أحوال العالم بين يدي ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهل عالمنا بحاجة إلى ولادته؟
محمد خير موسى
كانت الأرض غارقةً في لججٍ من الظّلمة بعضها فوق بعض، وكانت تتوق إلى النّور الذي ينتشلها من قاع التردّي والتّيه ويهديها سواء السبيل.
عالمٌ ثنائيّ القطب والعرب حدائق خلفيّة لصراعاته
في السّنوات التي سبقت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان العالم ثنائيّ القطب، كان الفرس والرّوم قطبَي العالم وقوتَيه العُظمَيَين، وكان الصّراع العسكريّ بينهما مستمرًا فهذا ما تفرضه قوانين التّدافع بين القوى العظمى، وكان الأحباش قوّةً أقلّ تأثيرًا وامتدادًا لكنّها كانت ذات حضورٍ وامتداد في جزيرة العرب؛ في اليمن على وجه التحديد.
ومن الطبيعيّ أن تختار القوى العظمى حدائق خلفيّةً تصفّي فيها حساباتها مع بعضها، وتمارس فيما بينها هواية الضّرب تحت الحزام، فاحتلّ الفرس أرض العراق بينما احتلّ الرّوم أرض الشّام، وغدت العراق والشّام حدائق خلفيّةً للصّراع الفارسيّ الرّومانيّ.
كان الفرس والرّوم يتقاتلون لكن بدماء أبناء العراق والشّام، ويصفّون حساباتهم فيما بينهم بأجساد وأرواح العرب وعلى أرض العرب التي كانت حلبةَ صراعٍ يموت فيه أبناء الشّام والعراق لأجل حروبٍ لا ناقةَ لهم فيه ولا جمل.
امبراطوريّة الرّوم بين التفوّق العسكريّ والانحدار الحضاريّ
كانت الامبراطوريّة الرّومانيّة في الفترة التي سبقت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم تعيش حالةً من الجموح العسكريّ، والغطرسة والرّوح الاستعماريّة، والتفوّق في مجالات صناعة السّلاح.
وكذلك كانت تتسم بالتفوّق في كتابة الدّساتير والمدونات السّياسيّة والعسكريّة، وبلغت ذروتها في إصدار “مدونة جستنيان” التي أصدرها “فلافيوس جستنيانوس” أشهر أباطرة الروم البيزنطيين “توفي: 565م”، وكانت هذه المدونة تحتوي على القوانين السياسيّة والإداريّة، والقوانين المتعلّقة بالسّلاح والمعارك، وقد كرّست السّلطة الاستبداديّة المطلقة للإمبراطور، وقد قال في مقدمتها:
“كيما تحكم الدولة حكمًا صالحًا في وقت السّلم وفي وقت الحرب، لا يجد صاحب الجلالة الامبراطورية بدًّا من الاعتماد على ركنين: الأسلحة والقوانين”
هذا التفوّق الاستعماريّ الواقعيّ والتّنظيريّ للسّياسة والحرب، والتفوّق في تقنية صناعة السّلاح رافقه انحدارٌ قيميّ حضاريّ، فكانت أوروبّا غارقةً في ظلمة الانحلال الفكريّ والسّلوكيّ، ففي تلك الفترة نفسها التي صدرت فيها “مدونة جستنيان” عقد في روما مؤتمر قمّة فكريّ دينيّ؛ اجتمع فيه رجال الكنيسة على مدار أيّام لمناقشة قضيّة خطيرةٍ آنذاك وهي” البحثُ في ماهيّة المرأة” هل هي كائنٌ بشريّ أم كائنٌ حيوانيّ، وبعد جدال طويل استمرّ لأيّام خرجوا بنتيجةٍ تقول إنّ المرأةَ كائنٌ ثالث؛ فلا هي ترقى إلى مرتبة الإنسان وفي الوقت نفسه ليست من صنف البهائم، وبناءً عليه قرّر المؤتمرون أنّ المرأة بلا نفسٍ أو خلود، وأنّها لن ترث الحياة الآخرة، وأنها رجسٌ، ويجب ألّا تأكل اللّحم، وألّا تضحك، وألّا تتكلّم، وعليها أن تمضي جميع أوقاتها في الخدمة والطّاعة.
وهذا نموذجٌ واحدٌ على سبيل التّمثيل لا الحصر يدلّل على أنّ التفوّق العسكريّ والصّناعيّ الذي كانت تعيشه أوروبّا آنذاك كان مقترنًا بانحدارٍ حضاريّ مريع، وعندما يمتزج الجموح العسكريّ مع التردي الحضاريّ فنحن أمام ظلمةٍ حالكة.
امبراطوريّة الفُرس.. شهابُ الدّين أضربُ من أخيه
أمّا الفرس في الفترة التي سبقت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانوا كالرّوم؛ يعيشون حالةً من الجموح العسكريّ والطّغيان الاحتلاليّ والتّمدّد الاستعماريّ والتّفوق في صناعات الحروب، غير أنّ هذا كان مترافقًا أيضًا مع حالةٍ من الانحلال الأخلاقيّ والانحدار الحضاريّ.
كانت “الزرادشتيّة” هي الفلسفة الدّينيّة التي انتشرت في فارس واعتنقها أرباب السلطة في الامبراطوريّة، وكانت الزرادشتيّة تنادي بتفضيل زواج المحارم، وأنّ من الفضائل أن يتزوّج الرّجل بأمّه أو بأخته أو بابنته، حتّى إنّ يزدجر الثّاني الذي ملك زمام الحكم في أواسط القرن الخامس الميلادي كان متزوجًا بابنته، ولم يكن ذلك يثير أيّ استهجانٍ أو حتّى استغراب في ذلك الواقع التي تشوهت فيه الفطرة وانتكست.
كما يذكر الإمام الشهرستاني في كتابه “الملل والنّحل” أنّ تلك الفترة أيضًا كانت فترة امتداد للفلسفة الدّينيّة “المزدكيّة” التي تقوم على فكرة أنّ جميع النّساء حِلٌّ لجميع الرّجال كالماء والكلأ والنّار.
لقد كانت الامبراطوريّة الفارسيّة غارقةٌ هي الأخرى في ظلمةِ التردّي الذي يمثّله التفوّق الحربيّ والتخلّف الحضاريّ.
الحاجة إلى ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
إنّ العالم الذي كان يعيشٌ حالةً من التصارع العسكريّ والحروب المشتعلة بين القوى العظمى، وما كانت تعيشه تلك القوى من اتخاذ بلاد الشّام والعراق حدائق خلفيّةً لصراعاتها، وما كانت تتسم به تفوق صناعيّ وجموح استعماريّ مقترن بالتردي الحضاري؛ قد جعل العالم آنذاك في ظلمة، وكان محتاجًا إلى ولادة النّور؛ ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليخرج البشريّة من العمى الفكريّ والعَمَهِ الحضاريّ ويأخذ بيدها إلى منابع الحقّ الصّافي والرشد والعدل والحريّة والكرامة.
واليوم يكفيك وأنت تقرأ أحوال العالم قبيل ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تستشعرَ أنّنا نتحدّث عن واقع اليوم؛ واقعنا المعاصر الذي تملؤه رائحة دماء المظلومين، وتملأ الحروب أرضه وجنباته، وقد اتخذت القوى العظمى بلادنا لا سيما العراق والشام حدائق خلفيّة لصراعاتها العسكريّة فهم يقاتلون بعضهم حتّى آخر رجلٍ منّا نحن لا منهم هم.
ويقترن هذا التقدم التقني الهائل، والتفوق في صناعة الأسلحة وصناعة الوسائل التقنيّة مع حالة من التردّي الحضاري، فنحن نعيش حالةً غير مسبوقة من عولمة الشّذوذ السلوكيّ والأخلاقيّ في العالم كلّه، ورغم كلّ شعارات تحرير الإنسان فإنّ أرخص موجود في عالم اليوم هو الإنسان، ورغم كلّ دعوات تحرير المرأة فإنّ حالة الاستعباد الحقيقيّ للمرأة بلغت في هذا العصر ما لم تبلغه في عصور سابقة.
ولئن كان العالم بالأمس في حاجةٍ إلى ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فإنّ عالم اليوم أشدّ حاجةً إليها، ولكنّ الولادة اليوم لن تكون من رحم آمنة بنت وهب بل يجب أن تكون من قلوب وعقول المسلمين وبأيديهم وجهودهم؛ فإن لم يولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عالم اليوم فالمسلمون هم المسؤولون عن تأخر هذه الولادة أو إفشالها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق