المشخصاتي الأكبر: هناك مستقبل في إسرائيل
في المشهد السينمائي الذي احتفل به الصهاينة، وأمطروا عبد الفتاح السيسي بوابل من صيحات الإعجاب عليه، قدّم الجنرال أداء يستحق عليه لقب "المشخصاتي الأكبر" وهو يتوجه على طريقة أبطال الدراما العاطفية الفاقعة، لينحني أمام وزيرة الطاقة الصهيونية الجالسة فوق كرسي متحرّك، كارين الحرار، تتابعة الكاميرات وتعنون الصحف والمواقع المصرية عن اللفتة الإنسانية للرئيس الإنسان وهو يكسر البروتوكول وينحني لواحدةٍ من أصحاب الهمم، من دون أن يشير أحد إلى أنها الوزيرة الصهيونية التي تحدّت الجميع، في المؤتمر المنعقد في القاهرة، وأكدت أن الغاز الذي سيصل إلى لبنان من مصر والأردن سيكون إسرائيليًا.
الرئيس الإنسان الذي كسر البروتوكول للحصول على لقطة عاطفية تلمس القلوب (بتعبير الصهاينة)، مطأطئًا رأسه لوزيرة إسرائيلية مقعدة، هو ذاته الرئيس الإنسان الذي يكسر عظام السجينات ويحطم إنسانية السيدات المعتقلات في سجونه، لا يفرّق بين سيدة في الستين وفتاة في العشرينات.
هذه الإنسانية الطافحة لا تظهر إلا للتصدير خارج مصر، وفي حالاتٍ مؤثرةٍ ذات عوائد ربحية في بنوك الصورة الذهنية بالخارج، مثل حالة الوزيرة الإسرائيلية ذات الأصول المغربية، بحسب مواقع تتحدّث باسم يهود المغرب، هي واحدة من بين ثلاث وزيرات مهاجرات من المغرب ضمن تشكيلة حكومة اليمين الصهيوني المتطرّف بزعامة نفتالي بينت، وهي قيادية بارزة في حزب "هناك مستقبل" الصهيوني الذي يتزعمه وزير خارجية الاحتلال، يائير لبيد، الذي ستؤول إليه رئاسة الحكومة بالتناوب، وصاحب التصريح الأوضح "لن تكون هناك مفاوضات مع الفلسطينيين حتى حين أستلم رئاسة الوزراء".
تبدو المسافة اللفظية قريبة للغاية بين "هناك مستقبل" الإسرائيلي و"مستقبل وطن" المصري، وهو الحزب الذي يمكن أن تسميه حزب ابن الزعيم، رجل المخابرات الذي زار إسرائيل، أخيرا، ويطرح اسمه علامة على العودة إلى فكرة توريث الحكم، على طريقة حسني مبارك وابنه.
لا يمكن لعاقلٍ أن ينظر إلى مشهد الانحناء أمام الوزيرة الصهيونية على أنه عفوي وتلقائي وابن لحظته، فالاحتفالات الصاخبة التي اندلعت في الميديا الصهيونية، احتفالًا بأمير القلوب الإسرائيلي، تضعك أمام مهرجان تسويقي للجنرال في الدوائر الأوروبية، قبيل سفره إلى بروكسل لحضور لقاء أوروبي أفريقي على مستوى الاتحادات.
هي الميديا ذاتها التي هيّأت الرئيس الأسبق، أنور السادات، للحصول على جائزة نوبل للسلام بعد أن خاصم كل شيء وكل انتماء قومي وحضاري ليفوز برضا المحتل الإسرائيلي .. وهكذا تستنسخ الصور واللقطات التي يحبها الصهاينة، من الرئيس المؤمن، وهمًا وسذاجًة، بأن مصلحته وأمانه الشخصي ومستقبله في الحكم تضمنهما علاقته الدافئة بإسرائيل، إلى الجنرال المؤمن بإسرائيل على نحو مبدئي وبراغماتي في الوقت ذاته، بحيث يستقر في عقيدته أنه مع إسرائيل، وبآلية الانحناء لها هناك مستقبل له وللوريث من بعده، ما دام مواظبًا ووفيًا لنصوص كل هذا العار الذي زرعه أنور السادات، وحصده وتكسّب منه الذين جاءوا من بعده.
السيسي، كما السادات، يشعرك طوال الوقت أنه يمثل شخصية الحاكم، أكثر مما يمارس الحكم بالفعل، إذ يبدو مولعًا بالكاميرا، مشغولًا بالحركة والأداء أمامها، باحثًا عن اللقطة المبهرة، والإطلالة المثيرة، بمقاييس مهاويس "السوشيال ميديا" الذين يقتاتون على أعداد المتابعين وعدّاد الإعجاب وإعادة النشر والتفاعل.
صورة السيسي تجدها مصاحبةً كل خبر ينشر في الصحف الورقية والمواقع الرقمية، سواء كان للخبر علاقة مباشرة أو غير مباشرة به أم لا، فإصدار قانون جديد أو تعديل قديم يتعلق بالمرور أو التعليم أو حتى تنظيم الأسرة لابد أن ينشر مصحوبًا بصورة الزعيم، إلى الحد الذي تتخيّل معه أن الرجل في حالة دعاية وإعلان عن نفسه كل لحظة، وكأنه يتهيّأ لخوض انتخاباتٍ غدًا، وكل غد.
الأكثر مسخرةً أن كل مؤتمر أو ملتقى ينعقد في مصر لبحث أمرٍ ما، في الاقتصاد أو السياحة أو الطب، يتحوّل فورًا إلى مناسبة لتسويق الجنرال إعلاميًا وسياسيًا، سواء عن طريق حضوره بشخصه حيث يختطف الكاميرا والميكروفون، ويتحدّث بعيدًا عن موضوع الملتقى، أو عن طريق كلمات المتحدّثين من رجاله، الذين يرجعون كل الأشياء إلى أصل واحد، هو الزعيم عبد الفتاح السيسي.
في معرض دولي للبترول انعقد في مصر أخيرا، انتزع السيسي الميكروفون ليقول للحضور إنه أنفق أكثر من 400 مليار دولار للوصول إلى حالة رضا المواطن المصري، الذي لم يكن مستعدًا للتجاوب، لكنه عندما عرف حجم النتائج والآثار تحمل آثارًا اقتصادية صعبة .. قبل أن يفتي في شؤون كورونا ونهاية العالم.
تشي صورة السيسي والوزيرة الصهيونية بأنه يستشعر قلقًا، خارجيًا وداخليًا، على مكانته لدى إسرائيل، وخصوصًا بعد أن بدت كفة مطبّعين جدد أرجح، بالنظر إلى ما يقدّمونه من عروض لا تقبل المنافسة في سوق التطبيع، كما هو الحال مع أبو ظبي التي تبدو مصمّمة على انتزاع توكيل التطبيع من الجميع، ناهيك عن الإلحاح التركي غير المسبوق من أجل الحصول على علاقة تطبيعٍ كاملة مع الاحتلال الصهيوني، والسعي إلى ذلك عبر كل الطرق، بما فيها طريق أبوظبي، إلى الحد الذي يثير انزعاج الدوائر الصهيونية من هذه الهرولة التركية، ويدفعها إلى التحذير من الاستجابة الكاملة لرغبة أنقرة، ويطالب بالتمهل والتروّي أمامها، والتعاطي معها بحسابات دقيقة.
كل هذه العناصر لا يمكن تجاهلها وأنت ترى إصرار السيسي على أن يسبق الجميع بخطوة على الطريق إلى تل أبيب، ولا تنسى أنك، في النهاية، بصدد شخصية درامية مصنوعة في ورش السيناريو الصهيونية، وتتحرّك وفقًا لحساباتها الدقيقة، في الإخراج والتصوير وتوقيتات العرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق