قضاء تونس .. الملاذ الأخير للثورة
قضاة في تونس يحتجون على حل المجلس الأعلى للقضاء (10/2/2022)
وائل قنديل
يمكن القول، بالنظر إلى تخبّط قيس سعيّد في قراراته، والهذيان الذي يغلّف خطابه السياسي، أن الإدارة الخفية للانقلاب على كل شيء في تونس، قد رفعت يدها، ولو مؤقتا، وتركته للارتجال على النحو الذي يبدو معه الآن أشبه بمذيعٍ بليدٍ يعمل من دون سكريبت أو إدارة إنتاج.
وضع قيس سعيّد كل المشتغلين بالقضاء التونسي في موقفٍ لا يحسدون عليه: اختبار أخلاقي وإنساني وسياسي يجدون أنفسهم بصدِده، بعد أن قرّر، منفردًا، حل المجلس الأعلى للقضاء، واعتباره شيئًا من الماضي، قبل أن يعود ويعين مجلسا أعلى جديدًا للقضاء، بفرمان جديد يجعل من هذه المجلس مثل أي إدارة صغيرة تتولى خدمته، وتلبّي طلباته في القصر الرئاسي.
منح قيس سعيّد نفسه كل الصلاحيات والسلطات التي تجعله يتحكّم في مرفق القضاء كما يتحكّم في طواقم الطباخين داخل مقر الحكم، بحيث يكون وحده صاحب سلطة الإدارة والتوجيه والتعيين والعزل والتشغيل والفصل من الوظيفة، والترقية والحرمان والمنح والمنع.
وبحسب منطوق المرسوم الذي أصدره سلطان قرطاج "يحقّ للرئيس ترقية القضاة أو طلب عزلهم" ويحظر على القضاة "الإضراب وكل عمل جماعي منظم".
كما أن له الحق في الاعتراض على ترقية أو ترشيح أي قاض، وأيضًا حق اقتراح إصلاحات قضائية ..
أي باختصار شديد هو قاضي القضاة.
هذا الجنون لا أتخيل أن قاضيًا تونسيًا واحدًا يمكن أن ينحاز له أو يسوّغه، أو يقبل على نفسه أن يجري استعماله في اجتثاث قيمة العدالة نفسها من الحياة التونسية، أو يوافق على أن يكون أداةً يستخدمها ذلك المهووس بالسلطة ضد مهنته وزملائه ورؤسائه.
فرمان سعيّد صدر فور عودة رئيسة الوزراء التي عينها من مدينة بريست الفرنسية، حيث التقت عبد الفتاح السيسي في اجتماع فرنسي حمل عنوان "محيط واحد"، وهو اللقاء الذي عبّر عنه متحدّث الرئاسة المصرية بالقول إن رئيسة وزراء تونس "أشادت بالتجربة المصرية الملهمة، وكانت حريصة على الاستفادة منها في بلادها"، مشيرًا إلى أن السيسي أكّد دعمه كل الإجراءات التي يتخذها قيس سعيّد للحفاظ على أمن البلاد واستقرارها، وتلبية طموحات الشعب التونسي.
ما يفعله قيس بالقضاء التونسي هو بالضبط ما فعله عبد السيسي في القضاء المصري، على مدى ثماني سنوات، من دون زيادة أو نقصان، إذ صارت أدوار القضاة في خدمة الحاكم الفرد الأوحد، وتأمين سلطته المطلقة، مثلها مثل أدوار طواقم الحراسة الأمنية التي يقوم بالتغيير والتبديل فيها بإيقاعاتٍ سريعة، من دون أن يراجعه أحد.
يلعب السيسي بقيس سعيّد في الساحة التونسية بالطريقة ذاتها التي لعب بها بخليفة حفتر في الساحة الليبية.
وفي هذه الحالة، ليست ثمّة فرق بين دارس القانون من وصل إلى السلطة، بأصوات الناس، ثم قرّر الانقضاض على كل شيء .. والعسكري المفصول الذي جاءوا به من مخلفات الجندية ونصّبوه قائد ثورة مضادّة لتدمير الداخل الليبي لحساب الخارج الإقليمي، واثقين من قدرتهم على استنساخ التجربة المصرية في ليبيا، وهي العملية التي فشلت، أو هكذا يبدو.
على أن المؤشّرات تقول إن المسألة في تونس لا يمكن أن تمر بالسهولة ذاتها التي شهدتها الحالة المصرية، التي ما كان لها أن تحدث لولا أن من القضاة من ارتضى لنفسه أن يكون بندقيةً في يد طاغية، ذلك أن موقف قضاة تونس، حتى هذه اللحظة، يبدو متماسكًا ومبدئيًا، في رفض نحر القضاء بسكين السياسة التي يمسك بها فردٌ لن تكون بعيدًا عن الحقيقة، لو قلت إنه يسلك مثل شخصٍ فاقد الأهلية، تحرّكه، ربما، عقدة شخصية من مرفق القضاء تدفعه إلى إهانته والعبث به على هذا النحو العنيف.
المشاهد القادمة من تونس تقول إن القضاء يمكن أن يكون الحصن الأخير لثورتها الباسلة في مواجهة عربدة المتربّصين بها من الخارج، وهو الأمر الذي يتطلب اصطفافًا خلف القضاة من جميع مكونات المجتمع التونسي، باتحاداته ونقاباته وسياسييه، وقبل ذلك الشعب الذي ألهم العالم بثورته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق