الجمعة، 11 فبراير 2022

مُسَاجَلَاتُ ضَرْبِ الزَّوْجَةِ.. زَوْبَعَةٌ فِي قَعْرِ “فِنْجَان”

 

مُسَاجَلَاتُ ضَرْبِ الزَّوْجَةِ.. زَوْبَعَةٌ فِي قَعْرِ “فِنْجَان”

الإحصائيات عن الواقع الأسريّ في أمريكا: إن نسبة تزيد بكثير عن النصف من رجالها يضربون زوجاتهم ضربًا مبرحًا

د. عطية عدلان

لم يجاوز الحقيقة عندما أَوْضَحَ أنّ ضرب الزوجة إذا نشزت ليس سوى إجراء رمزيّ؛ يهدف إلى كسر كبرياء المرأة ونشوزها وعلوها على زوجها؛ فإنَّ المرأة إذا نَشَزَتْ وارتفعت على زوجها، ثم استمرت في ذلك النشوز والاستعلاء الذي لا موضع له تجاه الزوج صاحب القوامة في مؤسسة الأسرة؛ أدى ذلك إلى “هدم المعبد” على الجميع كما قال، ولم يجاوز الحقيقة كذلك عندما بيّنَ أنّ التوجيه بالضرب في كتاب الله لم يأت مقدمًا، وإنّما جاء تاليًا في المرحلة الثالثة من مراحل التقويم، وأنّ مجيئه لم يكن على وجه الوجوب والإلزام والحتم، وإنّما جاء -وإن كان بصيغة الأمر- للإرشاد فقط والتوجيه.

أجل.. لم يجاوز شيخ الأزهر الحقيقة؛ كيف؛ وهي ظاهرة وبادية في محكم القرآن؟! قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (سورة النساء: 34).

في سياق التنظيم

هذه الآية جاءت في سورة النساء التي اعتنت عناية كبيرة بحقوق المرأة وأنصفتها ورفعت عنها ما ضُرِبَ عليها من الآصار والأغلال والعضل والإهمال، وجاءت في سياق التنظيم والترتيب لمؤسسة الأسرة، وهي تتعرض للإجابة عن سؤال منطقي جدًا: هذه المؤسسة الجماعية كيف تُدَارُ؟ أتمضي في طريقها بلا قائد، وتتخبط في سيرها خبط عشواء؟! أم نُسَلّم قيادها للزوجين، ليقع التنازع بينهما صباح مساء؟! لا ريب أنّ كلا الخيارين مفسد، فلا بد -إِذَنْ- من تسليم قياد الأسرة لأحد الطرفين، على أن يكون رحيمًا لطيفًا مسؤولًا، فمن منهما اللائق -فطرةً وطبعًا واستعدادًا- بهذه المسؤولية الكبيرة، إنّه الرجل ولا ريب.

وليس في هذا أدنى إهانة للمرأة، ولا أدنى تنقيص لها، هذا -فقط- من قبيل توزيع الاختصاصات بحسب الاستعدادات التي وهبها الله لكل من الطرفين، فالمرأة لديها من المواهب ما ليس للرجل، فهي تستطيع أن تربّي الأولاد، وأن تعنى بالبيت أكثر من الرجل، أما هو فقادر على خوض غمار الحياة خارج البيت لحماية الأسرة من كل مخاطر العوز والفاقة، ولتوفير ما يجب لحياتها وقيامها واستمرارها، ولأنّ الله قد وهبه قدرةً على تحمل المسؤولية، وعلى تغليب العقل على العاطفة، وعلى التصرّف في المواقف الحرجة.

ونحن إنْ عدنا إلى اللغة العربية التي نزل بها القرآن وجدنا أنّ القوامة تشمل المعنيين([1])، الأول: الإمارة والسياسة والإدارة والمسؤولية، الثاني: القيام بالإصلاح والرعاية والإنفاق والمؤنة، وسبيل الرشد يكون بعدم استبعاد أحد المعنيين الداخلين في اللفظ إلا إذا عزّ الجمع بينهما في سياق معنوي متسق، والحقيقة أنّ المعنيين متضمنان متكاملان؛ وقد نقل الإمام الطبريّ -رحمه الله- عن السلف من الصحابة والتابعين أقوالًا متقاربة؛ ليؤكد هذه الحقيقة: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)، ومعناها: “الرجال أهل قيام على نسائهم، في تأديبهن، والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم”([2]).

تميز جنس الرجال

فالمرأة كالرجل في كل ما يتعلق بالإنسان كإنسان، من حرية وكرامة ومسؤولية وتكليف وحساب وجزاء وحقوق وغير ذلك، لكن مع ذلك فجنس الرجال يتميز -في الجملة والعموم- عن جنس النساء بصفات لها تعلّق بالوظيفة لا بأصل الإنسانية ولا بالكرامة، فالرجال -كما هو معلوم من التجربة الإنسانية كلها على اختلاف الأجناس البشرية- يتميزون بصفات تجعل لهم دون النساء القوامة، وذلك على وجه العموم “وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل، والحزم، والعزم، والقوّة…، وَبِما أَنْفَقُوا وبسبب ما أخرجوا في نكاحهنّ من أموالهم في المهور”([3]).

ومن القوامة إلى التقويم تنتقل الأمور بشكل منطقيّ واقعيّ؛ انتقالًا تحتّمه الضرورة والحاجة، ويأتي هذا الانتقال متدرجًا، فالوعظ يتصدر التسلسل الصاعد، يليه الهجر في المضجع فقط، هجرًا لا يزيد عن ثلاثة أيام، ثم يأتي الضرب، الذي يحاط بجملة من المحاذير والضوابط أشارت الآية إلى إحداها للتنبيه على ما هو أدناها: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلًا)، وقد تولت السنّة المطهرة تفصيل ما أجمله القرآن من المحاذير والضوابط، ومن التهذيب للأداء بما لا يخل بكرامة المرأة.

وليس من العقل ولا من المنهج العلميّ أن نهجر ظاهر القرآن الذي نصّ على الضرب (واضربوهنّ) لنركض في نزق وطيش وراء تأويلات لم يقل بها أحد من المفسرين من السلف أو الخلف، ولا يحتملها السياق ولا تسيغها اللغة، مثل قول من قال: إنّ لفظة (اضربوهنّ) تعني الإضراب عنهن، فهذا خطأ فاحش؛ لإنّ الإضراب لا يتعدى مباشرة كالضرب، فلا يسوغ في فصيح اللغة أن تقول: “أَضْرَبْتُ المقالَ”، وتعني أنَّكَ: “أضربتَ عن المقال وانصرفتَ عنه إلى غيره”، ولو كان المعنى هو الإضراب عنها والانصراف عن الاهتمام بها وعدم الاكتراث؛ لكان ذلك تكرارًا لا فائدة منه، ولا سيما مع وجود الواو التي تقتضي المغايرة، فإنّ الإعراض عن المرأة الناشز والانصراف عنها متحقق في الهجر في المضجع.

ليس من أهل الاختصاص

وما دام المدعو “إسلام البحيري” ليس من أهل الاختصاص؛ فليس له أن يعترض على المعنى الواضح الصريح في الآية، ولا سيما إذا جاء اعتراضه على وجه التعريض بعلماء الأمة الذين نقلوا العلم بالسند جيلًا من بعد جيل، فالمعنى الذي نقله العلماء للنشوز متفق مع اللغة ومنسجم معها، فالنّشَزُ في اللغة هو الشيء المرتفع، بل إنّ النون والشين لا تقعان فاء وعينًا للكلمة إلّا دلتا على هذا المعنى أو ما يقاربه: ارتفاع عن الشيء ومباينة لأصله وعدم انسجام مع حقيقته([4])، وهذا المعنى اللغويّ المستقر هو الذي نقله المفسرون، فالنشوز هو: “الارتفاع، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المعرضة عنه، المبغضة له”([5])، ونشوز النساء يعني: “استعلاءَهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فُرُشهم بالمعصية منهن، والخلاف عليهم فيما لزمهنّ طاعتهم فيه، بغضًا منهن وإعراضًا عنهم”([6]).

هذه هي الحقيقة التي لم يتجاوزها شيخ الأزهر في حديثه؛ فَفِيمَ المساجلات والمجادلات التي جاءت على إثر عرض مشروعٍ لقانونٍ مجنون، ينص على تغليظ عقوبة ضرب الزوجة؟ ولماذا هذا القانون في هذا التوقيت؟! وما هذه الحرب المسعورة على الأزهر؟ أسئلة وتساؤلات تحوم وتحلّق حول فضاء سبحت في النزغات والأهواء، لماذا كل هذا؟ ولماذا هذ الانصراف المثير للدهشة عن القضايا الكبرى التي تضغط على واقع مصر السياسي والاقتصادي والأمني إلى قضايا لا شأن للسياسة بها ولا الإعلام؟!!

إنّ ظاهرةَ ضربِ القسوة في تعامل الرجال مع النساء عمومًا ظاهرة متفشية لأسباب لا علاقة لها بالآية ولا بالحكم الشرعيّ، ولا هي مسؤولية في عنق شيخ الأزهر عن رجال فقدوا أعصابهم بسبب ما اجتمع على رؤوسهم من مصائب الفقر والقهر مع ما يبثه الإعلام الرديء صباح مساء من شبهات وشهوات؛ بلغت من تأثيرها أن يركب كثير من شبابنا وفتياتنا قطار الشذوذ والإلحاد وفقدان الذات؛ ليمضي بهم وبالوطن كله إلى ظلام المجهول وأدغال الضياع.

على مدى التاريخ كله في بلادنا وفي غير بلادنا لم يكن الخطاب الديني سببًا في قسوة الرجال على النساء، ولا في الخشونة المتبادلة في المعاملة بينهما، واسألوا الواقع الذي تعيشونه لتتأكدوا أنّ أكثر الناس صيانة لأسرهم وتقديرًا لزوجاتهم هم أهل الصيانة والديانة وفي مقدمتهم الصادقون من أبناء الأزهر الشريف، وأنّ أكثر الرجال قسوة في معاملة النساء هم البعيدون عن الشرع، وأنّ المسلم في بلادنا وفي غير بلادنا كلما ازداد من القرآن والسنة قربًا وفهمًا ووعيًا ازدادت علاقته بزوجته وأسرته قوة واستقامة.

تحرير المرأة

فإذا تحركنا قليلًا صوب الغرب -الذي صدّر إلينا أولئك المناكيد الذين يتذرّعون بدعوى تحرير المرأة لينالوا حريتهم في الوصول إليها- وجدنا الإحصائيات الكارثية، إذْ تقول الإحصائيات الموثقة عن الواقع الأسريّ في أمريكا: إن نسبة تزيد بكثير عن النصف من رجالها يضربون زوجاتهم ضربًا مبرحًا يؤدي في أغلب الأحوال إلى عاهة، وإن 17% من تلك الحالات تستدعي الدخول للعناية المركزة([7])، وإنّ زوجة كل 18 ثانية يضربها زوجها([8])، وإن امرأة من كل امرأتين تتعرض للظلم والعدوان من زوجها([9])، وإن العجائز الفقراء هم من النساء، وإنّ 85% من هؤلاء يعشن وحيدات([10])، وإنّه في عام 1977م كان الاغتصاب للنساء بمعدل حالة كل ست ثوان، وإنّ عدد مَنْ عملن بالبغاء من عام 1980 إلى عام 1990 قارب المليون؟! أمَّا في بريطانيا فإنّ أكثر من 50% من الفتيات في بريطانيا كن ضحايا الزوج أو الشريك، وإنّ 100 ألف مكالمة سنويًا للإبلاغ عن الاعتداء من الزوج أو الشريك!

هذه هي المرأة هناك، لذلك كان طبيعيًا أن تكون ردة الفعل عنيفة، إلى حد أنّ منظمة أنثوية أمريكية تدعى: “حركة تقطيع أوصال الرجال”! تنادي باستئصال آفة الرجال من المجتمع، وأنَّ كاتبة أمريكية تؤلف كتابًا عن الرجل تسميه: “العدو”! هذا بخلاف الشعارات التي ترفعها جمعيات نسوية مثل: شعار: “الحرب بين الجنسين”! وشعار: “القتال من أجل عالم بلا رجال”!([11]).

إن المرأة في كل مكان في الأرض لها قضية، بل قضايا، وتحت كل نظام في هذه الحياة لها شكاية وحكاية، بل شكايات وحكايات، أما على أرض الإسلام وتحت مظلة القرآن فلا شكاية للمرأة ولا حكاية، وإنه لا يعرف دين أنصف المرأة وأكرمها ورفع شأنها مثلما فعل الإسلام؛ لذلك لا قيمة لهذه السجالات التي يراد منها صرف أنظار الخلق عن قضايانا الكبار، وإثارة الجدال والسجال حول الأزهر وقيمته في المجتمع المصريّ والعربيّ والإسلاميّ، فلينتهوا عن هذا العبث، فليس ثم ما يستدعي الجدال والسجال، إنّها معركة في غير ميدان وزوبعة في قعر فنجان.


([1]) العين (5/ 232) – لسان العرب (12/ 503) – لسان العرب (12/ 497) – المحكم والمحيط الأعظم (6/ 592) – المعجم الوسيط (2/ 768).
([2]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/ 290) – وراجع: الوجيز للواحدي (ص: 262) – تفسير الماوردي = النكت والعيون (1/ 480).
([3]) تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 505).
([4]) إعراب القرآن وبيانه (2/ 206).
([5]) تفسير ابن كثير ط العلمية (2/ 257).
([6]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/ 299).
([7]) الذي قال هذا هو الدكتور: (جون بيريه) أستاذ علم النفس بجامعة (كارولينا) انظر: كتاب (المرأة في الحضارة الإسلامية) د. علي جمعة صـ89، 90.
([8]) هذا حسب تقارير وكالة fpt , المصدر السابق صـ90.
([9]) صحيفة family teltion عن المصدر السابق صـ90.
([10]) تقرير: (قانون المرأة السنوي، الصادر عن الدراسات الدولية حول المرأة بمدريد، عن السابق صـ54).
([11]) مصطلح حرية المرأة بين الكتابات الإسلامية وتطبيقات الغربيين، د.محمد موسى الشريف، ط دار الأندلس، صـ40.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق