صنوف من العذاب.. في فلسطين وسوريا ومصر
في صباح الأربعاء الموافق 14 أغسطس/ آب من عام 2013، تابع العالم اللقطات الحية والبث المباشر للمذبحة، التي ارتكبها النظام العسكري في مصر بقيادة “عبد الفتاح السيسي”، أثناء فضه للاعتصام السلمي لمعارضي انقلابه، في ميدانَي “رابعة العدوية” و”النهضة”، باستخدام الرصاص الحي والأسلحة الثقيلة والمجنزرات والدبابات، حيث أسقط في عدة ساعات ما بين ألف إلى 3 آلاف قتيل من المعتصمين، وجرح ما يزيد عن 4 آلاف.
وبعد مرور أسبوع واحد بالتمام والكمال، وفي صباح الأربعاء الموافق 21 من أغسطس/ آب من العام نفسه، كانت منطقتنا العربية الموبوءة على موعد جديد مع مذبحة أخرى مروعة، لكنها شديدة الاختلاف.
أتذكر يومها أنني لم أفهم المقاطع المصورة التي تم تداولها، حيث رأيت أطفالا تنتفض أجسادهم بشدة، ويخرج الزبد من أفواههم، ويتحرك كل شيء في أبدانهم سوى أعينهم، وكأنها تجمدت على أشد المناظر رعبا..
رأيت رجالا ونساء يموتون بالاختناق، يغرقون دون ماء، يتجرعون الموت قطرة قطرة، مشاهد مفزعة، لا تتمنى أن يصل إليها خيالك يوما ما، فضلا على أن تراها أو تتابعها.
مئات من القتلى والمصابين، سقطوا في هجوم على غوطة دمشق (العاصمة السورية) في حوالي الساعة الثالثة فجرا، حين أغارت طائرات من سلاح الجو السوري على ضواحي عين ترما، وزملكا، وجوبر ومعضمية الشام، واستهدفتها بعشرات الصواريخ، التي لم تهدم منزلا ولم تسفك دما، لكنها أخرجت لنا أشد الأفلام رعبا على أرض الواقع، وعرَّفتنا طريقة بشعة جديدة للموت لم نكن نعرفها، إنه الموت بالسلاح الكيميائي، باستخدام غاز السارين، أحد غازات الأعصاب الصناعية، وقد بدأ استعماله عام 1938 لقتل الحشرات في ألمانيا.
يحكي أهالي تلك المنطقة أن كثيرا من الضحايا كانوا نائمين في أسرّتهم فلم يقوموا أبدا من نومتهم، ومن كان مستيقظا في تلك الليلة الصيفية الحارة قال إنه سمع أزيز المروحيات والطائرات، ثم صوت ارتطام الصواريخ، لكنه لم يشمّ أبدا رائحة دخان، ولم يسمع صوت تدمير أو حطام، كتلك التي اعتاد عليها عند قصفهم ببراميل المتفجرات، فاعتقد أنها صواريخ سقطت ولم تنفجر، حينها اطمأن وواصل ما كان يفعله، حتى شعر بعدها بدقائق بشلل في عينيه، وآلام الاختناق.
تحظر كافة القوانين الإنسانية الدولية استخدام الأسلحة الكيماوية، بغض النظر عن هدفها، لأن آثار هذه الأسلحة مروعة، وتنتشر على نطاق واسع وبشكل عشوائي، وتسبب معاناة جمة لجميع الكائنات الحية، وتُحدث أضراراً بالغة. وقد شهدت غوطة دمشق أكبر هجوم كيماوي في العصر الحديث، بينما القاتل المُدان مازال طليقا لم تطله أي محاسبة.
ووفقا لتحقيق استقصائي لصحيفة “بي بي سي” البريطانية، هناك أدلة موثَّقة تؤكد استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية في 106 هجوم عسكري منذ عام 2013 وإلى اليوم، رغم أن عددا قليلا فقط من هذه الهجمات تصدَّر عناوين الصحف.
وقد جاء النفي المتكرر من نظام بشار الأسد استخدامَه تلك الأسلحة، واتهامه فصائل المعارضة باستخدامها، إلا أن تقرير بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة أكد أن الأدلة المتوفرة، بما في ذلك الأشرطة المصورة والصور الفوتوغرافية وشهادات شهود العيان، تُظهر أن غالبية تلك الهجمات الكيماوية جرت بواسطة الطيران السوري الحكومي، التابع لنظام “الأسد”.
وقال جوليان تانغيري، الرئيس السابق لبعثة منظمة حظر الأسلحة الكيماوية إلى سوريا: “إن استخدام الأسلحة الكيماوية قد أعطى للنظام السوري بعض النتائج التي رأى أنها تستحق المخاطرة (قتل سريع وبأعداد كبرى، دون ترك آثار أو محاسبة)، ما جعله يواصل استخدامها”.
وقام “توبياس شنايدر” من المعهد العالمي للسياسات العامة- إلى جانب منظمة حظر الأسلحة الكيماوية- بالتحقيق فيما إن كان بوسع المعارضة المسلحة شنّ هجمات كيمياوية جوية، لكنهم لم يجدوا أي دليل على قدرتها على شن مثلها. وقال شنايدر: “إن نظام الأسد هو الطرف الوحيد الذي يستخدم الأسلحة الكيمياوية في هجمات جوية”.
ووصفت “كارين بيرس”، الممثلة الدائمة- حينذاك- لبريطانيا لدى الأمم المتحدة، استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا بأنه “عمل دنيء”، وأضافت: “ليس بسبب آثارها المرعبة فحسب، بل ولأن هذا السلاح محظور منذ ما يقارب الـ 100 عام أيضا”.. ويُعتقد أن الكلور استخدم في 79 من أصل 106 من الهجمات التي أبلغ عنها.
وبحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الصادر في الذكرى السنوية العاشرة لهذا الهجوم، فقد قتل في الغوطة ذلك اليوم 1144 شخصًا، كما أصيب نحو 600 شخص بحالات اختناق وأعراض تنفسية حادة. كذلك سجل التقرير 222 هجومًا كيماويًّا على سوريا منذ أول استخدام موثق في عام 2012 حتى أغسطس/ آب 2023.
وقد ذكر تقرير الأمم المتحدة أن غاز السارين الذي تم تحديده في العينات المأخوذة من هجوم “خان شيخون” عام 2019م، من المرجح أنه تم صنعه من مواد كيميائية كانت ضمن مخزون سوريا الأصلي، وهذا يعني أن الحكومة السورية لم تتخلص- كما زعمت- من كل مخزونها من المواد والأسلحة الكيماوية.
ومجزرة “خان شيخون” هي ثاني أكبر مجزرة كيماوية على سوريا، نفذتها قوات “الأسد”، واستهدفت المدينة التي تسيطر عليها قوات المعارضة السورية في ريف إدلب، ما أدى إلى وقوع 100 قتيل جُلّهم من الأطفال، ونحو 400 مصاب.
وأشارت قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى تورط ما لا يقل عن 387 شخصا من أبرز ضباط الجيش السوري وأجهزة الأمن والمسؤولين، بينما أوصى التقرير مجلس الأمن والأمم المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية وعسكرية على نظام “بشار الأسد”.
إلا أن 16 “فيتو” (حق النقض) استخدمتها روسيا، ومعها حليفتها الصين، منذ الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2011م وحتى اليوم، كانت كفيلة بإبطال كل قرارٍ أممي من شأنه أن يحاسب المجرم الذي قتل أكبر عدد من أبناء شعبه في العصر الحديث، أو يكفل بعض الحماية للأبرياء المدنيين.
ستة عشر “فيتو” كانت كفيلة بإطالة أمد الحرب المتوحشة، وارتفاع عدد الضحايا بشكل غير مسبوق، مع اتساع رقعة الدمار المهول، بل وكان تأثيرها أشد فتكا من جميع الأسلحة الروسية التي تم تجريبها على السوريين، منذ التدخّل العسكري الروسي المباشر في سوريا لدعم الأسد، في نهاية سبتمبر/ أيلول 2015م.
وفي التقرير الذي سبق ذكره لـ (بي بي سي) سألت الصحيفة المفتش السابق لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية “جوليان تانغيري”، عما إن كان المجتمع الدولي قد خذل الشعب السوري في محنته هذه، فأجاب: “نعم، بكل تأكيد”.
كثيرا ما كنت أتأمل أحوال بلادنا العربية المنكوبة، فأبكي على مآسينا، وأتألم لمصائبنا، وأقارن بين مأساتنا في مصر تحت الحكم العسكري الظالم، ومأساة أهل فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، ومأساة أهل سوريا، وما يحدث لهم من فظائع على يد عائلة “أسد”، فأجدني أتخيل عذاب جهنم، وكيف وصفه الله تعالى لنا في قرآنه الكريم، فتنوعت الأوصاف ما بين: “عذاب عظيم” و”عذاب أليم”، و”عذاب مُهين”، و”عذاب مقيم”.
كنت أتخيل عذاب أهل فلسطين، وحرمانهم من أرضهم، وسرقة تاريخهم، وانتهاك حقوقهم، ونضالهم الأسطوري ضد عدو باطش، لم يترك عقابا ولا جريمة عرفها البشر إلا وارتكبها بحقهم، ولم يترك حقا مما منحهم الله إلا وسلبهم إياه.. فأراه عذابا عظيما، لم تشهد الأمة مثله، جُرحا نازفا لأكثر من سبعة عقود، حتى إن الدماء التي سالت منه لتملأ البحار والأنهار.
بينما مأساة أهل سوريا، وعذاباتهم المخيفة، من قمع أمني رهيب، ومجازر مرعبة، وصنوف من القتل يصعب على أي عقل بشري استيعابها، هي عذاب أليم، جرح غائر يُفزِعك مجرد النظر إليه، وأوجاعه ليست كأية أوجاع، إنها آلام قاتلة، شبيهة بآلام الموت حرقا، والتي يقال إن الموت فيها يحدث نتيجة إصابة العقل بصدمة عصبية، فيتوقف عن العمل!
أما عذابنا نحن في مصر، مع عصابة من (عسكر صهاينة)، خُتمت بأسوأ العساكر عبر التاريخ، وأشدهم دموية على الإطلاق، السيسي (ابن حارة اليهود) الذي يتفنن في إذلالنا، ودهس كرامتنا، وتنغيص عيشتنا، وحرماننا من أبسط حقوقنا وحرياتنا.. وبرنامجه الانتخابي قائم على تخريب بلادنا، وتقزيم دورها، والتحقير من شأنها، بينما خططه في الحكم تسعى إلى تركيع المصريين، وطمس تاريخهم، وتشويه حاضرهم، مع قتل أي أمل لهم في المستقبل، فلا أجد لهذا وصفا إلا أنه عذاب مُهين.
ومع هذا، يبقى الأمل خلف هذا الواقع التعيس أن تلك العذابات المريرة حالها كحال الدنيا.. إلى زوال، وحتما ستنتهي يومًا ما، ولا عذاب مُقيم سوى ما ينتظره القتلة والمجرمون في الآخرة، وغدا بإذن الله يُشرق الفجر المنير، ليمسح عنا الآلام والأحزان، وتعود بلادنا لأهلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق