معصيتي راحتي... بين الدياثة والسياسة
حين تصبح المعصية ملاذاً يُستراح فيه، وملجأً يُقال فيه، فقد انسلخ صاحبها من فطرته السليمة، وعاش حياة المجون والشيطنة، وهجر كلّ ما له علاقة بالخلق القويم، وذاك خيار فئة ليست قليلة من البشر، يجدون في المعصية مستراحاً يحسبونه جنّتهم في الأرض، وتستتبع هذا منظومةٌ كاملةٌ من الأخلاقيات السوداء، التي تبيح لهم طيفاً واسعاً من الأفعال، أدناها استباحة الجسد الذي وهبهم الله إيّاه نظيفاً على الفطرة، وأعلاها استباحة وطن خُلِقَ كي يكون سكناً لهم ولذراريهم، وساحةً للإبداعِ وصناعةِ الحياةِ الطيّبة.
في مستهل "طوفان الأقصى" تعالت أصوات مُنكَرة، بعضها يقول "فلسطين ليست قضيتي"، وذهب هذا القول مثلاً وأسلوبَ حياةٍ، ثمّ ما لبث القول أن تحوّل فلسفةً مُؤدلَجةً ومُحمّلةً بأثقالٍ من الفتاوى الشرعية، التي تؤصّل الانسلاخ عن فلسطين وأهلها، وكلّ شيء شريف ونبيل في هذه الحياة، وطبعاً، لا بدّ من تأصيل شرعي لكلّ ضلالة أو فسق كي يتم إقناع الدهماء بالطريقة المعوجّة لهذه الحياة، فخرجت علينا فتاوى تجرّم المقاومة، وتستبيح المجاهدين، لأنّهم لم "يستشيروا" وليَّ الأمر حين قرَّروا اجتراح الحياة الكريمة، ولم يأخذوا "مباركته" في جهادهم، فالجهاد عند هؤلاء مرسومٌ سلطانيٌّ وتوجيهاتٌ عُليا وتفويض حكومي، وبغير هذا لا يصح "شرعاً".
ورافق هذا كله ولا يزال هرج ومرج إعلامي صاخب، وكُرّست لترويجه قنوات عربية اللسان، يحمل أهلوها أسماءنا، ويتحدّثون لغتنا، وينطقون حروفنا، لكنّها تروّج الهزيمة والاستسلام، وتبيع للناس بضاعةَ العدو الفاسدة، وتزيّن لهم أفاعيله، وتبرّرها، وتفلسفها، وتعطيه حقّاً في إبادة فلسطين وأهلها، لأنّها ببساطة ليست قضيتهم، وراحتهم في معصيتهم.
ولمن لا يعرف، فإنّ وسم "راحتي في معصيتي" هو المكان الذي يستريح فيه أهل الدياثة والسفالة من العرب في منصة إكس، ويبدو أنّ فلسفته استطابها نظراء الدياثة السياسية فجعلوها أيديولوجيا لها كُتّابها ومُنظّروها و"مشايخها"، فهبّوا هبّةَ رجلٍ واحدٍ لتبرير (وتزيين) خذلان أهل "الطوفان"، وشيطنة فرسانه، واستدعاء كلّ من له ثأر مع النظافة والخلق الحسن كي يكون جندياً مقاتلاً في جبهتهم، وبيدقاً في أيدي سادتهم ومموليهم، وخصّصوا لهذا جيشاً من أهل الدياثة سمّوهم "سياسيين" وكُتّاباً ومُحلّلين وباحثين، وكلّ همّهم نصرة العدو، وتبرير جرائمه، وتجريم المقاومة، والإبداع في خُذلانها.
من سوء حظ أهل الدياثة والمستريحين تحت ظلال المعصية أنّ جهودهم ذهبت هباءً منبثّاً
وهنا سؤال: ولمَ هذا كلّه؟ وما الغرض منه؟ وما سبب الرعب من ثبات غزّة، وإبداع حاضنتها الشعبية في الصبر والتعالي على الجراح، وحمد الله وشكره على ما يصيبهم من أهوالٍ لا تحتملها جبال؟ لمَ يسوءُ أهل الدياثة مثل هذا الفعل النظيف المُبدِع؟ ولمَ يفزع منه هؤلاء وكأنّه وباءٌ قاتل؟ لمَ يفرّون من هذا الضوء المبهر الذي أضاء عتمة الأمة، وكأنّه طاعون أسود يهدّدهم بالفناء؟ حتى أنك تحسب القوم حُمراً مُستنفِرة تفرّ من قسورة يوشك على التهامهم، وإفنائهم، والحقيقة أنّهم يخشون على راحتهم التي تجلبها معصيتهم، فهم ألفوا العبودية، واستمرأوا اتّباع الأسياد، والذين منحوهم سلطاناً وجاهاً ونشيداً وطنياً وعلماً وسجادة حمراء، مقابل حراسة الدهماء من أن تصحو، أو تتنفس هواء نظيفاً، ليأتي أصحاب "الطوفان" لتخريب هذا الديكور، وبثّ وعي مسموم، وفق وصفهم في نفوس جمهور ألف العبودية والامتثال لولي أمر، فوقه أولياء أمور يملون عليه ما يجب فعله وما يجب تركه، وتلك هي الطامّة الكبرى، إذ كيف يجرُؤ فتية غزّة على النيْل من سادة هذا العالم ومن وراءهم، من مُحرّكيه وقُوّاده وحالِبيه؟ كيف ارتكبت تلكم الثلّة من الفتية ذلك الخطأ الفاحش، فظنّوا لوهلة أنّ في وسعهم أن يكسروا التابوهات كلّها التي استقرّت في وعي ولا وعي بعض العرب، فجعلتهم يوقنون أنّهم خُلقوا عبيداً، والسيادة لا تليق بهم، ليأتي حفاة الأنفاق ليعيدوا تعريف الرجولة، ويزيلوا الغبار عن قيم ومفاهيم كادت أن تبيد من الوعي الجمعي العربي؟ أليست تلك جريمة يستحق الفتية بسببها أن يُخذلوا بل يُقتّلوا ويُشيطَنوا كي لا يصبحوا قدوة حسنة للقطيع، فلا يمتثلوا للسير وراء المرياع (وهو الكبش الذي يقود الغنم إلى حيث يريد راعيها)، أليست تلك فتنة يُراد منها أن تزرع الشقاق بين الراعي والرعية؟ ألّا يستحق دُعاتها أن تُكرّس لهم منابر وكُتّاب ومُحلّلون ومواقع وذباب إلكتروني ومنصّات ذكاء اصطناعي كي تحاربهم بشراسة وقسوة وتوحّش، لا تقلّ صرامة وعنفاً عمّا يجدونه من قنابل وطائرات ومُسيّرات العدو في الميدان؟
ولعلّ من سوء حظ أهل الدياثة والمستريحين تحت ظلال المعصية أنّ جهودهم، كلّها أو جُلها، ذهبت هباءً منبثّاً أو رماداً اشتدّت به الريح في يوم عاصف، فهم فشلوا حتّى الآن في المسّ بوعي الجمهور العريض، عرباً وعجماً، ولو قيّض لهذا الجمهور أن ينعتق لحظةً من قيود مُستعبِديه (وهو حاصلٌ عاجلاً أم آجلاً)، لأكل أعداءه أكلاً، ولعلّ تلك "اللحظة" آتية لا محالة، فقد تنسّم العبيد شيئاً من رائحة الحرّية، وتاقت نفوس الملايين منهم لتنفّس هواء نقي نظيف، وهم يرون أرواح فتية الأنفاق تتزاحم للصعود إلى ملاذاتها في حواصل طير خضر، فأرواح الشهداءِ في أجوافِ طيرٍ خُضرٍ تسرحُ في الجنَّةِ حيث شاءت، ثمّ تأوي إلى قناديلَ مُعلَّقةٍ تحت العرشِ، كما ورد في الأثر، وتلك مكانة يتوق لها كلّ نظيف عفيف شريف، تخلَّصَ من دياثة أهل السياسة، وراحة أهل المعصية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق