يفترض بها أن تكون وسيلة لتحقيق غايات عديدة سياسية واجتماعيّة هي الغاية التي من أجلها تراق النفوس وتبذل الأرواح، وهي المعيار في اتخاذ المواقف من الآخرين معاداة وموالاة.

ولقد تعامل البيان الإلهي مع الجاهليّة بوصفها منهج تفكير ونظام حياة ومظاهر سلوكيّة؛ فذكرها الحقّ تبارك وتعالى في مواضع أربعة من الكتاب العزيز مقيدًا إياها بأربعة أوصاف تعزز هذا الوصف؛ والقيود الأربعة هي: ظنّ الجاهليّة، حكم الجاهليّة، تبرّج الجاهليّة، حميّة الجاهليّة” 

قال تعالى في سورة آل عمران: “ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ”

وقال تعالى في سورة المائدة: “وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ”

وقال تعالى في سورة الأحزاب: “وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا”

وقال تعالى في سورة الفتح: “إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا”

ولعل تفصيل هذه التمظهرات الأربعة يحتاج موضعًا خاصًا يقصر عنه المقام هنا؛ والمهم في ما نود تجليته في حديثنا عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ السّمة العامّة للمجتمع بين يدي ولادة رسول الله صلى الله عليه سلّم كانت العصبيّة القبليّة التي تمثّل أولى السّمات التي تصوغ تفكير الفرد وتوجهاته السلوكيّة، والجاهليّة بمعنى العصبيّة الضيقة للقبيلة والكيان والمكان هي الوثنيّة الفكريّة التي تنتصب أصنامها في رؤوس النّاس، فكان التحدّي الأكبر هو تحطيم هذه الأصنام من الرؤوس والعقول والأفكار قبل تحطيم الأصنام المنصوبة حول الكعبة.

ولقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على تحطيم العصبيّة القبليّة على مدار ثلاث وعشرين سنة كاملة؛ وكان يصفها بأنّها الجاهليّة المنتنة والخبيثة؛ وكان يتدخل تدخلًا سريعًا لوأدى أيّة محاولة لإذكاء هذه الجاهليّة في النفوس؛ ومن ذلك ما رواه ابن إسحاق: “مر شاس بن قيس وكان شيخا يهوديا قد عسا عظيم الكفر، شديد الضّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدّثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابًا من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلّم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيّين على الرّكب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعًا، وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة؛ السّلاح السّلاح، فخرجوا إليها ــ أي يريدون التقاتل وكادت تنشب الحرب ــ فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟!

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس”

ومثل هذا حدث أيضًا في غزوة المريسيع إذ يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية؟! قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار؛ فقال: دعوها فإنها منتنة، دعوها فإنّها خبيثة.

ومن الجدير ذكره أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم هدم العصبيّة القبليّة وحطّم أركانها وقوّض تفاصيلها غير أنّه حافظ على كيان القبيلة فلم يهدمها بل حوّل منهجيّة التعامل معها من الجاهليّة التي تراها غاية بذاتها إلى الرشد الإسلامي الذي يعدّها وسيلة لخدمة الغاية التي هي الإسلام ودعوته ومشروعه الحضاريّ، أي أنّها شخصٌ اعتباريّ يدور حول الفكرة ويخدمها.

والجاهليّة القائمة على العصبيّة للكيان أو المكان تبرز في عصور الانحطاط الفكري والتردي السياسي، ولعلنا نستعرض في المقال القادم ــ بإذن الله تعالى ــ صورًا من العصبيات الجاهليّة التي استبدّت بالمجتمع الإسلامي في عصور تخلفه وتردّيه الحضاري ومنهجيات التعامل معها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق