سؤال مغربي بين الأدب وعلم الاجتماع
محمد الشرقاوي
هم ثلاثةٌ رحلوا في صمت بعدما نحتوا من ذواتهم أدب الواقعية بلمسات مغربية قحّة في مجال الرواية والقصة، وجسّدت أعمالهم إبداعا تلقائيا يتجرّد من التكلّف أو درء العفة أو التجاهل في سرد ما لا نريد أن نركز عليه من تجليات الحرمان والمعاناة في المجتمع السفلي أو مغرب الباطن.
فغدا محمد زفزاف ومحمد شكري وإدريس الخوري "صعاليك" هذا العصر، أو كُتّاب "الهامش" في نظر البعض. لكنهم صوّروا المغرب العميق، فاستحقوا أن يُعدُّوا كتاب الحميمية المجتمعية بلغة الأعماق وما يختلج صدور البسطاء.
إذا اعتمدنا اللغة المعاصرة لدى اليسار في الغرب، يكون هؤلاء الثلاثة من كتاب أدب الگيتو Ghetto الذي نشأ بين مجتمعات الشتات في مدن معينة مثل لندن وشيكاغو ونيويورك. ويمكن التأريخ لهذا الصنف الأدبي من أعمال الكاتب البريطاني إسرائيل زانغويل {1864 ـ 1926} والذي عارض البحث عن وطن لليهود في فلسطين بعدما كان كاتبا طليعيا في حركة الصهيونية الثقافية خلال القرن التاسع عشر.
وكان زانغويل أوّل من أشاع مصطلح "ghetto" في اللغة الإنجليزية بعدما أصدر روايته الشهيرة Children of the Ghetto: A Study of a Peculiar People "أطفال الگيتو: دراسة شعب غريب" عام 1892. ويصفها باتريك بارندر الأستاذ في جامعة ريدنج بأنها "أوّل رواية كشفت الفوارق العرقية في بريطانيا".
أستحضرُ عالم الگيتو هنا للإشارة إلى عوالم گيتو مغربية متفرقة عايشها هؤلاء الثلاثة أكثر من غيرهم. فكانوا روّاد الواقعية في الكتابة الأدبية، واستقوا منها العزم على تشريح تراتبية المجتمع في أحياء طنجة السفلى لدى محمد شكري خصوصا في "الخبز الحافي"، أو أوضاع سكان الكريان في الدر البيضاء عبر كتابات محمد زفزاف بداية بمجموعاته القصصية "حوار في ليل متأخر" (1970)، وروايته الأولى "المرأة والوردة" (1972)، ونهاية بمجموعة "العربة" ورواية "الثعلب الذي يظهر ويختفي" (1993)، أو ضمن تجليات الثقافة الشعبية وروح المقاهي المكتظّة الصّاخبة، وقصة "خديجة البيضاوية" وبقية الفتيات المنهكات في المصانع في الدار البيضاء في أعمال إدريس الخوري، وهو ينشر لقرابة أربعين عاما: "حزن في الرأس والقلب" (1973)، و"ظلال" (1977)، و"البدايات" (1980)، و"الأيام والليالي" (1980)، و"مدينة التراب" (1988)، و"فضاءات، دار الكلام" (1989)، و"يوسف في بطن أمه" (1994)، و"بيت النعاس" (2008)، و"فم مزدوج" (2009). فتأتي أمانة النقل والتصوير صادقة بتفاصيل المحنة والمعاناة لدى فرسان هذه الواقعية المغربية الفجّة بلا مساحيق ولا هروب من الواقع أو جنوح إلى الخيال أو مجاراة خط الرومانسية.
ثمة سؤالٌ موازِ من هم "الصعاليك" الحقيقيون اليوم؟ ومن سيتحدث عن هموم أهل الكاريانات والگيتوات وخديجات البيضاويات الأخريات المنسيات بعد الترحّم على أرواح الخوري وشكري وزفزاف؟
يقول الخوري: "أنا رجلٌ أحبّ الحياة وأكره الانعزالية. أحبّ الفضاءات المفتوحة كالمقاهي والحانات، فهي عبارة عن مجتمعات مصغرة تلتقط فيها تناقضات الناس وأقنعتهم، أفراحهم وأحزانهم. لذلك فضّلت الكتابة عن الهامش مكسرا التابوهات التي تخنق مجتمعاتنا العربية، فيصير كتابها انعزاليين". وعند التفضيل بين كتاباته المنشورة يقول إنه "يصعب على الأب أن يفرّق بين أبنائه، كما تعلم. ومع ذلك إذا أردت أن أفضّل بعضا من أبنائي فسأختار مجموعتي "الأيام والليالي" و"مدينة التراب"".
يكمن جوهر الأدب في سياقنا المغربي، كما يقول الكاتب الروائي أحمد المديني، في "تخطّي العقبات التي تعرقل طريق تطوّر حقيقي، يسمح، من جهة، بالعبور من كتابة "أدبية" مشروطة بالالتزام الاجتماعي نحو تعبير هو صاحب الكلمة والأدوات في تشخيص الالتزام. ويجعل من الممكن، من جهة أخرى، وجود فضاء حقيقي للإبداع يهيمن فيه هذا الأخير ويستثمر ضمنه مختلف وجوه الحداثة الأدبية. وربّ سائل عما إذا كانت هذه الأهداف قـد تحققت وهو ما لا نملك الجواب عنه بالقطع، فمسلسل التحول متواصل ويحتاج إلى سند الإنتاج الكافي والمنتظم؛ كما يتسم الإنتاج نفسه أو يتبـدى كحقل للتداخل والتعايش القسري بين اختيارات عدة للكتابات والخطابات الأدبية."
لا تكمن أهمية كتابات زفزاف وشكري والخوري في منحاها الأدبي فحسب، بل وتظل أيضا سرديات يدلي بها شهود عيان عن حقبة بحث المغرب عن ذاته، وما يعتري تآكل رأس المال السياسي بين الدولة والمجتمع ووعود الحداثة وخطط التنمية خلال خمسة عقود امتدت بين قرن وآخر. فهناك القيمة السوسيولوجية التي تزداد قيمتها مع مرور السنوات لأنهم جسّدوا طرحا يتحدى البنيوية وهيمنة بعض المرجعيات وما ينزع إلى أن يصبح توابث دائمة.
ثمة سؤالٌ موازِ: من هم "الصعاليك" الحقيقيون اليوم؟ ومن سيتحدث عن هموم أهل الكاريانات والگيتوات وخديجات البيضاويات الأخريات المنسيات بعد الترحّم على أرواح الخوري وشكري وزفزاف؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق