الاثنين، 28 فبراير 2022

آخر الناجين الكومبرادوريين

 آخر الناجين الكومبرادوريين

نور الدين قدور رافع

اصطفت البرجوازية الحاكمة تحت شعارات متناقضة، كلما استُنفد أحدها لحق به آخر.

ورثت الطبقة البورجوازية الحكم منذ رحيل المستعمِر عن الأرض، جاعلة منه حقا تاريخيا لا قسمة فيه، فراحت تزيح عنها أوجه الرفض والنصح المكفولة بحرية الإنسان في التفكير والتعبير عن ذاته، لتفرض وجها واحدا سائدا لنظام شمولي بائس لا يختلف جذريا عن المستعمِر، كون الاحتلال أدمى عيون الضحايا من الأهالي حزنا وقهرا وهو يغتصب الأرض والإنسان، أما من تولى الحكم من بعده فقد أوهم الشعوب المستقلة وغرّها باسم الوطنية والثورة والإصلاح لينهب الروح التي تنفست من أجلها الأرض ملايين الشهداء.

اقتفاء سيرة البورجوازية العربية

باسم الثورة اصطفت البورجوازية الحاكمة تحت شعارات متناقضة، كلما استنفدت إحداها لحقت بها الأخرى، لتكون النتيجة دولا فشلت في تحقيق أدنى مستويات العيش الإنساني لمواطنيها، ومجتمعات مكلومة بأبنائها الغرقى في غيابات السجون والغربة، واقتصادا متذبذبا لا إلى الرأسمالية فتحرر ولا إلى الاشتراكية فاعتدل، بل خليطا تكدست به "الانتهازية المافياوية" لتغدو طغمة حاكمة تسوس دولا فاشلة، السّاعي فيها لا يسعه إلا سعر الخبز والحليب وأشياء أخرى ضرورية، مقابل تخليه عن المعنى الذي من أجله خرجت الملايين من الناس تطلب العدالة والكرامة باسم الحرية، فهل تتهاوى الحرية أمام هذا السيل الجارف من "التزييف التاريخي" للطموح الديمقراطي ونهب للأراضي وتأميمها وتمليكها لمن استطاع إلى البورجوازية زُلفى، وأشياعها غير مدركين أنّ المحرومين ليس باستطاعتهم مدافعة خوفهم ما لم يتألموا فيأملوا غدا كريما؟ إذ إنّهم لا يملكون حظا وفرا من السّلطة كي ينافسوا أرباب المال وسدنة التجارة، لقد أدركوا وهم يقفون في طوابير طويلة لنيل شيء من الخبز والحليب أنّ ثمة فارقا كبيرا بين أن يخرج الإنسان لطلب الخبز وهو لا يدرك الغاية الحقيقية من مداهنة فساد مستشر خلف الإداريين البيروقراطيين والمثقفين الانتهازيين وأصحاب المصالح، وبين سعيه الحثيث لنيل ما يعتقد أنّه الحق المسلوب منه، "الحق في الثورة والثروة معا"، فهو وإن رأى في تقاسم الثورة حقا ضائعا وجب استيفاء عهده من المغتصب، فإنّه يجهل أنّ ذاك الحق إنما هو "شرط تاريخي" لاستمرار كيانه وهويته لاستجلاب الثروة.

نقف بعد سنوات عجاف من استقلال دول كثيرة عن مستعمِرها الذي عتى في بنية مجتمعها فسادا وتفكيكا، على اختبار تاريخي لطبقة لطالما تشدقت بالوطنية وحمّلتها خطابات بعيدة كل البعد عن الحقيقة التي أنيط بها أن ترفع "الخطيئة التاريخية" عن المحرومين والمقهورين ممن اعتبرتهم الآلة الاستعمارية أهالي وغرباء، على واقع ما زال يمر بتجارب عبثية وامتحانات كثيرة برز من خلالها صنف الطبقة الحاكمة وأدواتها المستعارة، "فالآباء الثوريون" لهم القدرة على أن يتنكروا للطبقة الكادحة ولا يذكرون نضالها وكفاحها، بقدر ما سيسجلون أنّها قامت بدور فوضوي وتخريبي للبنية المرسخة لنظام حكمهم، إنهم يسعون لإبراز مكامن القوة والعنف، لا الظلم والقهر اللذيْن وسعا تاريخ الاستعمار وما بعده.

يضاف إلى ذلك انشغال بعض المثقفين والنخبويين بخدمة النظام القائم، وتبريرهم "المشاريع الكارتونية" التي أثقلت حسابات التحويل والاستثمار والبنية التحتية، للحفاظ على ما اكتسبوه من مصالح ضيقة وتحقيق رغباتهم المالية، الكثير منهم انبرى لصوت التخوين والتجريح لأقرانه ممن وقفوا مع شعوبهم يناضلون ويسمعون صوتهم بكل جرأة وبسالة، بعدما استشرفوا في ربيع بلدانهم العربية تغييرا جذريا وحقيقيا، إلا أنهم اصطدموا بآلة القتل والتهجير التي أذاقت شعوبهم البراميل المتفجرة والغازات السامة والجماعات الإرهابية، ومع معاناتهم لسنين طويلة فإنهم ظلوا يزيحون عن أنفسهم ومجتمعهم الخوف والقهر معتصمين بوطنيتهم ومتمسكين بحلم التغيير.

حينما استحقت "اللحظة الثورية" مؤذنة بساعة رحيل النظام، احتشد الناس في الشوارع والطرقات منادين "يسقط النظام"، ووقف أعداء الديمقراطية في الصفوف الأولى لموجات الربيع العربي، يزاحمون الشعوب المنتفضة في نضالها وحقها الثوري، بعدما تبرؤوا من "نظام ريعي" اعتقدوا سقوطه كأوراق الخريف التي تذروها رياح التغيير إلى غير مكان، كانوا ينسلخون منه مخافة أن تغشاهم لعنة الثورة والتاريخ، وتأتي بهم مكبلين محسورين على رؤوس الأشهاد ينتظرون ساعة حملهم على المشانق، غير أنّ الذي حصل كان عكس ما كان متوقعا، وما أريد له أن يكون. لقد قلبت "سلميتنا" برؤوس أنظمة عربية وتهادنت مع أخرى، لكنها عجزت عن الاطاحة بنظام المعرفة القائم على الظلم والعنف والخوف، نظام سكنه "رهاب الحرية" فراح يبني السجون والمشانق بدل المستشفيات، ويستعدي الشعب الذي قدم أبناءه فداء للأرض والوطن.

إعادة إنتاج اللحظة التاريخيـة

تساقطت الأنظمة واحدة تلو الأخرى مخلفة وراءها فراغا مهولا في بنية الدولة التي ورثت الاستعمار، كان ثمة سؤال مُلّح يطرح نفسه دائما مع أيّ شرارة انتفاضة من شأنها أن تغير السائد وأن تمنح الواقع المأزوم أملا مشرقا نحو مستقبل أفضل، الثورة ضد ماذا؟ هل ثارت الشعوب العربية ضد البورجوازية الكومبرادورية بوصفها أنظمة فاشلة؟ أم أنّها قامت تنتفض على الإرث الذي خلفته سياسات الاستعمارية؟ ربما يكمن الجواب في اندفاع الشعوب نحو الثورة ضد ما هو سائد طيلة عقود من الزمن، صوت واحد يخاطب الجميع، قوانين لا حصر لها لا تملك الفاعلية إلا على الكادحين والمقهورين، مؤسسات بهياكلها البيروقراطية ينخرها الفساد من كل جانب، نظام تعليمي مرهون بمدى عمالة البورجوازية للمركزية الغربية، اقتصاد هش تتجاذبه الحدود الجغرافية الملغومة بالحركات الإرهابية العابرة له، كل ذلك كان يحمل اسما واحدا وصورة موّجهة للدولة القائمة، فهل انتفضت الشعوب ضد الدولة بمؤسساتها وهويتها، أم أنّ النظام هو جزء من تركيبة الدولة يمكن للثورة استئصاله لاستصلاح ما نفع من هياكلها؟

سلمية الانتفاضات العربية كانت تشير إلى أنّ "إسقاط النظام بدل الدولة" هو أهم الأساسات التي من أجلها استعاد الحراك الشعبي زخمه، نظام برع في تكريس الفساد والنهب، مستخدما "التضليل السياسي والاجتماعي" للحفاظ على استمراريته، متمثلا في الحامي للثروة والأبوي الخالد للثورة، ومن الانقلابات التي يتلاعن سادتها بتواريخها، تنامى نفوذ "نظام الاستمرارية" على حساب الدولة الوطنية، وشرعت البارونات والعسكارتية في تحالفات سياسية لتعزيز قوتها والمحافظة على مصالح الإمبريالية الغربية، لينتهي الصراع الشعبي مع السلطة إلى الدعوة لإنهاء الوصاية التي تفرضها "الدولة العميقة" في شكل نظام متلون لا يملك من الإرادة الشعبية سوى انتخابات مزورة.

خرجت الحشود العربية من مشرقها إلى مغربها معبرة عن رغبتها في إسقاط الدولة العميقة بعفوية وسلمية مطلقة، إلا أنّ تسليم السلطة للشعب لم يكن بالأمر الهين لدى نظام فقد أدنى مقومات التحضر والوطنية، فراح يجتث بأدواته القمعية "الانتفاضات السلمية" موجها إياها نحو العسكرة، ومطلقا عنان الدولة العميقة بأجهزتها الاستخباراتية للنيل من طموح الاستقلال، ولعل ما أظهرته الثورة السورية واليمنية من حرب تجاوزت حدها الفاصل بين الوقوف إلى الشعب، والمراهنة على بقاء النظام، ملايين المهجرين والمفقودين الذين تركوا بلدانهم للظفر بحياة أكثر عدالة وإنسانية، وهم يأملون بالعودة إلى ديارهم التي دمرتها براميل الممانعة العربية.

ومهما بدا موقف "سلميتنا أقوى من الرصاص" في اجتثاث الدولة العميقة ونفوذها الضارب العمق السياسي والإداري والعسكري في الدولة، فإنّ الرهان على تحويل الصراع على الحق والحرية والعدالة لم يكن ذات يوم "صراعا على السلطة"، كما يتوهم الكثيرون ممن يجنحون إلى تحميل شعوبهم المآسي التي يعيشونها، بل انتفضت الشعوب العربية للمطالبة بـ"حقها الإنساني والحضاري" واستعادة كرامتها ووطنها المسلوب، فالمنطقة العربية ثارت على طغم كانت سببا في تخلفها وتأزمها الحضاري، وحينما صاحت الجماهير بـ"ارحل" تداعى العالم لوأد الحرية في مهدها.

لا يكمن الحق الإنساني في تنوع الثقافات والهويات فحسب، بل في مسألة أكثر عمقا واستحقاقا متعلقة بتقارب ذلك الحق مع "الشرط الأخلاقي" للعالم البشري، فأن تكون حرا يعني أن تكون إنسانا له اختياراته وهواجسه وتطلعاته، أما أن تتحرر فهذا يستلزم رفض السائد المطبق على التنوع والاختلاف، وكلاهما مرتبط بمدى الوعي بالحقيقة المفضية لفهم العالم والأشياء، فالبشر جميعا مشتركون في الحرية كونها حق إنساني وجب الحفاظ عليه والسعي لتحقيقه، ضمن تهافت السلطويين نحو مزيد من القمع والعنف.

الإنسان يولد حرا، لكن الحرية تلك سرعان ما تتلاشى ويذهب ريحها مع الخنوع والإذعان، ولفك سلاسل عبودية البشر للأشياء وعوالمه كان لزاما أن يزيح الإنسان عنه الخوف والجهل بالسعي وراء الحقيقة، حيث الإنسانية تبني لها عرش الخلاص.

بعد عقد على الربيع العربي وتغييراته السياسية والاجتماعية بالمنطقة، يمكن القول إنّ "استعادة الاستحقاق التاريخي" الذي انبرى له الشباب، لم يأفل نجمه مع هذا التكالب الغربي لإعادة إنتاج البورجوازيات العميلة، فالدكتاتورية بقدر تصلبها في هيكلها السياسي، غير أنّها تفتقد لـ"قاعدة مستقرة" تقيها الاهتزازات الناجمة عن تسرب الثورة داخل نظامها الاجتماعي، حينها تتأسس "المعادلة التاريخية" للصراع الطبقي والاستحقاق الثوري.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق