الثلاثاء، 7 يونيو 2022

هجمات (التتر) بين الماضي والحاضر

 هجمات (التتر) بين الماضي والحاضر


يظن بعضُ الناس أنَّ الهجومَ التتريَّ الشرِسَ على العالم الإسلامي حِقْبةٌ زمنية وانتهت، وأن الحملاتِ الصليبيةَ الوحشيةَ على المسلمين ومقدَّساتِهم نمطٌ من أنماطِ العداوة بين الكفارِ والمسلمين لن يتكررَ لها مثيلٌ، وهذا ظنٌ خاطئٌ، يكذِّبُه الواقعُ المعاصر ويعيدُ اليهودُ والنصارى فصولَه هذه الأيام …

الإعصار التتري على ديار الإسلام

لم يكن بين فاجعةِ المسلمين في بغدادَ وسقوطِ الخلافةِ العباسية على أيدي التترِ سنة (656 هـ)، وبين عزِّ المسلمين وانتصارِ الإسلام وهزيمة التتار في عين جالوتَ (658 هـ) سوى عامينِ فقط .. فما هي أسبابُ الذلِّ والهوانِ في الأُولى؟ وما هي عواملُ النصرِ والعزّة في الأخرى؟

إن المتأملَ في أحداث التاريخِ يرى أن إعصارَ التتر كان جارفًا قَدِمَ من المشرقِ فأباد عددًا من الدول والممالِكِ، وأفنى ما لا يُحصَى من البشر، وعاثَ جيشُه في الأرضِ الفسادَ … لا ينتهي عند حدودِ السيطرةِ السياسية والمكاسبِ الاقتصادية، بل قَصَدَ الدينَ والخُلُق والعِرضَ بالفساد …

وكذلك يفعلُ المجرمون. وحين كان التتارُ على أعتابِ بغدادَ هُزم المسلمون من داخلِهم قبل أن تَحِيقَ الهزيمةُ بهم على أيدي عدوِّهم …

أجل لقد كان الوزيرُ الرافضيُّ ابنُ العلقميِّ متمكنًا في الدولة وصاحبَ رأي عند الخليفة المستعصِم بالله، وهو الذي أشارَ على الخليفة: أن لا قِبَلَ للخلافةِ الإسلامية بمقاومة الجيش التتريِّ، وأنَّ على الخليفة أن يبعثَ بوفدِ سلامٍ إلى هولاكو محمَّلًا بالهدايا القيِّمة، فوافق الخليفةُ على هذا العرضِ ونفَّذ الرأيَ المتهالِك. واعتبر التترُ هذه الهدايا جزءًا مما يستحقونَ ولم يَمنعْهم ذلك من الهجوم الوحشيِّ على البلادِ والعباد، حتى كانت المصيبةُ المشهورة والتي لم يَسلَمْ منها الأميرُ والمأمور والمستشيرُ والمستشار، بل شَمِلَت- كما قال ابنُ كثير رحمه الله- مَن قدروا عليه من الرجالِ والنساءِ والوِلْدان والمشايخِ والكهولِ والشبان ..

سقوط الخلافة العباسية…الدروس والعبر

1 – أثرُ المنافقين في فَناءِ الدُّول وتدميرِ الشعوب، ولئن كان عددٌ من الأسبابِ وراءَ مأساة المسلمين في بغدادَ، فإن دَوْرَ الرافضةِ والمنافقينَ ولا شكَّ كان من أقوى هذه الأسبابِ في تدميرِ التتر لبلادِ المسلمين.

2 – إن الفسادَ الواقعَ من فئةٍ، والتخاذلَ الحاصلَ من الملأ لا يقفُ بآثاره عليهم وحدَهم، أو من يَدُور في فَلَكِهم، بل يَشمَلُ غيرَهم … وفي مأساةِ بغدادَ أحصى المؤرِّخون ألفي ألفِ نفسٍ قُتلت، أي (مليونَي قتيلٍ) من الرجالِ والنساءِ والشيوخ والأطفال … هذا فضلًا عن تدميرِ الدولِ ونهاية الخلافةِ الإسلاميةِ في بغداد.

3 – ولو أنّ الخلافةَ قاومَتْ والمسلمينَ جاهدوا لَمَا خَسِروا هذا العدد، ولو هُزِمُوا لكان لهم عذرٌ في الهزيمة … أما إذ وقعتِ الهزيمةُ أولًا وآخرًا، واستسلمَ المسلمون للعدوِّ وما سَلِموا، فتلك هي المصيبةُ العُظْمى والخسارةُ المضاعَفة.

4 – والعدوُّ إذا ظَفِرَ بالمسلمين لا ينظر للأُعطيات ولا يلتفتُ للهِباتِ، ولا يتوقفُ عند حدودِ المقدَّرات المادية، بل يريد الوصولَ إلى الأخلاقِ والقَيِم وتدمير الهُوية وسَلْخ الأمة عن عقيدتها ودينِها، وكذلك صنع التتارُ بالمسلمين، وكذلك يحاول خلَفُهم من بعدِهم.

عين جالوت وهزيمة التتر

أما الحادثة الأخرى فكانت سنة (658 هـ) وكان موعد التتر مع المسلمين مع حاكم مصر مع الملك المظفر (قطز) وذلك بعد أن دمر التتر بغداد، وواصلوا زحفهم إلى بلاد الشام فدخلوا (حلب) بالأمان ثم غدروا بأهلها، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء والأطفال، وجرى على أهل حلب قريب مما جرى على أهل بغداد1، فجاسوا خلال الديار، وجعلوا أعزة أهلها أذلة .. ثم وردوا (دمشق) فأخذوها سريعًا من غير ممانع ولا مدافع .. وهكذا نهبوا البلاد كلها حتى وصلوا إلى (غزة).

وحين بلغ الخبر (قطز) صاحب مصر .. أدرك أن هؤلاء المتوحشين لا أمان لهم ولا عهد، فأراد أن يبادرهم قبل أن يبدئوه … واستشار الرجال من حوله فأيدوه … وكان في مقدمة مستشاريه الأئمة والعلماء والقادة وأهل الجهاد … وكان يوم الخامس والعشرين من شهر رمضان – في هذه السنة – موعدًا للنصر والظفر والعزة للإسلام وأهله في معركة (عين جالوت) الشهيرة.

ووقفتنا لهذا النصر في عين جالوت تتمثل في النقاط التالية: –

1 – الفرق بين البطانة كبير بين هزيمة المسلمين في بغداد وانتصارهم في (عين جالوت) .. والفرق كذلك بين همم القادة للجهاد .. واستسلامهم للعدو يؤثر على مجريات الأحداث ونتائج المعارك.

2 – الجهاد وسيلة الأمة المسلمة للنصر والتمكين، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا وأصيبوا من قبل الأعداء، والتاريخ خير شاهد.

3 – لم يكن ينقص المسلمين في بغداد العدد والعدة، ولكنه الضعف والهوان والخيانة وبطانة السوء … ولم يكن المسلمون في (عين جالوت) أكثر عددًا ولا عدة … ولكنها القوة الإيمانية والشعور بالعزة ورفض الهوان والتبعية، وصدق المشورة وأثر البطانة الصالحة قادت أولئك إلى النصر والغلبة، وعكسها أذل المسلمين وهزمهم في بغداد.

4 – ولم يكن التترُ المنهزمون في عين جالوت أقلَّ عددًا ولا أقلَّ عُدَّة منهم حين دخلوا بغداد .. بل إن انتصاراتهم في بغدادَ والشامِ زادت من قوّتِهم ورفعت من سهامِهم وعاظمت من كبريائِهم، ومع ذلك قاومهم المسلمون في عين جالوت ولم يَهِنوا في مقاتلةِ عدوِّهم حتى مَكَّنهم الله من رقابِهم فردُّوهم على أعقابهم خاسرين، بل أعادوا للمسلمين هيبتَهم وللإسلامِ عزَّه ومجدَه.

غزوٌ تتريٌّ معاصرٌ بهُويّةٍ صليبيةٍ صُهْيونية

والتاريخُ عِبَر، والأيامُ دُوَل، وما أشبهَ الليلةَ بالبارحةِ … واليومَ يجتاح العالمَ الإسلاميَّ غزوٌ تتريٌّ معاصرٌ بهُويّةٍ صليبيةٍ صُهْيونية … يُعِدُّ لمعركةٍ في بلد حتى إذا أفنى الحرثَ والنَّسلَ انتقل إلى أخرى .. ثم هو يجهِّز الثالثةَ وهكذا، وهو في كلِّ معركةٍ يبحث له عن مبرِّرٍ، ويخدع السُّذجَ

بأسبابِ وأهدافِ الحربِ، ومهما اختلفت وجهاتُ النظرِ في أسباب ضربِ الأمريكانِ للأفغان .. فلا أظنُّها تختلفُ في عدم وجود مبرِّرٍ لها في ضربِ العراق … وما عَلاقةُ حصارِ العراق وضربِه بأحداث الحادي عشرَ من سبتمبر؟ ومع أن العراقَ حاول قطعَ الطريقِ على أمريكا فسمح للمفتِّشينَ بدخولِ العراق … إلا أن أمريكا فيما يظهرُ مصرَّةٌ على ضربِ العراق، حتى ولو غنَّى أبناءُ بغداد النشيدَ الوطنيَّ لأمريكا – كما قيل -، ومهما كان نظامُ صدَّام غاشمًا فهل يجيزُ ذلك ضربَ شعبِ العراق واحتلالَ أرضِه ومقدَّراتِه؟ هذا لو كان المخطَّطُ يقف عند حدودِ العراق، فكيف والمخططُ أبعدُ من ذلك؟

موقفُ العالمِ الإسلاميِّ من هذا الهجوم الغربي على بلادِ المسلمين

وهنا يَرِدُ السؤالُ: ما موقفُ العالمِ الإسلاميِّ من هذا الهجوم الغربي على بلادِ المسلمين؟ وهل يجوز السكوتُ والعالمُ النصرانيُّ وبمؤازرةٍ من اليهود يَعِيثون فسادًا في بلادِ المسلمين؟ وكلما انتَهَوا من معركةٍ استعدُّوا لأختها .. في مخططٍ واسعِ الانتشار بعيدِ الأمد .. من الخطأ والتغفيل أن يوقفَ عند حدود الحادي عشرَ من سبتمبر .. بل هو يُعَدُّ ويُصنَع في دهاليز الساسةِ واللجانِ المتخصصةِ قبل ذلك بسنينَ. فإن قيل: فما الدليلُ؟ أجيب: بأن قانونَ الاضطهادِ الغربيَّ الأمريكيَّ خيرُ برهانٍ. فما الذي يَهدِفُ إليه القانون؟ ومتى صدر؟ لقد صدر القرارُ في أيام (كلنتون) عام 1997م.

وهذا القانون يرفضُ في الواقع الدينَ والثقافةَ والتقاليدَ التي ترى أمريكا أنها عقبةٌ أمام حرّيةِ الأديان؟ ويؤكد القانونُ على أن تتحوَّل الدولُ الإسلاميةُ -بعد سنواتٍ- إلى أن تكونَ دولًا عِلْمانيةً وتنتهجُ سياسةَ المساواةِ في الأديانِ، وتُستبدَلُ وزاراتُ الشئونِ الإسلامية بوزاراتِ الأديان، ويتيحُ القانونُ لأمريكا حقَّ مَنْحِ المساعدات أو الحصارِ حَسَبَ تعاملِ هذه الدول مع الأقلِّيّات الدينية في بلادِها .. إلى غيرِ ذلك من بنودِ هذا القانونِ الظالم 2، والذي يمارَسُ هو تطبيقُ فصولِه هذه الأيام ..

ولكن (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، وصدق الله: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطارق: 15 – 17].

لقد أصبحَ الإسلامُ وعالَمُه -بعد أحداثِ الحادي عشرَ من سبتمبر- مستهدَفًا من قِبَل الإدارةِ الأمريكيةِ والقُوى الصُّهيونية، وأصبح زعماؤُها يروِّجون لأنواعِ من الاستعمارِ الجديد والهيمنةِ على عددٍ من البُلدانِ الإسلامية، وها هيِ إسرائيلُ اليومَ تحاصرُ الفلسطينيين، بل تحاول أن تجتثَّهم من الوجود، تَهدِمُ بنيانَهم، وتقتلُ أبناءَهم، وتشرِّدُ أطفالَهم ونساءَهم وتستعمرُ أراضيَهم .. بل وفوقَ ذلك فهي تحلُمُ بإسرائيلَ الكبرى -من النيلِ إلى الفُرات- وإن تراجعَتْ هذه الأحلامُ في هذه الأيامِ على أيدي المجاهدين الفلسطينيين حيث باتَ اليهودُ لا يَأمَنون -وهم في داخلِ الأراضي المحتلَّة- على أنفسِهم، وأصبحوا يعيشونَ حالةً من الفزعِ والارتباكِ والوقوعِ في براثن الموت المُتَرصِّد لهم في كل مكان -في وسائلِ النقلِ العام، وفي الحدائقِ العامة، والمجمَّعات التجارية، بل وهم يأكلون أو يَلهُون في حال نومِهم أو يقظتِهم، وفي حال عملِهم أو عُطلتِهم.

وذلك مردودٌ إيجابيٌّ لحركةِ الجهادِ والعملياتِ البطوليةِ التي ينفِّذُها أبطالُ المقاومة.

إذا كان ما يصنعُه اليهود جِهارًا نهارًا في الأراضي المحتلّةِ في مقدَّساتِ المسلمين .. فطرَفُ الأفعى الأخرى يمثِّلُها النصارى الذين باتوا يتسلَّلون جِهارًا كذلك لبلادِ المسلمين.

وإن ما يجري في أفغانستانَ وفلسطينَ، واستهدافَ العراقِ والسودانَ، والإشارةَ إلى تقسيمِ بعضِ البلدان المجاورةِ وتهديدِها، ما هو إلا بعضُ ما ظهرَ من خفايا الاستراتيجيةِ الأمريكيةِ ونواياها تجاهَ البلدان الإسلامية، وما الهجومُ العنيفُ الذي يَشُنُّه الإعلامُ الأمريكيُّ -هذه الأيامَ- ومِن ورائِه القوى الصهيونيةُ والنصرانيةُ واليمينية المتطرِّفةُ ضدَّ الإسلامِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم وشعوبِ العالم الإسلاميِّ ودولِه -وفي مقدمتِهم المملكةُ العربيةُ السعودية- إلا فصلٌ من فصولِ تلك الهجمة الشرِسَة.

وإن إصرارَ الإدارةِ الأمريكيةِ على استخدام القوة والتعدِّي على دولِ المنطقةِ يعيد إلى الأذهانِ الحَمَلاتِ الصليبيةَ وحِقْبةَ الاستعمار.

وإزاءَ ما يجري هذه الأيامَ وما يُخطَّط له في المستقبلِ لا بدَّ من التذكيرِ بالأمور التالية:

1 – الشعور الواعي بما يُراد للأُمةِ المسلمةِ شعوبًا ودولًا، قيمًا واقتصادًا وسياسةً ومصيرًا مظلمًا.

2 – ولا بدَّ من إدراكِ الدوافع وراءَ هذه الحَمَلات العسكرية والإعلامية، والعالمِون يقولون: إن من دوافعِ الإدارةِ الأمريكية لضربِ العراق والعَبَثِ بأمنِ المنطقة العربية، تدميرَ هُويةِ الأمة المسلمة ونشرَ الثقافةِ الغربية في المنطقة، والسيطرةَ على ثرواتِها من بترولٍ وغيرِه، والتغطيةَ على فشلِها في تحقيق أهدافِها التي أعلنَتْها في أفغانستان، وإشغالَ المنطقةِ بالمزيدِ من التوتُّرِ والقلاقل، والحيلولةَ دونَ التنمية، وحمايةَ أمنِ إسرائيل وضمانَ تفوُّقِها في المنطقة، والقضاءَ على الانتفاضةِ المبارَكة التي أقلقت أمنَ إسرائيل وضربتْ اقتصادَها في الصميم.

ومن المفارَقاتِ العجيبةِ أن العدوَّ الغاشمَ لا يقيم وزنًا للجثث الهامدةِ من أبناءِ المسلمين، ولا يتورَّعُ عن ضربِ الأطفال الرضَّع والشيوخِ الركَّع السجَّد، والنساءِ الضعيفاتِ العُزَّل، في وقتٍ تقوم شعوبُهَ على تدليلِ الحيوانات والعنايةِ بها إلى حدِّ تقول معه التقاريرُ: يعيش أكثرُ من 60 مليون كلبٍ وقطة مدلَّلةٍ في بيوتِ الأمريكان، وهذا العددُ يقارب عددَ سكان الخليج بثلاثِ مرات.

وتقول لغةُ الأرقامِ كذلك: إن المبالغَ المصروفةَ على الكلاب بلغت في بعضِ دول أوروبا إلى 3.45 بلايين جُنيهٍ إسترليني، منها بليونا جنيهٍ ثمنُ طعامها فقط، وباقي المصروفاتِ توزَّعت على أجورِ الأطباء والترفيهِ والتأمينِ ضدَّ الأمراض الذي وصل وحدَه إلى 148 مليون جنيه إسترليني3.

قارنوا بينَ ما تَحظَى به الكلابُ من نعيمٍ في بلادِ الغرب، وما تلقاه الشعوبُ المسلمةُ من نَكَالٍ وجحيمٍ على أيدي الغربِ أنفسِهم. تلك حضارتُهم وتلك نظرتُهم لشعوبنا وترفيهُهم لكلابهم؟

3 – ولا بدَّ للعالَم الإسلاميِّ بشعوِبه وحكوماته -وبإزاءِ هذه الهجمةِ الشَّرِسة- من استشعارِ الخطر والتفكير الجادِّ في الحلول الصادقةِ بَدْءًا من استصلاحِ النفوس وصِدْقِ التوجُّه إلى الله على مستوى الأفرادِ ومرورًا بإعدادِ العُدَّة التي أمر اللهُ المؤمنين بها في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) [الأنفال: 60] على مستوى الدول، ولا بدَّ على مستوى الأُمة من توحيدِ الكلمة وجمعِ الصفوف ونَبْذِ الفُرقةِ والخلافِ والتشرذُم، فتلك أدواءٌ يطربُ لها العدوُّ ويتسلَّل إلى المسلمينَ على جسورِها.

4 – ولا بدَّ أن تدركَ الأمةُ المسلمةُ أن الجهادَ في سبيل الله قَدَرُها وسبيلُ عزَّتها وكرامتِها، وهو السبيلُ لمقاومةِ الغزو التتريِّ المعاصرِ كما كان من قبلُ سبيلَها لمقاومةِ الغزو التتريِّ في الماضي، لا بدَّ أن تَعِيَ الأمةُ المسلمةُ وصيةَ نبيِّها محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث قال: «وما تَرَكَ قومٌ الجهادَ في سبيلِ الله إلا ذَلّوا»4.

5 – ولا بدَّ للأُمة أن تتخلَّصَ من المنافقينَ والأدعياءِ وأدلاَءِ الطريق للعدوِّ .. فأولئك -هم العدوُّ- كما أخبرَ اللهُ، وأولئك لا يريدون للأمةِ إلا توهينَها وضعفَها، ولو خرجوا مع المجاهدينَ ما زادوهم إلا خبالًا ولأوضعوا خلالَهم يبغونَهُم الفتنةَ .. وكم غُزِيَت الأمةُ بالتعاونِ مع هؤلاء، وكم سُلِبت البلادُ بفعل خيانةِ هؤلاء.

6 – ولا بدَّ للعلماءِ والدعاةِ والمفكرين أن يتقدموا الأُمةَ ويضعوا لها الحلولَ الشرعيةَ المناسبة، يُثبِّتَونها في المِحَن ويقودون مسيرتَها في جهادِ الكلمةِ الصادقة الناصحة أولًا، وجهادِ السِّنان وحربِ الأعداء ثانيًا، كما صنع أسلافُهم من قبلُ.

إن مما يَجرَحُ الفؤادَ ويُعظِّم من المُصاب أن المسلمين -وفي مقدمتهم العلماءُ والأمراءُ فضلًا عن العامة وسوادِ الناس- ورغمَ هذه النوازلِ المهدِّدة، والاستعدادِ للغزو والسيطرةِ، لم يُعْطوا الأمرَ ما يستحقُّه من العنايةِ والاهتمام، والتحذيرِ والاستعداد، وكم نحن بحاجةٍ اليومَ أكثرَ مما مضى إلى التعاونِ والمَشُورة وحمايةِ البلادِ والعبادِ من كيدِ الكائدين ومخطَّطات المستعمِرين .. وربُّنا يخبرُنا أن أعداءَنا لا يَرقُبون فينا إلًّا ولا ذِمّةً، وهُم إنْ يثقَفُونا يكونوا لنا أعداءً ويبسطوا إلينا أيديَهم وألسنتَهم بالسوء وودُّوا لو تكفرون.

إن التلاومَ حينَ خرابِ الديار لا يُجْدي، والتباكي حين يجوسُ العدوُّ خلالَ الديارِ لن يُنقِذ، وما لم يتحرَّكِ العقلاءُ في وقتِ الرخاءِ والمُهلة فلن يفلحوا إذا حَزَبَت الأمورُ وتوغَّل العدوُّ في الديارِ لا قَدَّرَ اللهُ، والأمةُ الواعية والشعوبُ الأبيّة هي التي تُحصِّنُ نفسَها بما استطاعت من قوةٍ، ثم هي تتوكلُ على بارئها في مقارعةِ المعتدين ومنازلةِ الغاصبين.

وإذا لم يكنْ إلا الأَسنَّةُ مَركَبًا 

                       فما حِيلةُ المضطرِّ إلا ركوبُها

ومَن يتوكلَّ على الله فهو حَسْبُه .. ومن ينصرِ الله يَنصرْه، والعاقبةُ للتقوى، وجندُ الله هم الغالبون، والأرضُ لله يُورِثُها من يشاءُ من عباده، والله يُمْلي للظالمِ ولا يُهمِلُه، وكيدُ الكافرين في تَبَاب، ولكن لا بدَّ من تحقيقِ السُّنّة الربانية (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].

الهوامش

(1) «البداية والنهاية» ابن كثير، 13/ 207.

(2) انظر إلى أسرار قانون الاضطهاد في صحيفة المحايد، العدد 42 في 24/ 8/ 1423 هـ.

(3) زمن الكلاب: فهد عامر الأحمدي، جريدة الرياض، الخميس 8/ 10/ 1423 هـ.

(4) أخرجه الطبراني في الأوسط، أورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت رقم (2663) .

المصدر

كتاب: “شعاع من المحراب” ، د. سليمان بن حمد العودة (10/107-117).

اقرأ أيضا

عين جالوت .. الواقعة والمغزى

معركة شَقحَب أو معركة مَرْج الصُّفَّر

مقدمة في كيفية بدء الحروب الصليبية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق