إمبراطوريات جديدة
في النسخة السادسة من قمّة الويب (Web Summit) في البرتغال، والتي يشارك فيها قرابة تسعين ألف مشارك، تظهر قوة الإمبراطوريات الجديدة التي تتشكل في الفضاء الافتراضي، وتؤثر في الواقع الحقيقي، ومن المفارقات أن البلد الذي شكّل واحدة من أوائل الإمبراطوريات وأطولها تاريخاً يستضيف هذه القمة.
وقد تعامل العرب مع هذه الإمبراطورية وأثروا وتأثروا بها، ولا تستغرب من أنهم إلى اليوم يستخدمون كلمات عربية، مثل زيت وزيتون، واشتبكوا معها من الأندلس إلى الخليج العربي.
اليوم البرتغال هي سادس بلد في العالم من حيث العولمة، وبعيدة تماماً عن الصراعات العسكرية، وتأتي استضافتها هذه القمة، والتي ترعاها على أعلى مستوى، جزءاً من ملامحها الجديدة، وهو ما يتيح لها فرصةً في التأثير السياسي كما الاقتصادي والمعرفي.
في افتتاح القمة، تجلّى مدى التسييس، فقد كانت المتحدّثة الرئيسية قرينه زيلينسكي، في كلمتها التي نالت وقوف الجمهور المحتشد لها في ملعب مغلق، وصفّق لها مطولاً.
لم تتحدّث عن الأسلحة الخشنة التي تستخدمها روسيا، بدءاً من التهديد النووي مروراً بسياسة الأرض المحروقة، إنما تحدّثت عن سلاح التقنية المعلوماتية الذي تمارسه روسيا.
وبقدر ما أكّدت الجانب السلبي للحرب الروسية التقنية ضد بلادها تناولت الجوانب الإيجابية "أعتقد أنه يجب استخدام التكنولوجيا لخلق وإنقاذ ومساعدة الناس، وليس تدميرهم. أعتقد أن هذه التكنولوجيا هي المستقبل".
غُيّب الروس عن القمّة، تماماً كما غُيّبت قضايانا أيضاً، فالغرب هو من يحدّد العدو من الصديق، بقوته الإمبراطورية.
التحديات التي يفرضها الويب منذ ظهور الشبكة العنكبوتية تزداد عمقاً. بقدر ما أفادت أضرّت، فسهولة الوصول إلى المعلومات والمعرفة وتبادلها والتفاعل معها وازتها سهولة انتشار المعلومات المضللة، وما يعرف بـ"ما بعد الحقيقة". والمعلومات المضللة تقف وراءها دول مثل الحال الروسية، كما واجهها العرب قبل ذلك في الربيع العربي من خلال الجيوش الإلكترونية الإيرانية السورية وغيرها التي واجهت الثوار بالأكاذيب والتشويه. وظهر ما عُرف بالاستبداد الرقمي، إذ تحوّلت منصات التواصل من أداة بيد الجماهير الثائرة إلى أداة للدول القمعية؛ تتحكّم فيها بالجماهير وتقود حركتها وتؤطرها وتوجهها. الأخطر هو التحدّي الكبير الذي يواجه الأطفال والمراهقين والنمو النفسي والصحة العقلية، إلى درجة انتشار ظاهرة الانتحار بسبب المنصّات واستغلال الأطفال جنسياً ونشر مفاهيم خاطئة بينهم.
ليست إمبراطورية شر، وإن لم تخل منه، ففيها خير كما بدا باهتمام شركات مثل آبل بالبعد الإنساني.
نائبة لرئيس شركة آبل من خلفية غير تقنية، ليزا جاكسون، نائبة المدير للاستدامة والمبادرات المجتمعية، وتتبع مباشرة تيم كوك الرئيس التنفيذي، وهي تقود مبادرة الشركة للمساواة العرقية والعدالة التي خصصت لها 100 مليون دولار، وتركز على التعليم والفرص الاقتصادية وإصلاح العدالة الجنائية، تحدثت في الافتتاح عن المسؤولية المجتمعية للشركات الكبرى وعن مبادرات مناخية للحد من الانبعاثات.
كما تطرّقت إلى حقوق الإنسان ومسؤولية الشركات الكبيرة في الحدّ من الكراهية (تكلمت عن حركة السود في أميركا وسلّطت الضوء أيضاً على أزمة الجوع الخانقة في الصومال؛ حيث 1.8 مليون طفل مهدّد بالجوع). أشارت ليزا إلى أهمية دور الشباب الذي يعمل في التقنية لتحسين أوضاع الناس وتطوير منتجاتٍ ربما لا تفكّر فيها الشركات التجارية الكبرى.
على مستوى الإعلام، أضر الويب والمنصّات لاحقاً بصناعة الصحافة المحترفة، وصارت مرتعاً للمهووسين والجهلة والمتعصبين والمتطرفين لنشر أفكارهم أو بث سمومهم.
صار هؤلاء مُلّاكاً وفاعلين، لا مجرّد منتجين؛ مستثمر مثل إيلون ماسك الذي لا يشكّك في قدراته العلمية الخارقة، والتي أحدثت تحولات عميقة في الاقتصاد على مستوى الكوكب من نشر السيارات الكهربائية إلى اختراق الفضاء، هذا الشخص نفسه على مستوى سياسي وفكري معتوه ومتطرّف، وفي سجاله أخيراً مع كلينتون ردّ على تغريدة لهيلاري عن حادثة الاعتداء على زوج نانسي بيلوسي ولفت نظرها إلى مقال منشور في موقع متخصّص بنظريات المؤامرة لصالح الحزب الجمهوري.
يقول المقال إن زوج نانسي كان على علاقة جنسية مع الرجل الذي اقتحم المنزل!
هذا التحدّي واجهته البشرية منذ اكتشاف المطبعة التي أدّت إلى حروب أهلية في أوروبا. وفي النهاية، البشرية قادرة على مواجهته، عندما يلتقي عقلاؤها وخبراؤها ومفكّروها فيساهمون في تقليل الأضرار بالحد الأدنى. لم يتأخر الوقت كثيراً للمساهمة العربية في هذه الإمبراطوريات، والتفاعل معها بشكل إيجابي وخلّاق، فالعرب يمتلكون أكبر سوق من خلال أكبر مجتمعات شابة.
والعرب اليوم يملكون القدرة المالية في ظل الوضع الاقتصادي المنهار الذي تمرّ به شركات الويب والمنصّات.
مارك زوكربيرغ خسر ما يعادل 100 مليار دولار في آخر 13 شهراً من القيمة الإجمالية لثروته، بناء على قيمة أسهمه في ميتا، حتى غوغل الأحسن أداء ربحت نحو 4% فقط!
اليوم، نلاحظ أن العرب هم ثاني شريك في تويتر.
السؤال: هل يمكن أن يستضيف بلد عربي مثل هذه القمة، حيث يستفاد من هؤلاء الخبراء على مستوى العالم لصالح اقتصادنا وقضايانا وأطفالنا وشبابنا ومستقبلنا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق