السبت، 26 فبراير 2022

العقل المصري بين التكفير والتنوير والتزوير

العقل المصري بين التكفير والتنوير والتزوير

خليل العناني

في مصر، قبل أيام قال أحدهم إن من لا يرى إنجازات العهد الحالي فهو "كافر"، وقال آخر إن من يؤمن بالمعراج فهو "واهم"، وقبل سنوات وصف أستاذ أزهري معروف الجنرالَ الحاكم ووزير داخليته اللذين أزهقا ما يقرب من ألف نفس في وضح النهار، بأنهما من "الرسل". هكذا وصل مستوى الخطاب، ومن خلفه مستوى العقل المصري إلى درك أسفل من ترويج الترهات والخزعبلات، مستخدمين أسلحتهم الثقيلة من التكفير والتزوير وادعاءات التنوير. وكلما سمعت هذه الكلمة الأخيرة تحديدا (التنوير)، عرفت أن ما سيليها قطعا هو من باب التدليس والتضليل والتجهيل.

هؤلاء "التنويريون" لا يقدحون من رؤوسهم، أو يتحدثون بما تمليه عليهم عقولهم. فلا يمكن أو يُتخيَل أن بمصر الآن عقل حرّ، أو تفكير حرّ، أو إنسان حرّ. هم مجرد أدوات للسلطة ودمى متحركة، أو بالأحرى أذرع لها، يحرّكها "ضابط" مخابرات قابع في الخلفية، يسيطر عليهم، ترغيبا أو ترهيبا، وتتحكم فيهم مؤسسات تسمى "سيادية" ترعاهم رعاية كاملة وشاملة

فأول شروط التنوير الحقيقي، هو الحرية والتحرير، تحرير الإنسان وإرادته وعقله من الاستبداد السياسي. أما التنوير على الطريقة المصرية، وبالأحرى السيساوية، فيعني أولا الدفاع عن المستبد وتبرير استبداده وقمعه، وثانيا، الخوض في قضايا دينية من دون امتلاك المعرفة الأساسية أو الأدوات المنهجية للقيام بذلك، وثالثا، ممارسة الاستعلاء الفكري والأخلاقي على المخالفين ووصفهم بالرجعيين والمتخلفين والمتشددين… إلخ. لذلك لم نسمع أيا من هؤلاء "التنويرين" على مدار السنوات الثمانية الماضية يدافع عن قيمة الحرية، أو العدالة، أو الديمقراطية، أو التعددية، أو المواطنة الحقيقية. ولم نشاهد أيا منهم "ينوّرنا" برأيه الحصيف في عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين يعانون الظلم والقهر والقتل بالبطء مرضا وإهمالا. ولم يتحفنا أحدهم برأيه في مسألة الفقر التي يعاني منها ملايين المصريين، بينما "التنويريون" يرفلون في نعيم وافر. ولم نسمع أحدهم يناقش الفساد الذي ينخر في مؤسسات الدولة كبيرها وصغيرها، أو أن يشرح ويفسّر الديون الخارجية التي تضاعفت 5 مرات على مدار العقد الماضي، حتى وصلت حاليا إلى مستويات قياسية.

جميعهم يغمضون أعينهم، ويبتلعون ألسنتهم حين يصل الأمر إلى السلطة وممارساتها. وهم يدركون تماما حدود كلامهم ومجال حركتهم، لذلك فهم يختارون الحديث واللعب في المساحة الآمنة بعيدا عن السلطة. لذلك لا مانع لدى أحدهم أن يستهزأ بالنصوص الدينية، وأن يقدح في الذات الإلهية، إذا تطلب الأمر وذلك تحت شعار "التنوير"، بينما لا يجرؤ أن يمسّ أو يقترب من الذات السلطوية فهي مصونة ومقدّسة لديهم. والاقتراب منها يعد مخاطرة ومغامرة كبرى لا تُحمد عقباها.

هؤلاء "التنويريون" لا يقدحون من رؤوسهم، أو يتحدثون بما تمليه عليهم عقولهم. فلا يمكن أو يُتخيَل أن بمصر الآن عقل حرّ، أو تفكير حرّ، أو إنسان حرّ. هم مجرد أدوات للسلطة ودمى متحركة، أو بالأحرى أذرع لها، يحرّكها "ضابط" مخابرات قابع في الخلفية، يسيطر عليهم، ترغيبا أو ترهيبا، وتتحكم فيهم مؤسسات تسمى "سيادية" ترعاهم رعاية كاملة وشاملة، تحرّكهم كيفما تشاء، ووقتما تشاء. لذلك لا يخلو يوم أو ليلة من مصر إلا وهناك موضوع جدلي يستولى على "الترند"، يشغل الناس ويلهيهم في قضايا هامشية، وأحيانا تافهة ليس لشيء سوى لصرف أنظارهم عن مصائب السلطة وكوارثها. فالإلهاء هو فصل معروف وأساسي في كتاب الاستبداد تتبعه كافة الأنظمة السلطوية من أجل السيطرة على العقول والنفوس.

لا يجرؤ أحد هؤلاء "التنويريين" على الخروج عن قائمة الموضوعات التي تحدّدها له السلطة وأجهزتها، ولا يمكن له بحال أن يستضيف أحد المعارضين لها، سواء في الداخل أو الخارج. هم "تنويريون" فقط عندما يتعلق الأمر بالمقدّس، أما عندما يصل الأمر للمدّنس (السلطة والسلطان)، يتحولون إلى "فئران" مذعورة، تحاول الاختباء من السلطة ورجالها. لذلك، فهم لا يحظون بالمصداقية أو الاحترام، ولا يلقى خطاهم رواجا أو قبولا بين عوام الناس.

أحد هؤلاء "التنويريين" كان معارضا لنظام مبارك، أو هكذا بدت الصورة وقتها، ولكن بعد خلع الأخير، دافع عنه في المحكمة وشهد له، وبرّأه من المسؤولية عن قتل المتظاهرين أثناء ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011. وهو ذاته الذي يصرّ على الخوض في قضايا دينية وفقهية لا يمتلك فيها أية معرفة حقيقية، ليس لشيء سوى لإثارة الجدل وادعاء الفهم والمعرفة وأنه "العقلاني" و"التنويري" الوحيد في المدينة. في حين أنه من أشدّ المدافعين عن السلطة الحالية، ويعتبر رئيسها هو مؤسس الدولة المدنية في مصر.

"تنويري" آخر من نفس العينة، ولكنه أكثر تطرفا وحماقة وجهلا، رحل قبل أسابيع، كان يمارس البلطجة والتضليل باسم الفكر والتنوير. لذلك كانت الأذرع الإعلامية التابعة للسلطة تتسابق على استضافته وتقدّمه للناس باعتباره "مفكرا تنويريا" يجب الاحتفاء به، وذلك كله من أجل إلهاء الناس بترهاته وخزعبلاته. وهو نفس التنويري الذي دافع أيضا عن ممارسات السلطة المستبدة في مصر وكان يرى في الجنرال المنقلب منقذا من الضياع.

ما أصاب العقل المصري على مدار العقود الماضية، هو التطور الطبيعي والنتيجة المنطقية لحكم العسكر الممتد منذ 70 عاما. وهو مأساة مستمرة لم تؤدِّ إلى تجريف وتجويف وتفريع هذا العقل من أي قدرة على التفكير المنطقي السليم، وإنما أيضا استبدل ملكاته وقدراته الفكرية، بأخرى مشوّهة لا تتوقف عن إنتاج كل ما هو فاسد وقبيح.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق