تركتهم يتجمّدون حتى الموت.. أوربا تتجرّد من إنسانيتها!
ياسين أقطاي
تناثرت جثث المهاجرين قرب الحدود اليونانية بعد أن جرّدتهم السلطات اليونانية من ملابسهم وأجبرتهم على العودة نحو تركيا، ليلقوا حتفهم وقد تجمدوا من البرد في منطقة “إبسالا” بولاية أدرنة التركية. لقد أسقطت هذه الجثث قناع التجميل عن وجه أوربا.
ما جرى هو وصمة عار على الإنسانية، وهو أيضًا نذير لكوارث أعظم ستحل بهذا العالم الذي يكتفي بمشاهدة ما يجري.
اللجوء مأساة يمكن أن يتعرض لها أي إنسان، فيجب على كل من يشاهد صور جثث اللاجئين المتناثرة، أن يتخيل نفسه مكانهم على الأقل.
لا أحد يضمن لنفسه عدم الوقوع في هذا الوضع غدًا، أو غيره من عشرات الأوضاع المأساوية حول العالم، مثل الزلازل والفيضانات والحروب والحوادث النووية والحروب الداخلية والطغيان وغير ذلك.
إن الحقيقة التي يمكن أن تحدد قانون اللجوء، هي أن الجميع معرّضون لأن يكونوا لاجئين يومًا ما. ولذا فإن أقلّ ما يقال هو أن اللجوء حق عالمي، ومن ينتهك هذا الحق فقد ارتكب جريمة ضد الإنسانية.
وليس الماضي ببعيد
ومن المفارقة أن أولئك الذين يرفضون قبول اللاجئين في بلادهم اليوم، قد عاشوا بالأمس تجارب ثقيلة من اللجوء في الأراضي التي يظنون اليوم أنها ملكهم المطلق. إنهم يصدون اللاجئين من المياه التي لجأ إليها أجدادهم بالأمس، يصدونهم وقلوبهم تملؤها مشاعر الحقد والشح وانعدام الضمير.
من الواضح أنهم نسوا الماضي سريعًا، رغم أنه ليس بالماضي البعيد. فخلال الحرب العالمية الثانية كانت أوروبا ساحة للقتل والمجازر والمآسي بشكل لم تشهده البشرية من قبل أو من بعد. لقد أسفرت هذه الحرب الكبرى عن مقتل 50 مليون إنسان، بجانب ملايين اضطروا إلى ترك أراضيهم ومنازلهم. كان العالم أمام إبادة ممنهجة يشهدها التاريخ البشري للمرة الأولى.
والحق يقال إن أوربا خرجت من هذه الحرب بدروس عديدة، فقد حاولت تطوير بعض المعايير التي تضمن عدم تكرار ذلك في أوربا أو أي مكان في العالم قدر المستطاع، بل اتخذت إجراءات وتدابير مؤسسية بهدف تطبيق هذه المعايير في حال تم نسيانها أو تناسيها، لكن التدابير والمعايير جميعها كان مصيرها النسيان والتآكل عند مواجهة بضع موجات من اللجوء.
كذلك التدابير التي اتُّخِذت لمنع تكرار حدوث ابادات جماعية جديدة، بقيت ضمن حدود “عدم تكرار إبادات بحق اليهود” فحسب دون غيرهم، وبقيت أوربا عمياء صامتة أمام الإبادات والمخيمات التي تسبب بها الصهاينة بحق الفلسطينيين.
كان هذا الوضع بمثابة مؤشر على عجز أوربا عن تجسيد هذا الإحساس على مستوى عالمي.
ومع ذلك، فإن المعايير التي استمدها الاتحاد الأوربي من التجارب المريرة التي عاشتها المنطقة هناك -وإن كانت صورية- تبقى معايير مهمة لا يمكن رفضها. طبعًا من المعيب أن لا يلتزموا بما وضعوه هم أنفسهم من معايير، لكن هذا لا يعني رفضها وإنكارها. إن دفع اللاجئين بهذا الشكل نحو الموت عند الحدود اليونانية، يعني دفع هذه المعايير والمبادئ والقيم والإنسانية كلها نحو الموت.
بل الأسوأ
إن موت اللاجئين بهذا الشكل لم يحدث نتيجة إغلاق الباب في وجههم وتركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم. بمعنى آخر، ليست المسألة مجرد عدم إحساس فحسب، بل الأسوأ من ذلك هو النظر في أعين هؤلاء اللاجئين دون رحمة، وتجريدهم من ملابسهم بالقوة وإرسالهم إلى الموت. والشيء ذاته حينما تقوم السلطات اليونانية بإغراق قوارب اللاجئين عمدًا وإرسالهم نحو الموت، بما فيها من أطفال ونساء.
إن مسألة اللجوء خُلقت منذ أن خُلق العالم. فلقد شهد العالم على مر التاريخ تدفقًا بشريًّا من المناطق المضطربة إلى مناطق أقل اضطرابًا، ومن المناطق الفقيرة إلى الغنية، ومن المناطق المتأخرة إلى أخرى متقدمة. إن كيفية استقبال هذا التدفق تكشف جودة الحضارة لدى المكان المضيف.
واليوم تحدث موجات الهجرة واللجوء نحو الحدود الأوربية بسبب اضطرابات تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى الدول الأوربية ذاتها، ولا يمكن الهروب من تحمّل هذه المسؤولية من خلال إغلاق الأبواب أمام موجات الهجرة.
إن الرفاهية التي تعيشها أوربا مبنية في المقام الأول على السياسات الخاطئة التي اتبعتها في البلدان المصدّرة للهجرة. لا يمكن لأوربا التهرب من سداد هذا الدين، ولذا فإن كل مأساة تنجم عن العوائق التي تضعها على طريق الهجرة تضاعف خطايا أوربا وديونها.
بالنسبة لتركيا، فعلى الرغم من عدم وجود أي دور أو مسؤولية لها في تشكيل الأزمات المسببة للهجرة واللجوء، فإنها إلى الآن سارت وفق نهج إنساني إزاء اللاجئين أكثر من أي دولة أوربية أخرى.
لقد اتبعت تركيا سياسة منفتحة تفوق طاقتها وقدرة استيعابها للاجئين، ومع ذلك فإن مسألة اللجوء ذات حمل ثقيل لا يمكن لدولة واحدة التعامل معه لوحدها. ولذا فلا مفر أمام أوربا من تحمّل مسؤوليتها التاريخية في هذا الصدد.
للأسف الشديد، لا يزال البعض في تركيا أيضًا يفر من مواجهة المسؤولية الإنسانية التي يذكّرهم بها اللاجئون، ويسلكون ألف طريق من الحجج الواهية التي تسمح لهم بالتجرد من إنسانيتهم. هؤلاء أنفسهم يمارسون عنصرية بغيضة يلقنونها لجهلاء من أمثالهم، ويحرضون بها بشكل خطير على لاجئين مستضعفين، بشكل لا يتناسب أبدًا مع روح الشعب التركي على مر التاريخ.
يجعلون من أنفسهم أبطالًا مزيفين من خلال التحريض على أناس مستضعفين عاجزين، ويحمّلونهم أسباب جميع الأزمات الاقتصادية، من أجل إثارة الناس العاديين الذين يعانون البطالة ومشاكل أخرى.
ما حصل في أزمير من قتل 3 لاجئين، وما حصل في أنقرة من اعتداءات على منازل اللاجئين أيضًا يشير إلى أي درجة تبلغ خطورة هذا التحريض.
لا يمكن جعل اللاجئين سببًا مباشرًا أو غير مباشر لأي مشكلة يعانيها المواطنون، لكن الدعاية بهذه الطريقة أمر مربح للبعض، إلا أنه خطير للغاية في الوقت ذاته.
من يسلك طريق هذه الجهالة فقد سلك أسهل وأسرع طريق للخروج من الإنسانية والتجرد منها، ومن يدْعُ لهذا الطريق من السياسيين وغيرهم فقد تجرّد من الأخلاق والضمير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق