الجمعة، 25 فبراير 2022

بوتين يفعل الآن ما كان يتهم به أمريكا.. تغيير النظام

 بوتين يفعل الآن ما كان يتهم به أمريكا.. تغيير النظام


ديفيد هيرست

يغير الغزو الروسي لأوكرانيا مجرى التاريخ، ولكن ليس بالطريقة التي تفهمها القوى الغربية.

فنحن نشهد نهاية ما لا يقل عن ثلاثة عقود من الهيمنة الأمريكية والغربية على شؤون العالم العسكرية والاقتصادية ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. 

إن الذي يتشكل بديلاً عن ذلك هو عالم تديره القوى العظمى.
إلى جانب الولايات المتحدة تبرز كتلة واحدة – كتلة القوة الأوروآسيوية التي تقف الصين في طرف منها وتقف روسيا في طرفها الآخر، وما بين الطرفين توجد أضخم كتلة أرضية في العالم، بما فيها من موارد غير محدودة من الطاقة والقوى البشرية، والقوة العسكرية والسيبرانية والذكاء الصناعي.
وهذا بمثابة إعادة ترتيب هائلة للأثاث على سطح سفينة بحجم التايتانيك بينما تغرق الكتل الأرضية حول العالم بهدوء في البحر، وإلى أن يتم رسم الخطوط الحمراء الجديدة، فلن يكون العالم أكثر استقراراً مما كان عليه.

كثيرة هي المؤشرات على انهيار النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وهو النظام الذي أطلقت عليه الكثير من الأسماء، مثل التدخلية الليبرالية، وتحالفات الراغبين، والنظام المحكوم بقواعد. 

شهد العام الماضي سقوط كابول بأيدي الطالبان، والمحادثات المطولة مع إيران في فيينا والذي يتوقع أن تبرز منها طهران أكبر الفائزين، وها هو بوتين الآن يغزو أوكرانيا.

وما يمكن جداً أن يأتي من بعد هو قيام الصين بالاستيلاء على تايوان. وكل هذه الأمور الأربعة يرتبط بعضها ببعض.

أخذ على حين غرة


كل واحد من هذه الأحداث أخذ واشنطن على حين غرة. لم تكن لدى الولايات المتحدة أدنى فكرة كم ستكون سرعة انهيار الدولة في أفغانستان بمجرد الإعلان عن الانسحاب. ومن بين الدول المجاورة، لم يكن مسلحاً بالمعلومات الاستخباراتية الصحيحة سوى الحرس الثوري الإيراني، الذي كان متواجداً مع الطالبان على الأرض.

بنفس الشكل اضطرت الولايات المتحدة إلى الانسحاب في كل الجبهات – وخاصة فيما يتعلق بالعقوبات – أمام صمود المفاوضين الإيرانيين في فيينا، كذلك لم تكن على أهبة الاستعداد للتعامل مع حشد القوات الروسية على حدود أوكرانيا ناهيك عن أن تكون مستعدة لوقوع الغزو نفسه.

كل واحد من هذه الأحداث أجبر صناع السياسة على التراجع بلا ترو، وهذا ما لا جدوى من ورائه.

خذ على سبيل المثال أثر الحصار المالي الغربي الذي يوشك أن يفرض على روسيا، رغم أنها على الأغلب ستستمر في تزويد أوروبا بالغاز، على حقول النفط الإيرانية. كل ما سيحدث أنها سترفع لهم سعر النفط.

وما من شك في أن ذلك سيشكل فرصة سانحة أمام إيران إذا ما أخذنا بالاعتبار احتياجات أوروبا المتعطشة للنفط. فهل كانت تلك هي النتيجة المرجوة من أربعة عقود من العقوبات التي وصلت أوجها في عهد دونالد ترامب بانتهاج سياسة "الضغط الأقصى"؟ حتى وقت قريب جداً كانت مراكز البحث والتفكير التابعة للمحافظين الجدد في واشنطن تعتقد بأن تغيير النظام في طهران أمر وارد.

من وجهة نظر تلك البلدان المستفيدة من وجود النظام الدولي الأمريكي، هناك صفتان مميزتان لسلوك واشنطن يمكن اعتبارهما مزعجتين، 

أما الأولى فهي انعدام القدرة على رؤية العالم إلا من خلال عيونها – وكثير من الناس في الشرق الأوسط يعتبرون تلك نظرة استعمارية. 

وأما الثانية فهي انعدام المرونة والإصرار على انتهاج ما تم تبنيه من مسلك دون أي انعطاف.
أمريكا هي التي قامت منفردة بتحديد مواصفات السلوك الديمقراطي ثم أصدرت إعفاءات للحكام المستبدين الموالين للغرب سامحة لهم بتجاهل تلك المواصفات.

وبذلك غدت حقوق الإنسان أو السياسة الخارجية التي تقوم على القيم أمراً انتقائياً جداً – تشهر في وجه بلد مثل فنزويلا ولكن ليس في وجه بلدان مثل المملكة العربية السعودية ومصر.

وكذلك كان طوني بلير وجورج بوش هما من قررا غزو العراق في اللقاء الذي جمعهما في كروفورد قبل سنة كاملة من وقوع الغزو أو قبل دخول مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة. 

وكان بوش هو أول من مزق المعاهدات الدولية، وأطلق على معاهدة منع انتشار الصواريخ البالستية لعام 1972 عبارة "عفا عليها الزمن". 

وكان بيل كلينتون هو أول من أعاد رسم حدود دولة أوروبية أثناء حرب كوسوفو مع صربيا.

اعتبر هؤلاء الزعماء أنفسهم سادة العالم، إلا أن قراراتهم الاستراتيجية لا منطق فيها.

يبدو أن الجميع ينسى، بما في ذلك كير ستارمر الذي هدد بمعاقبة أحد عشر نائباً عمالياً من أعضاء البرلمان لأنهم أرادوا توقيع بيان يطالب بوقف الحرب، أن طوني بلير طالب العالم بنسيان أوكرانيا في عام 2014 عندما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم والتركيز على الحرب ضد الإسلام الراديكالي.

منافس فاشل

لم تعتبر واشنطن روسيا عدواً، بل والأسوأ من ذلك، من وجهة نظر بوتين، أنها اعتبرت روسيا منافساً فاشلاً. وعلى مدى جل العقود الثلاثة الماضية لم تفتأ واشنطن تقول لموسكو: "نسمع ما تقولون ولكننا سنعمل ما يبدو لنا على كل حال."

قائمة التدخلات الغربية اللانهائية، والتي كانت في آخر المطاف تؤول إلى الفشل، والتي لم يكن لدى روسيا أو الصين ما تفعله لوقفها، كان لها أثر تراكمي على النفسية الروسية والصينية. 

وبينما ملأت روسيا خزائنها بدولارات النفط بدأت أيضاً بإعادة بناء قوتها العسكرية. حينذاك اعتبر الجنرالات البريطانيون والأمريكان ذلك نكتة، ولكن يبدو أنهم تعجلوا الحكم.

ولكم كثرت الحكايات المتداولة حول عقم الجيش الروسي، مثل القول إن الطيارين الروس لا يمضون سوى ساعات معدودة من الطيران في الشهر الواحد لأنه لم يكن أحد يملك دفع تكلفة الوقود، وأن البحارة الذين كانوا في زيارات متبادلة ينهمكون في التبضع وينفقون على مشترياتهم مبالغ المصروف اليومي التي يخصصها لهم البلد المضيف، وأن كل سفينة تبحر لابد من أن ترافقها سفينة أخرى تحسباً من إصابتها بأعطال تعيقها، وأخيراً أن روسيا لا تملك القدرة على إرسال قوة استطلاعية.

تغير ذلك التقييم سريعاً عندما بدأ بوتين تدخله في سوريا، وهو التدخل الذي كان حاسماً في الإبقاء على الأسد في السلطة.

طوال ذلك الوقت كان بوتين يضمر في ذهنه نوعاً من رد الفعل. وكثيراً ما كان يساء تفسير ذلك باعتباره محاولة من قبل ضابط صغير سابق في المخابرات الروسية إعادة بناء الاتحاد السوفياتي. لا، ليس الأمر كذلك، بل إن روسيا الفيدرالية التي يحكمها بوتين رأسمالية حتى النخاع، والرجل الذي يقف على رأسها أغنى رجل في التاريخ الروسي – أغنى حتى من القياصرة أنفسهم.

صحيح أن الزعماء السوفيات كانوا يتمتعون بامتيازات كبيرة ولكنهم بالمقارنة لم يكونوا أثرياء.

يكفيك أن تتجول في المناطق التي كانت متميزة في السابق داخل الغابات المحيطة بموسكو لترى بأم عينيك الدليل على ذلك. كانت منتجعات المسؤولين في الحقبة السوفياتية متواضعة، عبارة عن أكواخ خشبية متهالكة، بطلائها الأخضر المتفتت، مقارنة بالأكواخ متعددة الأدوار التي يملكها الأثرياء الروس حالياً. حسبك أن الطريق المؤدية إلى هذه المستوطنات تنتشر فيها الدعايات التي تعلن عن بيع سيارات اللامبورغيني والشقق التي تصلح لإيواء العشيقات.

القومية الروسية

بوتين أوليغارك وليس سكرتيراً عاماً. وبينما كان الاتحاد السوفياتي قوة عالمية فإن روسيا الفيدرالية في أحسن أحوالها قوة إقليمية. والأيديولوجيا التي حفزت بوتين على غزو بلد لا يعتقد بوجوده أصلاً لا تنبع مما كان يفعله البلشفيون بقدر ما تنبع من الأرثوذكسية الروسية والقومية الروسية.

لم يكن بوتين في بداياته معاديا للغرب، بل استغرقه ذلك سبع سنوات طوال، ما بين بروزه كرئيس للوزراء في عام 2000 وإلقائه خطابه الشهير في مؤتمر ميونيخ الأمني في عام 2007. ولقد حاول طوال ذلك الوقت التواصل مع الغرب بل وحتى الانضمام إلى الناتو، ولكنه كان يقابل بالصد المرة تلو الأخرى. وكذلك كان الموقف من أفكاره حول التحالف الأمني الأوروبي، لأن ذلك أيضاً فسر خطأ على أنه محاولة من قبل روسيا للسيطرة على السياسات والحريات في دول شرق أوروبا الخانعة.

نقطة التحول في رحلته من أوليغارك موال للغرب إلى مستبد قومي روسي كانت سقوط القذافي في ليبيا، ليس لأنه كان محباً للدكتاتور الليبي وإنما لأن الأمر يمس المصالح النفطية والعسكرية الروسية.

امتنعت روسيا عن التصويت على قرار لمجلس الأمن الدولي يسمح باستخدام القوة في ليبيا، وهو القرار الذي استحق بسببه رئيس الوزراء حينذاك، ديمتري ميدفيدف، سخط روسيا، عندما تبين أن النتيجة التي سيفضي إليها التدخل في ليبيا هي تغيير النظام. حينها ظهر مقطع فيديو روسي مجهول المصدر ولكن بجودة عالية يندد بميدفيدف باعتباره خائناً – مستخدماً نفس الألفاظ التي تستخدم اليوم لوصف بطلي الإصلاح الروسي الأخيرين من وجهة النظر الغربية ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين.

حدث ليبيا في عام 2011 وليس غزو العراق في عام 2003 هو الذي حسم قرار التدخل الروسي في سوريا في عام 2015.

ما الذي سيحدث الآن؟

أول تغيير رئيسي سيطرأ نتيجة للغزو الروسي لأوكرانيا هو أن روسيا ستغدو الآن ضالعة في نفس الممارسات التي كانت تتهم بها الولايات المتحدة – تغيير النظام.

بعد أن أدانت على مدى عقود التدخلات الغربية في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا باعتبارها تدخلات لتغيير الأنظمة، بل واعتبار الربيع العربي مؤامرة من نسج وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، تمارس روسيا الآن نفس العمل في أوكرانيا.

بل راحت تستخدم نفس المنطق الذي استخدمته واشنطن طوال جل الثلاثين عاماً الماضية. فهي تتوغل في أوكرانيا لأن بوسعها أن تفعل ذلك، ولأنها تعلم أن الناتو لا يمكنه التحرك ضدها دون المخاطرة بتفجير حرب نووية.

في الشهر الماضي قال ديمتري ترينين، الخبير المخضرم في الشؤون العسكرية والسياسة الخارجية الروسية: "لربما كان مشروع روسي منفصل قيد التشكل حالياً، وهو مشروع لا يتوقع الاندماج في عالم يستمر الغرب في لعب دور قيادي فيه، حتى وإن لم يكن دوراً مهيمناً. نتيجة لما قد يتبع ذلك من قطيعة بينها وبين الغرب فقد تتجه روسيا نحو إقامة علاقات أوثق مع الدول المهمة غير الغربية، وعلى رأسها الصين، وكذلك إيران، إضافة إلى تعزيز العلاقات مع خصوم الولايات المتحدة داخل العالم الغربي مثل فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا. بموجب هذا السيناريو قد تنهج روسيا سياسة خارجية أكثر نشاطاً، وقد تبدأ موسكو في فعل نفس الشيء الذي طالما اتهمها الغرب بالقيام به. ضمن هذا السيناريو سوف تهدف روسيا إلى إقامة دائرة نفوذ خاصة بها وستسعى كذلك إلى ممارسة الحق في استخدام القوة لإسقاط من لا ترغب في وجوده من الأنظمة."

لا عذر


في نهاية المطاف لا يوجد ما يعذر شن حرب أخرى. لا يبرر أي من ذلك أو يعذر الدفع بالدبابات إلى داخل أوكرانيا.

كنت موجوداً في غروزني في عام 1994 عندما حاولت الدبابات الروسية الدخول إلى المدينة، فتصدى لها الشيشان بمقاومة شرسة وتمكنوا من ردعها مؤقتاً. ولكن ما لبث بوتين أن غزا المدينة وسحق المقاومة تماماً في عام 2000، ولم يتورع حينها عن تدمير المباني عن بكرة أبيها وتنصيب رئيس مضطرب عقلياً على الجمهورية.

قامت زميلتي الروسية أنا بوليتكوفسكايا بتدوين يوميات الحرب الثانية في الشيشان، وعندما سألتها لماذا خاطرت بحياتها للكشف عما وصفته بجرائم الحرب الروسية قالت إنها كانت تقاتل من أجل روح روسيا. ما لبثت أن اغتالها قاتل محترف في مدخل البناية التي كانت تقطن إحدى شققها.

ليس لدي أدنى فكرة عما إذا كان الأوكرانيون سيقاومون كما قاوم الشيشان أو إلى أي مدى سيذهب الجيش الروسي في قتاله. ولكني أخمن بأنهم كلما تكبدوا خسائر بشرية أكثر كلما زاد استخدام الروس للمدفعية والضربات الجوية ضد المدنيين في الأماكن المكتظة بالسكان.

قد يكون مهولاً سفك الدماء الذي سنشهده خلال الأيام والأسابيع القادمة. سرعان ما يتلاشى في الحرب مفهوم "الضربات المحكمة"، ناهيك عن أن الضربات المحكمة بأيدي الروس تعني استخدام القنابل الفراغية كما فعلوا في غروزني، فسحبت الهواء من الميدان الرئيسي في وسط المدينة.

لم يكن من الضروري نشوب هذه الحرب، وكان بالإمكان تجنب خلاف بوتين مع الناتو، وكان بالإمكان الاتفاق على كيانات أمنية جديدة مع موسكو تحفظ استقلال وسيادة الدول، والتي بدورها تحترم حقوق الإنسان وولاءات الناطقين بالروسية. ليس هذا علم الصواريخ، ولقد تم إنجازه في أماكن أخرى.

ولكنه كان يتطلب مكوناً أساسياً لطالما كان مفقوداً في السلوك الغربي تجاه روسيا – التواضع. عندما انهار الاتحاد السوفياتي انطلق الفائز بكل شيء، ولم يشعر بالحاجة لأن يستمع. ما كان ينبغي للناتو أن يتوسع شرقاً.

في أقل تقدير كان ينبغي أن يشرك قوات روسية في هياكله وأن يصلحها. كان من شأن ذلك أن يقضي على التناقض المركزي في الإصلاح، والذي يقول إن ما هو جيد للغرب فهو سيء لروسيا. بدلاً من ذلك لم يكن هناك بناء للدولة، فقط عملية هدم. ترك الأمر لشخص مثل بوتين حتى يعيد بناء القوة العسكرية الروسية، بكل ما لذلك من تداعيات اليوم.


والآن يعكس بوتين ذلك المنطق حين يقول إن ما هو جيد لروسيا فهو سيء للناتو. فقط المقاومة التي سيبذلها المقاتلون الأوكرانيون من شأنها أن تقنعه بأن تكلفة الاستمرار في هذا الغزو ستكون فادحة جداً. ولكن في مواجهة الأعداد الضخمة التي ستغزوهم، فإن الاحتمال الأكبر هو أنهم لن يتمكنوا من الصمود طويلاً، وقد تخلى عنهم الناتو وتركهم لمصيرهم بعد أن تصدر لرفع راية الحفاظ على سلامة الأراضي الأوكرانية دون أن يكون قادراً على عمل أي شيء للدفاع عنها.

والمأساة هي أنه بينما تعتبر روسيا أن الحرب الباردة قد انتهت فإننا في الغرب نستمر في خوض معاركها. وها قد أعدنا خلق العدو الذي ظننا أننا تركناه من خلفنا.

 ترجمة عربي21

المصدر:(ميدل إيست آي)

*****

ترجمة عربي بوست

استهانت أمريكا بروسيا “المريضة”.. ففاجأها بوتين بإعادة بناء “الإمبراطورية” المتآكلة

عربي بوست

    الغزو الروسي لأوكرانيا إيذانٌ بميلاد حقبة جديدة، لكن ليس بالمعنى الذي انتهى إليه فهْمُ القوى الغربية.

    إن ما نشهده الآن هو تبدُّد العالم الذي انفردت فيه أمريكا والغرب بالهيمنة طوال ثلاثة عقود، على شؤون العالم العسكرية والاقتصادية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. أما العالم الذي يُستحدث مكانه فهو عالم لا انفراد بالحكم فيه، بل تحكمه أكثر من قوة عظمى.

    فإلى جانب الولايات المتحدة، ستبرز كتلة أخرى في قيادة العالم، كتلة تتكون من قوة أوروبية آسيوية، تحتل الصين جهة منها وروسيا من الجهة الأخرى. ويقع بينهما أكبر مساحة برية في العالم، واحتياطيات غير محدودة من الطاقة والقوى العاملة والقوة العسكرية والإلكترونية وقدرات الذكاء الاصطناعي.

    إنها تدابير للخروج بأي مكاسب من سفينة النظام العالمي المحكومة بالغرق، وحتى تُرسم الخطوط الحمراء الجديدة، لن ينعم العالم بالاستقرار.

    توالت علامات كثيرة على انهيار النظام الذي ملكت الولايات المتحدة زمام أمره، وإن حمل أسماءً مختلفة: التدخل الليبرالي الدولي في شؤون الدول غير الليبرالية، أو تحالفات الراغبين في الانضمام إلى عمليات الولايات المتحدة العسكرية، أو النظام القائم على احترام القواعد الدولية والحقوق.

    وقد شهد العام الماضي بعض هذه العلامات، مثل سقوط كابول في أيدي طالبان، وطول أمد المفاوضات مع إيران في فيينا مع الاحتمال القائم بأن يؤول الفوز الأكبر فيها إلى طهران، والآن غزو بوتين لأوكرانيا.

    هذه علامات ثلاث، وقد تتبعها علامة رابعة باستيلاء الصين على تايوان، وجميعها مرتبطٌ بعضها ببعض.

    على حين غرة

    يجمع هذه الأحداث أنها كلها حلَّت بالولايات المتحدة على حين غرة منها، فالولايات المتحدة لم يخطر لها أدنى خاطر بأن تنهار أفغانستان، التي لم يكن بها من ملامح الدولة إلا واجهة زائفة للدعاية، هذا الانهيار السريع فور الإعلان عن انسحابها. وأدهى من ذلك أن من بين جيران أفغانستان، كان الحرس الثوري الإيراني الجهةَ الوحيدة التي ملكت المعلومات الاستخباراتية الصحيحة وكانت مع طالبان في الميدان.

    وعلى النحو نفسه، اضطرت الولايات المتحدة إلى التراجع على جميع الجبهات -لا سيما التخلي عن العقوبات- في مواجهة صمود المفاوضين الإيرانيين في فيينا. وبالمثل لم تكن مستعدة لاحتشاد القوات الروسية على حدود أوكرانيا والغزو بعد ذلك.

    وهكذا، جاءت سياسة الولايات المتحدة لكل حدث من هذه الأحداث بلا رؤية أو تأهب، لكن ما هكذا تورَد الإبل.

    حتى وإن كان الأقرب أن تستمر روسيا في إمداد أوروبا بالغاز، فإننا إذا نظرنا في الآثار التي قد تترتب على فرض حصار مالي غربي على روسيا وما قد يفعله ذلك بأسعار النفط القادم من إيران، فسنجد أنه لن يفعل إلا أن يزيدها ارتفاعاً.

    والواقع أن هذا الحصار سيجعل إيران قِبلةً لدول أوروبا المتعطشة للطاقة، فهل كانت تلك هي الغاية من أربعة عقود من العقوبات، بلغت ذروتها مع سياسة "الضغط الأقصى" التي استخدمها دونالد ترامب؟ وذلك بعد أن كانت مراكز الأبحاث التابعة لتيار المحافظين الجدد في واشنطن تقول حتى وقت قريب جداً، إن تغيير النظام في طهران أمرٌ ممكن.

    أما إذا نظرنا إلى الأمر من جهة الدول المفعول بها في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، فإننا سنجدها حانقة على سمتين بارزتين لواشنطن في إدارتها لهذا النظام: أولاهما، العجز الكامل عن تصور أي رؤية أخرى للعالم غير رؤيتها له، وثانيتهما، الرفض التام لأي تراجع أو تنازل عن رؤيتها ما إن تحدِّد مسار العمل في أمر ما.

    وهكذا، حدَّدت أمريكا -وحدها- تعريف السلوك الديمقراطي، ومنحت نفسها الحق في العفو عن المستبدين الموالين للغرب إذا خالفوا هذا السلوك أو نقضوه. وأصبحت معايير حقوق الإنسان والسياسة الخارجية المُراعية للقيم محكومةً بهواها في الانتقاء؛ فهي إذا أرادت، استخدمت مخالفتها حجة لمعاقبة فنزويلا، وإذا لم ترد، تغافلت عن انتهاكها في السعودية أو مصر.

    ولذلك، كان توني بلير وجورج بوش هما من قررا غزو العراق في اجتماعهما بمزرعة كروفورد قبل عام كامل من وقوع الغزو، وقبل دخول مفتشي الأسلحة النووية التابعين للأمم المتحدة. وكان بوش هو أول من مزَّق المعاهدات الدولية، ووصف معاهدة 1972 للحد من الصواريخ الباليستية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بأنها معاهدة "تقادَمَ عليها الزمن". وكان بيل كلينتون أول من صاغ حدوداً جديدة لدولة أوروبية، هي كوسوفو، بعد الحرب مع صربيا.

    منافس فاشل

    لم ترَ واشنطن في روسيا عدواً لها، وأسوأ من ذلك عند بوتين، أنها عدَّت روسيا ليس إلا منافساً فاشلاً لا يرقى لأن يكون ندّاً لها. وفي معظم الأوقات خلال العقود الثلاثة الماضية، كانت واشنطن تتعامل مع موسكو بمنطقٍ خُلاصته: "نسمع ما تقوله، لكننا سنفعل ما عزمنا عليه على أي حال".

    ومن ثم تلاحقت تدخلات الغرب على نحو بدا لا نهاية له ولا رجوع عنه مهما كانت الخيبات التي آل إليها، ولم يُجدِ أي شيء فعلته الصين أو روسيا نفعاً في إيقاف ذلك، ولا شك في أن ذلك راكمَ غيظاً مستعراً في النفوس لدى روسيا والصين. ولما امتلأت خزائن روسيا بدولارات النفط، أخذت تعزِّز بناء جيشها، لكن القادة العسكريين في بريطانيا وأمريكا استهانوا بذلك وعدُّوه مزحةً لا يُلتفت إليها، بيد أن الواقع الآن يشي بأنهم تعجَّلوا أحكاماً سابقة لأوانها.

    شاعت حكايات كثيرة عن العجز العسكري الروسي، مثل حكاية الطيارين الروس الذين لا يحلِّقون بطائراتهم إلا بضع ساعاتٍ كل شهر، لأن البلاد عاجزة عن تحمُّل أثمان الوقود، وحكاية البحَّارة الذين لم يجدوا شيئاً ينفقونه في جولات تسوقهم أثناء زيارات التبادل إلا نفقات اليوم التي كانت تمنحها لهم الدول المستضيفة، أو الحكاية عن تهالك السفن حتى إن كل سفينة كانت ترافقها سفينة أخرى؛ مخافةَ أن تتعطل في الطريق، وليس انتهاءً بحكاية عجز روسيا عن إنشاء قوة استكشاف عسكرية.

    لكن هذه التقديرات ما لبثت أن تغيرت بعد أن بدأ بوتين تدخله العسكري في سوريا، لا سيما بعد أن بات هذا التدخل فاعلاً حاسماً في الإبقاء على بشار الأسد بالسلطة.

    في غضون ذلك، كان بوتين يشحذ ذهنه في التدبير لردٍّ ما. وعادةً ما يخطئ الناس فهم ذلك، فيختزلون تفسير الأمر في مجرد محاولة من ضابط سابق متدني الرتبة في جهاز الاستخبارات الروسي "الكي جي بي" يسعى إلى استعادة الاتحاد السوفييتي. لكن الأمر ليس كذلك، فالاتحاد الروسي الذي يقوده بوتين كيان رأسمالي بالكامل، والرجل الذي يترأسه هو أغنى زعيم في تاريخ روسيا، وقد بلغ من الثراء حداً يتجاوز حتى ثروات القياصرة. وكذلك الحال مع الامتيازات الهائلة التي حظي بها القادة السوفييت، فهذه أيضاً يهون شأنها إذا وازنتها بثراء بوتين.

    تقول تقارير إن "النخبة" الذين تربطهم صلات وثيقة ببوتين جمعوا ثروات تصل إلى مئات الملايين من الدولارات/ رويترز

    وإذا أردت دليلاً تراه بعينيك على ذلك، يكفيك أن تتجول في مناطق الملكيات الخاصة وسط الغابات المحيطة بموسكو، لترى "الداتشا" التي كانت ذات يومٍ منازل الطبقتين الوسطى والعليا في الحقبة السوفييتية، فلا تبلغ في عينيك اليوم إلا بيوتاً خشبية بالية ومتداعية، بطلاء أخضر يكاد يسقط عنه قشره، ويشتد هوانها عندك إذا حوَّلت بصرك إلى أكواخ العطلات الخاصة، أو "الكوتيجي"، المكونة من ثلاثة طوابق ويملكها أثرياء روسيا الجدد. ويمتلئ الطريق إلى هذه المنتجعات بإعلانات عن سيارات اللامبورغيني الفارهة والشقق الخاصة لعشيقتك.

    القومية الروسية

    بوتين يمثل حكم الأوليغاركية أو الأقلية وليس حكم السكرتير العام للحزب الشيوعي. كان الاتحاد السوفييتي قوة عالمية، أما الاتحاد الروسي، فهو قوة إقليمية في أقصى الأحوال. والقول بأن الأيديولوجية التي ساقت بوتين إلى غزو دولة أوكرانيا التي لا يعترف بوجودها، مستمدة من الأرثوذكسية الروسية والقومية الروسية، أقرب إلى الصواب من الزعم بأنها مستمدة من شيوعية البلاشفة.

    لم يكن بوتين معادياً للغرب من البداية. لقد استغرق الأمر سبع سنوات طويلة، منذ صعوده إلى رئاسة الوزراء في عام 2000 إلى خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن في عام 2007. طوال هذه السنوات، حاول مراراً مشاركة الغرب والانضمام إلى حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، لكن طلبه قوبل أيضاً بالرفض مراراً وتكراراً. والأمر نفسه حدث مع الأفكار التي عرضها حول اتفاقية أمنية أوروبية، فقد أُسيء تفسيرها ووُصفت بأنها محاولة من روسيا للسيطرة على سياسات دول أوروبا الشرقية التابعة لها وتقييد حريتها.

    كانت نقطة تحوُّل بوتين عن مسار الحكم القائم على أوليغاركية موالية للغرب إلى نظام استبدادٍ مستند إلى القومية الروسية هو سقوط نظام القذافي في ليبيا. وليس الأمر هنا أنه كان مولعاً بديكتاتور ليبيا، بل المصالح النفطية والعسكرية الروسية التي باتت عرضة للخطر بعد إزاحة القذافي.

    امتنعت روسيا عن التصويت على قرار الأمم المتحدة الذي سمح باستخدام القوة العسكرية في ليبيا، وهو قرار تحمَّل ديمتري ميدفيديف، رئيس الوزراء الروسي في ذلك الوقت، معظم تبعاته من الغضب الروسي، عندما تبيَّن أن النتيجة ستكون تغيير النظام.

    وانتشر بعد ذلك مقطع فيديو روسي لا يُعرف من صوَّره، لكنه كان عالي الجودة، ويوصم فيه ميدفيديف بالخيانة، وهي الكلمات نفسها التي تُستخدم الآن لذمِّ ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين، اللذين يعدُّهما الغرب بطلين شاركا في إصلاح روسيا.

    وهكذا كان التدخل الغربي في ليبيا عام 2011، وليس غزو العراق 2004، هو الفاعل الحاسم في دفع روسيا إلى التدخل في سوريا عام 2015.

    ما الذي يُتوقع حدوثه الآن؟

    أول التغييرات البارزة التي ستنتج عن غزو روسيا لأوكرانيا هو أن روسيا باتت تفعل علانية ما لطالما اتهمت أمريكا بفعله: تغيير الأنظمة المعارضة وإحلال أنظمة موالية مكانها.

    وبعد أن ظلت روسيا عقوداً من الزمن تستنكر التدخلات الغربية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا، وتصفها بأنها تدخلات غير شرعية لتغيير الأنظمة، وبعد أن وصفت ثورات الربيع العربي بأنها ليست إلا مؤامرة كبرى رسمتها الاستخبارات المركزية الأمريكية، ها هي روسيا تولغ في الأمر نفسه في أوكرانيا.

    إنها تستخدم المنطق نفسه الذي استخدمته واشنطن في معظم السنوات الثلاثين الماضية. إنها تغزو أوكرانيا ليس لشيء إلا لأنها تستطيع ذلك، ولأنها تعلم أن الناتو لو تحرك لمواجهتها، فسيشعل حرباً نووية.

    في الشهر الماضي، قال ديمتري ترينين، وهو خبير مخضرم في السياسة العسكرية والخارجية لروسيا، ما يلي: "ربما نحن حقاً بصدد إنشاء (مشروع روسي) منفصل، وأن روسيا لم تعد تريد الاندماج في عالم يملك الغرب زمام أمره، وإن لم يكن المهيمن على كل شيء فيه. وبعد انفصالها عن الغرب، قد تقيم روسيا علاقات أوثق أو حتى تُحالف دولاً كبرى غير غربية، مثل الصين في المقام الأول، وإيران وغيرها من خصوم الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي، مثل فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا".

    "في ظل هذا السيناريو، قد تنتهج روسيا سياسة خارجية أكثر فعالية. وقد تبدأ موسكو في فعل الشيء نفسه الذي لطالما اتهمت الغرب كثيراً بفعله. وتسعى روسيا في هذا السيناريو إلى إنشاء مجالات نفوذ وحيازة الحق في استخدام القوة لإطاحة الأنظمة غير المرغوب فيها".

    لا عُذر

    في النهاية لا يوجد أي عذر لبدء حرب أخرى، ولا شيء من هذا يسوغ دخول الدبابات إلى أوكرانيا أو يجعله أمراً عادلاً.

    كنت في غروزني عام 1994 عندما حاولت الدبابات الروسية التسلل إلى هناك. خاض الشيشان معركة ضخمة، ونجحوا في الحصول على مهلة قصيرة، ولم يُسحقوا إلا عندما حاول بوتين الغزو مرة أخرى في عام 2000، في حرب عمد فيها إلى تسوية كل مبنى في البلاد بالأرض، وتنصيب مختل عقلياً ليصبح رئيساً للبلاد.

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق