هل تستطيع الحضارة تحييد الجائحة؟
في زمن الأوبئة تفقد الحرية أغلى سماتها الإنسانية، فإما أن يخضع الفرد لمشيئة المجتمع والدولة، أو تتحلل الدولة من التزاماتها الأخلاقية والسيادية تجاه مواطنيها (الجزيرة)
رسمت حروب الإنسان العبثية ملامح أوطان يائسة يعتلي وجوه بنيها الخوف والحسرة على بيوتها المهدمة، وعيون لطالما ذرفت دموع الشوق وهي تجهز قتلاها نحو أَلْحَاد الآخرة، لا تملك القدرة على أن تعد أكفانا ولا قبورا لأولئك الذين خرجوا سراعا لا ينشدون الحرية والعدالة فحسب، بل مستقبلا مشرقا لكل مغترب أمسى ضحية جور الإنسان وطغيانه.
ما عاد التراب وحده يضم أجساد المسجونين والمغيبين؛ إذ الحرب قدمت قرابينها للبحر لربما تستقر الحضارة على حال العائدين من غيابات وهم التسلط، عسى أن ينهي الإنسان هوسها بالنهب والقتل وبث الخوف في نفس أخيه الإنسان، فلا الشرائع -على اختلافها- أوقفت هدر الدماء، ولا مواثيق الحضارة المكفولة بحق البشرية في الحياة اقتدرت على لجم طغيان الشر.
عن الطبيعة وتقلباتها
وحدها الطبيعة المتقلبة -في قوانين بَارئها- من جردتنا من أنانيتنا وقوتنا، وأسلمتنا إلى ضعفنا وحقيقة أمرنا، وأعلنت حربا تفاوتت أطوارها على جشع البشر وفسادهم الذي أهلك توازنها، ولولا أن "تساوى الخلق" فيها لافتدى القوي بحيلته والضعيف بفقدانها، ولكن المشيئة أن تضرب الطبيعة عالما مفتقدا للحقيقة، علّها ترجعنا إلى صوابنا وعقلانيتنا، والحقيقة أنّ قهر الإنسان للإنسان لا يتوقف إلا أن تُوغل الطبيعة في طغيانها نحو عالمنا فتمسك بقدرنا ومستقبلنا، وهي بذلك ترسم حدودا للخوف والهلع غير التي اختبرتها الحضارة، وأينما حلّت الكارثة كان لزاما أن يدفع الإنسان ثمن خطاياه، فحرب البشر فيما بينهم وإن بدت وفرة غنائمها، إلا أنّ الطبيعة لا تغنم من شيء سوى الإنسان ذاته.
الطبيعة التي فطرها الله لا تفرق بين قوي وضعيف ولا أبيض أو أسود، فلها قوانينها الخاصة لردع سطوة الإنسان على العالم، وإن بدت في تقلبها مجردة من القوة مع تنامي الحضارة البشرية، إلا أنّها -وبكل جدارة- أثبتت للحضارة مدى قدرتها على التنوع والاختلاف في كل شيء، فالحياة لديها لا تتوقف عند قانون الاندثار والأفول، فمن الموت تبدأ دورة الحياة وتستمر الأجناس -على تنوع مشاربها- في التكاثر، ومع أنّ البشر عليها معاشهم فهم منها مبعدون، لا يتعلمون أن "صحّتهم من سلامة الأرض" التي يعمرونها، وأمنهم مرهون بالحفاظ على توازنها الطبيعي، فهدر الثروات والاستمرار في سرقة الحياة البيئية وتسخيرها للإنسان وتلويثها بمخلفات المصانع نتيجته وخيمة، مع ظهور زيادة في مستويات الدفيئة وانقراض بعض الأصناف الحيوانية، بل إنّ الأمراض والأوبئة باتت تهدد الجنس البشري في كل نقلة اقتصادية، لتتكشف معها الحاجة الماسة لتأمين الإنسان من المخاطر الصحية والبيئية التي تفرضها معدلات النمو المتسارعة للصناعات والتكنولوجيات المتطورة، فردة فعل الطبيعة على التعدي لا تأمن الحضارة نتائجه الاجتماعية والاقتصادية، فيكفي أن يضرب زلزال أو إعصار لتشاهد الحضارة حجم خسائرها الاقتصادية والبشرية.
الحرب التي تفرضها الطبيعة على البشر تكون أكثر فتكا ودمارا، فريحها تمنح الموت القدرة على التسلل بصمت مخيف، في صورة سوداء قاتمة كلعنة أينما حلت كان الهلاك، تلك الصورة مهما تغيرت أسماؤها من الطاعون والجدري والإنفلونزا وغيرها من الفيروسات المعدية لا تعدو عناوين لأسماء جائحات فتاكة كانت وما زالت ترعب الجنس البشري؛ يكفي أن يتحرر واحد منها عن الطبيعة فيضرب عالمنا حتى ندرك زيف الحدود التي اصطنعتها الاقتصادات الناهبة والسياسات الزائفة. فلقرون عدة، كان الخلاص من الحرب الصامتة التي تشنها الفيروسات على الإنسان أن يلزم الإنسان بيته ومسكنه، وذلك لقلة حيلة العلم والطب في ردع المرض، ونحن اليوم مع ما يشهده العالم من تطور في البنى الاقتصادية والتكنولوجية نواجه المصير ذاته الذي واجهه إنسان العصور القديمة.
نظام الوفرة اللاأخلاقي
في زمن الأوبئة تفقد الحرية أغلى سماتها الإنسانية، فإما أن يخضع الفرد لمشيئة المجتمع والدولة، وتصبح الحرية الفردية مهددة بالعوامل والإجراءات الاستثنائية المفروضة من الدولة، أو تتحلل الدولة من التزاماتها الأخلاقية والسيادية تجاه مواطنيها فتتركهم كالقطعان يساقون إلى الموت. وما بين حجر الحرية الفردية وسلب الناس إرادتهم وحياتهم العامة وترك المجتمع والأفراد لمصير مجهول، يكمن المعنى الحقيقي لكيفية استغلال الدول والحكومات للمآسي البشرية بفرض مزيد من القيود على حركة الناس ونشاطهم، من دون مراعاة للفروقات الاجتماعية والمصالح الفردية المكرسة للعلاقة التي يمكنها تقليل الخسائر الناجمة عن الجوائح والكوارث. وبدل أن تقوم المؤسسات الحكومية -كجهاز عمومي ممثل للدولة- بتحسين الظروف الاستثنائية واستثار الحلول الاستعجالية، ودفعها بتعبئة مؤسساتية نحو رهانات صحية جديدة، يتم الإجهاز على التوصيات الصحية والطبية بكثير من الدوغمائية والشعبوية المتجذرة في النظم المستبدة، أو تقليل حجم المخاطر الصحية بفرض أرقام وإحصائيات نسبية؛ بغية الحفاظ على تدفقات المشتقات المالية، مما يعزز المخاطر الاقتصادية والاجتماعية لنظام العولمة المتجاوز قيم العدالة والكرامة والإنسان، فتستعيد الدولة زخمها وحدودها الجغرافية والهوياتية بعد "تحييد الجوائح" لسياسات تحرير السوق والثقافات العابرة.
ومع هذا السيل الجارف لقوى الإنتاج والاستهلاك وتوثين السلع، تقف الإنسانية على مفترق طرق وعرة إزاء ما يحاك لها من قوانين وتشريعات تروض وتطوع قيمها المشتركة ضمن سياسات الهيمنة النيوليبرالية الاستعمارية، بعيدا عن رغبة شعوب العالم لتقاسم عادل للثروة، ومع استفحال الأوبئة وتنوع مخاطرها ونزوع الغرب نحو مزيد من الحروب بغية السطو والنهب لمستعمراته السابقة، أصبح الرهان العالمي على تأمين الحالة الصحية للإنسان مدعاة للتنافس والاستغلال من طرف المؤسسات العابرة للقارات وشركات الأدوية المحلية، وغدت حرية الإنسان يهددها التسابق المحموم للوبيات الأدوية ورعاة رؤوس أموالهم المتنقلة، مع ما تفرضه الحكومات من بروتوكولات صحية تجاه مواطنيها من دون تخصيص مراكز استشفائية ومخابر طبية ورعاية صحية تقي مواطنيها تهافت المستثمرين في مجالات الأدوية والعقارات، فالمسؤولية الأخلاقية الملقاة على عاتق الدولة لا تكمن في الحفاظ على سلامة الناس وأمنهم وحسب، بل في بعث روح التضامن الإنساني بين فئات مختلف هيئات المجتمع المدنية، ولعل السبيل لفعل ذلك غرضه تقليل الخسائر الاقتصادية والتجارية المتوقفة بسبب سياسات الغلق التام.
ومثلما تفقِدنا المخاطر الناجمة عن التحولات الطبيعية وتطورها قدرتنا على تحريك عجلة الاقتصاد نحو تنمية وأرباح مستدامة، فإنها كذلك تحرك مياه التغيير داخل البنى الاجتماعية والثقافية لكل أمة، كي ترسم ملامح علاقات اجتماعية جديدة من خلال بعث روح "المسؤولية الأخلاقية" تجاه الفرد والمجتمع، وبدل أن تكون الجماعة ملاذا آمنا للحفاظ على استقرار النظام الاجتماعي وتنوعه الثقافي، يصبح الفرد الأداة والرقم الأول في سلسلة العدوى التي تفرضها الجوائح مثلا، والمترتبة على متلازمات مختلفة من قبيل الخوف من الإسلام ورهاب الحرية.
يكفي أن يفقد شخص ما توازنه العقلاني تجاه ذاته حتى يدرك المجتمع برمته مدى الهلع والرعب الناجمين عن رغبته في القضاء على من اعتقد أنه مهدد له، ولو نظر للمرآة أنى لها أن تعكس إلا نوعا واحدا ولكنها حمالة صور وألوان متنوعة، لامتهن التوافق كأسمى تجليات العيش المشترك بين أطياف المجتمع، من أجل ذلك فرضت الطبيعة قانونا ساميا باقيا لا حيد عنه لأحد، وهو سلامة وأمن الناس هو رهن سلامة وأمن الفرد، وأنّ الحرية لا تكمن في الرغبات الكثيرة للإنسان، بقدر ما تتأتى في جدوى اختياراته والقدرة على تحقيقها، إذ إنّ ارتباط البعض بمشيئة غيره سبب آخر لرفض التنوع وفض عرى الاختلاف.
علينا أن نسعى جاهدين للحفاظ على ما تبقى من إنسانيتنا وتنوعنا واختلافنا، أن نقف في صف واحد ضد هوسنا بالأبدية والخلود اللذين يدفعان البشرية نحو الهلاك، ألا تكفي أعداد القتلى والمهجرين كي تستريح الإنسانية ولو يوما من تاريخها من دون أن تسمع أصوات البنادق وصافرات الإنذار وأنين الضحايا؟ يبدو الأمر أكثر صعوبة لتحقيق الطموح الإنساني في تخليق عالم يخلو من تهافت السياسيين نحو الحرب والاستغلال، فالحضارة اليوم لا تعيش أزمة إنتاج ولا نضوب الثروة الطبيعية، إذ إنّها تمر بمرحلة فائض إنتاجي رهيب ضرب بنية نظامها الحداثي من تطوير العالم إلى استغلال الجشع للإنسان، وبدل العمل على تجريم "التسليع المستمر للطبيعة والإنسان" بشكل مفرط، يتصارع الفيلة الكبار من رواد المنتجعات الرأسمالية على مزيد من الأسواق الآمنة، في تسابق نحو توريد الأسلحة إلى مناطق الصراع أو تكديسها في مخازن الدكتاتوريات، ولعل حضارة لا تملك القوة على ردع الهيمنة اللاأخلاقية لقوى الشر، لا يمكنها الاستمرار وإن بدت معالم تطورها وتفوقها تتصدر بورصات المضاربة، إذ إنّ ميزان القوى في صراع الحضارة مع قوى الطبيعة وقيمها الكونية لم يكن يوما منذ نشأة العالم البشري لصالح الحضارة، إن هي حادت بطغيانها عن الكونية التي من شأنها أن تعلي من قدر البشر لتمنحهم إنسانية مستدامة، لتحقيق ما يرفض تسميته بــ"العالم الأخلاقي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق