الأحد، 27 فبراير 2022

البلاشفة العرب: الانقلاب الضرورة والاحتلال الضرورة

 البلاشفة العرب: الانقلاب الضرورة والاحتلال الضرورة


وائل قنديل

أخرج العدوان الروسي على أوكرانيا عيناتٍ مختلفة الأحجام والأشكال من "البلاشفة العرب" الذين كانوا ينتظرون الفرصة ليرتدوا الأحمر، ويهتفون "لبيك روسيا .. لبيك بوتين".
مسألة الاحتياج الروسي الأراضي الأوكرانية، وإعمال آلة القتل والتدمير في الشعب الأوكراني، لا تحتاج إلى كثير من الأدلة والمعلومات، لكي يتخذ كل ذي عقل وضمير موقفًا أخلاقيًا منها، فهذا جنرال مخابرات روسي، يمتلئ هوسًا بأحلام إمبراطورية قيصرية، قرّر أن يغزو بلدًا مستقلًا ويقهر شعبًا حرًا، لكي يخضعه بالقوة العسكرية لنفوذه، ويلحقه بإمبراطوريته المتخيلة.
بموازين العدل والضمير والحس الإنساني الفطري، هذه عملية اغتصاب دولة واحتلالها والاستيلاء على أراضيها ومواردها الطبيعية، ما يجعلها جريمة كاملة الأركان، تستوجب الإدانة المطلقة، من دون التوقف عند أن أرشيف رئيس الدولة المعتدى عليها يتضمّن مواقف منحازة للاستعمار الصهيوني لفلسطين، أو أنه كان ممثلًا كوميديًا سابقًا، فالاعتداء ليس على رئيس أوكرانيا، وإنما هو على الدولة الأوكرانية وشعبها وسيادتها على أراضيها.

هي مسألة المبدأ الأخلاقي العام تفرض نفسها مجدّدًا لتضع الناس أمام اختبار بسيط في الحرية والإنسانية والاحترام: هل أنت ضد الاحتلال بشكل مطلق، أم أنك ضد الاحتلال الذي يطاول أرضك أو أرض أشقائك وأصدقائك وحلفائك فقط؟ هل أنت مع الحرية، حرية الشعوب والأفراد، بإطلاق، أم أنك تريدها لنفسك، ولمن تؤيدهم فقط؟
هو الاختبار ذاته الذي رسبت فيه معظم النخب السياسية والثقافية العربية في امتحانات عديدة بدأت منذ العام 2013 ولم تتوقف، وتصرّ على مواصلة السقوط بالطريقة ذاتها في الامتحان الروسي الأوكراني، حين تتخذ مواقف تصل إلى ذروة وقاحتها حد الدعم الكامل لذلك "المتقيصر" بوتين في اجتياح أوكرانيا واحتلالها، أو بالحد الأدنى من الوقاحة تبرّر له جريمته، بحجّة أن من شأن ذلك أن يمنح البشرية نظامًا عالميًا جديدًا، ثنائيا، أو متعدّد الأقطاب، ينهي الهيمنة الأميركية الغربية على الكوكب، ويصعد بروسيا والصين، معسكرًا شرقيًا مناوئًا ومكافئًا.
هي الانتهازية ذاتها، والصفاقة عينها، تمارسها تلك النخب بالمنطق نفسه، حين تآمرت وتواطأت مع الطغيان للإجهاز على مخرجات التغيير الديمقراطي العربي، وقتلها في مهدها، بحجج ومزاعم صفيقة من نوعية الخوف على الدولة المدنية من سيطرة قوى الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحكم بالانتخاب الحر.
قتلوا مبدأ الانتخاب الديمقراطي الحر، ودفنوه محروقًا وممزّقًا، بحجة إنقاذ الديمقراطية من الفناء، على أيدي الإسلاميين، كما في الحالة المصرية، التي روجت فيها النخب الانتهازية ما اعتبرته "الانقلاب الضرورة"، والنتيجة كما تراها الآن مجسدة في وجوه هذه النخب التي استقرّت في المنفى، مطرودة ومطاردة، أو عرفت طريقها إلى زنزانة التأديب والعقاب، لأنها تجاسرت وتحدثت في الشأن العام بما لا يلتزم على النحو المطلوب بما تريده السلطة منهم.
الانتهازية ذاتها تجلّت في تأييد معظم هذه النخب لجرائم بشار الأسد، المدعومة بالوجود العسكري الروسي المباشر، ضد ثورة الشعب السوري، بزعم الانحياز إلى ما يوصف بهتانًا معسكر المقاومة والممانعة، من دون أن يأخذ هؤلاء في الاعتبار أن الكيان الصهيوني أشدّ حرصًا منهم على عدم سقوط طاغية سورية، بالتنسيق مع بوتين، لتأتي اللحظة الراهنة، فتجد داعمي جرائم بشار هم مؤيدو جريمة بوتين في أوكرانيا، وكأن لسان حالهم يقول: مع الديكتاتورية وضد الحرية في كل مكان، وفي أي وقت، حتى لو كانت آثار صفعات هذه الديكتاتورية لا تزال ظاهرة على وجوههم حتى اليوم.
من التطوّع لخدمة "انقلابات الضرورة" في بلدانهم العربية، إلى التنظير والحشد من أجل "الاحتلال الضرورة" في أوكرانيا، يتحرّك هؤلاء في سياق منطقي للغاية، ومن ثم لا تدهشني أفعالهم أو ردّات فعلهم على الإطلاق، لكن الدهشة الحقيقية تأتي حين تجد جمهرة ممن أنفقوا واستثمروا في الجهاد ضد الغزو السوفييتي لأفغانستان في القرن الماضي، وقد اتخذوا الآن مواقف تبدو متواطئة، أو بالحدّ الأدنى تبريريةً للاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق