الوساطة الأميركية: دروسٌ في الوقاحة
وائل قنديل
في الزيارة التاسعة لوزير خارجية واشنطن، الصهيوني أنتوني بلينكن، إلى الكيانِ الصهيوني، وكما في الزياراتِ الثماني السابقة عليها، استعادَ نتنياهو كامل مفردات الوقاحة والازدراء لشركاء الولايات المتحدة في المفاوضات الخادعة، فعاد يُشهر لاءاته في وجهِ الكلِّ: لا وقف للعدوان على غزّة... لا انسحاب من محوري فيلادلفيا (في الحدود المصرية الفلسطينية المشتركة) ونتساريم الذي احتلته إسرائيل داخل قطاع غزّة وفصلت به شمال القطاع عن جنوبه... لا تراجع عن القضاء على المقاومة وفرض إدارة تختارها تل أبيب لشؤون غزّة المدمّرة.
باختصارٍ شديدٍ، يقول نتنياهو للوسطاء العرب إنّ المسموح لهم به فقط هو حصار المقاومة دبلوماسيًاً واقتصاديًاً، وممارسة الضغط الشديد عليها حتى تأتيه راكعة.
على أنّ ذلك كله ليس موقف نتنياهو وحده، بل يشاركه إياه وزير الخارجية الأميركي الذي خلع زيّ الوسيط، وارتدى لبس المحارب الصهيوني لمجرّد وصوله إلى تل أبيب، وعاد يتهم حركة حماس بأنّها المسؤولة، وحدها، عن عدم التوصّل إلى اتفاقٍ لوقف القتال واستعادةِ الأسرى وإدخال المساعدات، إلى آخر هذه الحزمة من الأكاذيب التي لم تتوقف الإدارة الأميركية عن اجترارها منذ بدء العدوان الإسرائيلي.
الشاهد أنّ الراعي الأميركي الشرير يجلس مع الوسيط العربي، فيحاولُ أن يسلك بوصفه كبير الوسطاء، فيظهر وجهًا إنسانيًاً اصطناعيًاً، فيردّد كلامًا يبدو في ظاهره إنسانيًاً، للإيهام بأنّ ثمّة فرصة حقيقيّة للتوصّل إلى صفقة، بينما كلّ المستهدف مضغ الوقت إلى أطول مدى ممكن للتغطية على جرائم ضدَّ الإنسانيّة ترتكبها إسرائيل بدعمه، وبسلاحه، وتحت رعايته، ثم حين ينتقل إلى تل أبيب يزيل القناع فتظهر مخالبه ويردّد الخطاب الصهيوني بوقاحةٍ تفوق نتنياهو واليمين المتطرّف.
في الأسبوع الثاني من يونيو/ حزيران الماضي، قال وزير الخارجية الأميركي، في حوارٍ مع قناة الجزيرة، إنّه لن يسمح ل"حماس" بتقرير مصير هذه المنطقة ومستقبلها، وأنّه سيطرح أفكاراً لكيفيّة الحكم في غزّة بعد انتهاء الحرب. وكما قلت وقتها، فإنّ هذا الخطاب بعيدٌ عن كونه يضع صاحبه في مرتبةِ سفيرٍ متعصّبٍ للكيان الصهيوني، ومُهين لما يُسمّى النظام الرسمي كلّه، والذي لا يرى فيه هذا الصهيوني المهووس سوى موظفين ينفذون الرؤى والتعليمات الأميركية لتنفيذ تصوّراتها لوضع المنطقة.
المشكلة أنّ النظام الرسمي العربي لا يحاول بأيّ شكلٍ التمرّد على هذه المكانة المُهينة، بل يبدو في مواقف كثيرة راضياً جدًاً بهذه الوظيفة، كما جرى مع زيارة بلينكن القاهرة، أمس، ولقائه وزير الخارجية المصري الذي نشر هذا النص على صفحة الوزارة الرسمية: "وقد حرص الدكتور عبد العاطي على إحاطة نظيره الأميركي بنتائج الاتصالات والزيارات التي قام بها مؤخّراً لاحتواء التصعيد الإقليمي، والتحذير من مخاطره المحدقة، ليس فقط على دول المنطقة، ولكن أيضاً على مصالح أطراف دولية عديدة".
هذه الصياغة مُهينة للدولة المصريّة ودبلوماسيتها، إذ لا يليق أبدًا أن تقوم هذه الدبلوماسية بدور ساعي البريد أو حامل رسائل الوعيد الأميركية إلى الأطرافِ الفاعلة في المنطقة، إذ تأتي هذه التصريحات بعد عودة وزير الخارجية المصري من بيروت، حيث التقى القيادات السياسيّة اللبنانيّة، وبعد مباحثاته الهاتفية مع وزير خارجيّة إيران، بالتزامن مع انعقادِ مفاوضات التهدئة في الدوحة، بحضور أطراف الوساطة الثلاثية (أميركا ومصر وقطر) مع القيادات الأمنيّة الإسرائيليّة، وهي المفاوضات التي انتقلت إلى القاهرة فيما بعد، ثم أعلن الجانب الإسرائيلي موتها عقب زيارة بلينكن تل أبيب مباشرة.
والحال كذلك، يبدو غير مفهوم على الإطلاق رهان المفاوض العربي على وساطة أميركية توقف إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، في ظلِّ هذا الانكشاف الكامل للدور الأميركي الصريح والمباشر في العدوان الإسرائيلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق