لو شاءَ الله ما أشرَكنا، ولو شاء الله ما عصينا.. مناقشة قرآنيّة
محمد خير موسى
هل السؤال عن ارتكاب المعصية تحت تأثير القدر والإرادة الإلهيّة جديدٌ معاصر أم قديم ذكره السّابقون؟ وهل ورد في القرآن الكريم؟ وكيف تعامل معه القرآن الكريم إن كان قد ذكره؟ هكذا تساءل صديقي وهو ينظرُ إليّ بشغف.
آيات قرآنيّة ثلاث
يا صديقي؛ إنّ هذه الطريقة في الاحتجاج على عدم المسؤوليّة عن الأفعال، وإلقاء تبعاتها على مشيئة الله تعالى، بدعوى أنّ الله عزّ وجلّ كتب ذلك وقدّره ليست حديثة، والسؤال عنها ليسَ سؤالًا معاصرًا بل هو سؤال قديم يتمّ إنتاجه في كلّ مرحلةٍ بصياغة مختلفة، ويلبس في كلّ عصر ثوبًا جديدًا غير أنّ جوهر الفكرة واحد منذ بداية الدّعوة الإسلاميّة وتذرّع المشركين لشركهم بإرادة الله تعالى ومشيئته.
وقد بيّن الله تعالى ذلك في أكثر من موضع من الكتاب الكريم ورسم منهجًا عامًّا للرّدّ على هذه الذّريعة.
ففي سورة الأنعام يقول تعالى: “سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ”.
وكذلك جاء الحديث عن هذه الذّريعة في سورة النّحل إذ يقول ربّنا تبارك وتعالى: “وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ”.
وفي سورة الزّخرف أيضًا ينقل البيان الإلهي تذرّع المشركين بهذه الذّريعة فيقول تعالى: “وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم ۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ”.
ونلحظ في تعامل المنهج القرآنيّ مع هذه الذّريعة في الآيات التي ساقت تذرّع المشركين بالقدر على انغماسهم بالشّرك، أنّه قام على ثلاث ركائز رئيسة:
الرّكيزة الأولى: الحوار منهجًا
إنّ القرآن الكريم يردّ على المشركين الذين يحاولون أن يسوّغوا شركهم ويتذرّعوا له بذرائع يعلمون هم عدم صدقهم فيها، ويفعلون ذلكَ عنادًا وسخرية؛ فيصفهم بممارسة الكذب والتخريص، وهنا لا بدّ من التفريق بين الشباب الحائر الذي تقفز إلى أذهانه هذه الأسئلة فعلًا فهؤلاء تجب محاورتهم بتلطّف وسعة صدر، وبين من يستخدمون هذه الذّرائع عنادًا واستنكارًا واستخفافًا.
كما نلاحظ أنّه على الرّغم من وصف القرآن أقوال المشركين المعاندين والمستهزئين الذين يستخدمون هذه الذريعة بالكذب فإنّه ردّ عليها ضمن حوارٍ منطقيّ، وفي هذا رسالةٌ بضرورة أن يكون الحوار وتفكيك الخطاب هو السبيل إلى التّعامل مع هذه الذّريعة ولو كان باعثها العناد فمن باب أولى أن يكون الحوار هو النّهج حين يكون الباعث هو الحيرة والقلق المعرفي.
الرّكيزة الثّانية: مشيئة الله تعالى غيب
يؤكّد البيان الإلهيّ أنّ ادّعاء المشركين أنّ الله تعالى هو الذي شاء لهم أن يشركوا ما هو إلّا محض ادّعاء لا قيمة له ولا دليل عليه.
ويؤكّدُ أنّ مشيئة الله تعالى غيبٌ لم يطّلع عليه أحدٌ لا المشركون ولا غيرهم فكيفَ يدّعون أنّ الله تعالى شاء لهم أن يشركوا، فإن كانوا صادقين وعندهم بذلك بيّنةٌ يقينيّة فليظهروها “قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ” وكذلك “مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ”.
فادّعاء المشركين وكذلك ادّعاء العصاة أنّ الله هو الذي شاء لهم أن يرتكبوا هذه المعاصي هو نوعٌ من الادّعاء المفتقر إلى أدنى أنواع الصّحة، فما الذي أدراهم أنّ الله تعالى شاء لهم هذا ولم يشأ لهم غيره، فهذا الادّعاء هو نوعٌ من الهروب من المسؤوليّة بإلقائها على مشيئة الله تعالى دون أدنى دليل أو علمٍ أو قدرةٍ على الإثبات.
الرّكيزة الثّالثة: التفكّر في عذاب الأمم المكذّبة السّابقة
في هذه الآيات يدعو القرآن الكريم من يحتجون بالقدر على المعاصي والذّنوب والوقوع في الشّرك إلى النّظر في عواقب الأمم السّابقة التي تذرّعت بالذّريعة نفسها؛ فماذا كانت نتيجتهم؟ كانت النتيجة أنّهم ذاقوا العذاب الشّديد من الله تعالى، وفي هذا رسالة مهمّة بأنّ هذه الذّريعة لا تنجي صاحبها من بأس الله تعالى، فإن كانت غير نافعةٍ في صيانته من العذاب فما هي قيمتها إذن؟
ثمّ إنّ في ذلك دلالة على بطلانها فلو كانت صادقةً أو محقّةً لكان تعذيب الله تعالى للقائلين بها نوعًا من الظلم وحاشا لله تعالى أن يظلم مثقال ذرّة، فلمّا قال: “كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ” وقال: “كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا” بيّن أنّهم ذاقوا البأس جزاءً عادلًا لأنّ هذه الذّريعة كانت مجرّد ستار أوهموا أنفسهم به بأنّهم على الحق، كما بيّن أنّ تذرّعهم بهذه الحجّة لم يحمهم من العذاب؛ فكيف يتذرّع بها عاقل بعد ذلك وهو يعلم أنّها لا قيمة لها ولا أثر.
لذلك نجد أنّ الصّحابة رضي الله عنهم كانوا في غاية الحرص على ألّا يسلموا أنفسهم لهذا الوهم والتخريص وخداع الذّات؛ فممّا يروى أن أحد اللّصوص سرق في عهد عمر رضي الله عنه فأُحضر بين يديه فسأله عمر قائلًا: لم سرقت؟ فقال: قدّر الله عليّ ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: اضربوه ثلاثين سوطًا ثم اقطعوا يده، فقيل له: ولم؟ فقال: يقطع لسرقته ويضرب لكذبه على الله.
وأختم بكلامٍ نفيسٍ قاله سيّد قطب في “الظلال” تعليقًا على هذه الآيات:
“إن لله أوامر ونواهي معلومة علمًا قطعيًّا، فلماذا يتركون هذه المعلومات القطعيّة ليمضوا وراء الحدس والخرص في وادٍ لا يعلمونه؟
هذا هو فصل القول في هذه القضيّة؛ إنّ الله لا يكلّف الناس أن يعلموا غيبَ مشيئته وقدره حتى يكيّفوا أنفسهم على حسبه، إنّما يكلّفهم أن يعلموا أوامره ونواهيه ليكيّفوا أنفسهم على حسبها، وهم حين يحاولون هذا يقرّر الله سبحانه أنه يهديهم إليه، ويشرح صدورهم للإسلام، وهذا حسبهم في القضية التي تبدو عندئذٍ في واقعها العملي يسيرةً واضحةً بريئةً من غموض ذلك الجدل وتحكّماته!”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق