الفراعنة لا ينقرضون
الأصل في الإنسان، وبحكم فطرته التي فطره الله عليها، أنه محب للخير، سواء لنفسه أو لغيره، لكنه في النهاية هو نتاج بيئته أو أنه يتأثر بالظروف المحيطة، فإما أن يكون خيّرا نافعا أو شرا مستطيرا.
فالإنسان، أي إنسان منا، لديه القابلية للخير أو للشر بحسب مجموعة قناعات ومفاهيم تكون قد تكونت لديه كنتاج خبرات حياتية في البيئة التي يكون قد نشأ فيها، والشجرة الطيبة، ثمارها طيبة، والعكس صحيح دون أدنى ريب.
المجرم لا يتحول إلى مجرم إلا إن عاش وسط بيئة من المجرمين، اللص أو الحرامي لن يكون كذلك إلا إذا عاش في بيئة من اللصوص والحرامية، والفرعون لا يكون فرعونا إلا إذا وجد البيئة المناسبة للتفرعن.
الفرعون الذي كان يحكم مصر زمن النبي موسى - عليه السلام - حكى القرآن قصصا عديدة عنه في مواضع كثيرة، فلقد كان ذاك الفرعون نموذجا فريدا من البشر لم يكن قد ظهر قبله أحد بالعقلية التي كان عليها، وإن كان من بعده ظهر كثيرون.
ذاك الفرعون لم يكن سوى ممثل بارع، أتقن الأدوار التي رسمها له وزيره هامان، وبعض آخر من بطانته السيئة، أصحاب المصالح والمنافع والمكاسب، الذين هالهم أن يخرج فتى فقير من بني إسرائيل يواجه زعيمهم الذي يتكسبون وينتفعون من وجوده، يحاول أن يوضح للناس بعض خفايا وأسرار التمثيليات التي كان يقوم بها فرعون وزبانيته.
لقد كان الذي يحدث من فرعون تجاه شعبه يمكن أن نطلق عليه بلغتنا المعاصرة (استهبال الناس) أو استخفاف عميق بعقولهم، عبر تمثيل بارع لأدوار متقنة منه وزبانيته، من بعد توجيه مصادر المعلومات التي تقع تحت سيطرتهم لتتحدث وتنطق بنفس العلم والحديث، حتى يعيش الناس ضمن إطار واحد من المعلومات، لا يرون ولا يسمعون غيرها من معلومات، كي تسهل على فرعون عملية الاستخفاف بالناس، من أجل أن تثمر بعد ذلك على شكل طاعة شبه عمياء له.
"فاستخف قومه فأطاعوه"
إن استخفاف الطغاة بالجماهير، كما يقول سيد قطب في ظلاله: "أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين".
متى يتفرعن الإنسان؟
تقول معاجم اللغة: يتفرعن المرء إذا تمكن وتجبّر، فيصير فرعونا، والفرعون من بعد ذلك صار لقبا يطلق على كل متكبر جبار عات، وما انتشر اللقب إلا من بعد أن جاء ذكر فرعون في القرآن، وقصص جبروته وظلمه وتكبره على الناس، حتى أتاه اليقين وهو يصارع الماء.
قد نقرأ كثيرا في سيرة هذا الشخص، سواء في القرآن أو كتب التاريخ، وربما يستغرب البعض للطريقة التي كان يعامل فرعون بها الناس، ولماذا اختار طريقته تلك في إدارة البلاد والعباد، حيث القهر والتجبر، وصولا إلى الزعم أو الرغبة في أن ينظر الناس إليه على أنه إله أو ربهم الأعلى، وليس ملكا أو حاكما فقط.
بالنظر إلى نفسية فرعون وهو يدّعي الربوبية، فربما تفسيره أن مسا من الجنون أو لوثة عقلية أصابته، فدعته إلى الزعم والادعاء أنه رب مستحق لأن يعبده الناس، من بعد أن رأى مملكته الواسعة العامرة بالخيرات مستمرة في التوسع، وقدرته على التحكم والتصرف في مياه نهر النيل بطريقة أذهلت الجميع، ومن بعد أن رأى الجميع يأتمر بأمره أيضا، حتى وصلت به القناعات لادعاء الربوبية، وقام (ونادى فرعونُ في قوْمه قال يا قوم أليس لي مُلكُ مصر وهذه الأنهارُ تجري من تحتي أفلا تبصرون).
كلنا يحمل بذرة فرعونية
أي إنسان منا عنده القابلية لأن يكون فرعونا بدرجة وأخرى، أو يحمل بذرة أو جينة فرعونية تنتظر التنشيط أو التفعيل، لأن ما يدعو الإنسان لسلوك هذا المسلك والتصرف بالطريقة التي كان عليها فرعون، إنما بسبب عوامل عدة لو توافرت لديه، فإنه قاب قوسين أو أدنى من أن يكون فرعونا، وإن لم يصل إلى حد ادعاء الربوبية، ومن تلك العوامل، وفرة المال واستمرارها.
إن الوفرة المستمرة للمال كعامل أول، ينتج عنها بالضرورة انتزاع صلاحيات واسعة، تساعده في ذلك بطانة سوء مستفيدة متكسبة، تزين له الأمور والحاجيات، تلك البطانة يمكن اعتبارها عاملا ثانيا. ثم يأتي العامل h
عوامل ثلاثة، لو اجتمعت في شخص ما، فهو على وشك أن يكون مشروع فرعون جديد - إن صح التعبير - سواء كان على شكل زعيم سياسي، أو قائد عسكري أو رئيس إداري، أو وزير محلي أو مدير مالي أو غيرهم، وصولا إلى أصغر المجتمعات وهو البيت، ليكون الفرعون هاهنا على شكل أب أو أم وأحيانا على شكل أخ أكبر.
من هنا، كخلاصة للموضوع، أدعو لأن يتنبه كل إنسان منا إلى نفسه، خاصة إن اجتمعت عنده العوامل الثلاثة المذكورة وبدأت تتعمق عنده، لأنه حينها في خطر عظيم على نفسه قبل غيره، دون الدخول في مزيد شروحات وتفصيلات. عافانا الله وإياكم من داء الفرعنة وما يؤدي إليه من قول أو عمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق