حوارات الدين والطب و السياسة (2)
النار المقدسة (1)
كان أستاذي في خريف 1991 قد خرج لتوه، وبالتحديد منذ أيام، من معركة انتخابات العمادة، وكان يحاول بكل ما أوتي من لباقة ودبلوماسية أن يبدو متمتعًا بروح رياضية، وروح تعاون مع القيادة الجديدة للكلية، وتصادف أن كانت هذه الفترة ذاتها هي بداية فترة الرئيس الثالث للجامعة ، وطوفان حفلات التكريم للرئيس الثاني، والواقع أن كلمة «طوفان» لا تفي التعبير عن مهرجان الحب، الذي أحيط به رئيس الجامعة الثاني عند خروجه من منصبه، وهو مهرجان لم أشهد له مثيلًا على الرغم مما رأيته في حياتي من أحداث شبيهة، وليس هذا موضوعنا على أية حال، لكن هذه الإشارة كانت ضرورية قبل الوصول إلى ما حدث في ذلك اليوم الذي طلبني فيه أستاذي تليفونيا في الرعاية المركزة في حدود الرابعة عصرًا وسألني: منذ متى أنت هنا؟
قلت: منذ الصباح الباكر.
قال: أي باكر.. باكرك المبكر .. أم باكر الجامعة المتأخر؟
قلت: أنا هنا من قبل السابعة صباحا.
قال: متى تعود إلى القاهرة؟
قلت: ليس قبل العاشرة مساء.
قال: لا أستطيع دعوتك على الغداء، لأني عائد من الغداء لتوي، لكن هل تسمح لي أن أطلب لك غداء في العيادة.. وتشرفني.
قلت: أي نوع من الغداء.
قال: كبابك المفضل، ومن المطعم نفسه.
قلت: إنني أتناوله الآن، وقد دعوت الأطباء المقيمين والمدرسين المساعدين عليه.
قال: ليتني كنت نائبًا عندك لا رئيسًا لك.
قلت: العفو، والفرصة متاحة.
قال: لقد تناولت غدائي.
قلت: بالهناء والشفاء.
قال: مالك لا تسألني أين تناولته؟
قلت: أعتقد أنك حضرت حفل الكلية لتكريم رئيسنا السابق.
قال: إذًا فأنت تعرف الموعد، ومع هذا لم تحضر حفل عمك، وحفل كليتك، وقد ظن بعض الذين كانوا إلى جواري في الحفل أنك مشغول بشيء في القاهرة، ورجحت أنا أنك مشغول بالاستعدادات لمؤتمر السلام (كان يقصد مؤتمر السلام الذي انعقد بعد ذلك بأسابيع في مدريد).
قلت: ألهذا كنت تسألني منذ متى وأنا في الزقازيق؟
قال: وقد خانك ذكاؤك فلم تكتشف ذلك إلا الآن.
بدا علىّ ما يشبه الوجوم الصوتي فعاد أستاذي يسألني: لماذا لم تحضر حفل التكريم؟
قلت: قد أقمت أفضل منه هنا في الرعاية بثواب أكبر.
قال: نحن في معرض اللوم لا في معرض الثواب.
قلت: ربما أنني لم أدع.
قال: حظك سيئ.. طُرح هذا الاحتمال في الحفل، واكتشفنا أنك دعيت.
قلت: وماذا بعد؟
قال: واكتشفنا أيضًا أنك الوحيد الذي اعتذر.. وحاول بعضهم الإيقاع بينك وبين عمك فكانت المفاجأة أنه اعتبر غيابك هو أبلغ تكريم له.. ولم يجرؤ أحد بعد ذلك على أن يسأله السبب.
قلت: هل تسمح لي أن أستكمل حديثي وأنا جالس منك مجلس التلميذ في العيادة بعد ساعة.
قال: وهل تطول وجبتكم إلى هذا الحد؟
قلت: بل ريثما ننتهي مع هؤلاء من مجموعة رسومات القلب.
قال: على الرحب والسعة.
***
ذهبت لأستاذي فوجدت ملامحه منقبضة ومتجهمة، ولم تكن علاقتي به في ذلك الوقت في أحسن أحوالها، لكن حبل الود كان متصلًا مما مكنني من أن أسأله مباشرة: ماذا بك؟
رد علىّ أستاذي في ذلك اليوم برد لم ينطق به أبدًا في حياته فقال: أنا مغتاظ.
قلت: ممن؟
قال: من صديقك فلان، وذكر اسم أستاذ للعلوم الزراعية كان في ذلك الوقت نائبًا لرئيس الجامعة، وكان قبلها قد تولى منصب العمادة.
قلت: ماذا فعل ذلك الرجل الطيب الهليهلي؟
قال: لا تصفه هكذا بعد اليوم.. إنما هو أقرب إلى الخبث.
قلت: لماذا؟
قال: يا سيدي وقفنا في استقبال الضيوف، وقد كرمني أساتذة الكلية فجعلوني في مقدمة الأساتذة، الذين يستقبلون الضيوف، فجاء عمك ومال علىّ وقبلني، وجاء رئيس الجامعة الجديد فصافحني باحترام مَنْ لم يعرفني من قبل، لكنه يحترم المكانة أو السن أو الشيبة، ثم جاء هذا النائب بعدها فسلم علىّ سلام المضطر مع أنه صديق قديم.
قلت: وكيف كان سلام المضطر هذا؟
قال: وضع يده في يدي ببرود، ونزعها بسرعة، وهو ينظر بوجهه في الناحية الأخرى، كأنه لا يريد أن يرى وجهي.
قلت: وماذا بعد؟
قال: منذ ذلك الحين وأنا أغلي، ولم يخف غلياني ، ولهذا بحثت عنك، ولم أكن أظن أنني سأجدك.
قلت: كأنما أرسلني الله لك؟
قال: هل جئت اليوم مللا.. (يشير أستاذي إلى ما كان يكرره من أني اعترفت له ذات مرة بأنني في بعض الأحيان آتى الكلية دون أن يكون ورائي جدول لا لشيء إلا لأمارس عملي الحكومي وكأني أمارس عملًا حراً.. ولأحس بأنني أجد من الأمل في الآخرة ما أكسر به الملل من أمجاد الحياة).
قلت: نعم.
قال: لا.. محمد إنك محظوظ.. تأتي وأنت ملول فتجمع أبناءنا حولك وتملأ حياتك أستاذية وعطاء من خارج الجدول.
قلت: هذا من فضل الله.
قال: نعود إلى موضوعنا، ما رأيك فيم فعل صاحبك؟
قلت: وماذا يهمك من أمره؟
قال: هذا هو السؤال الذي طرحته على نفسي مرارا وتكرارا، وقد قلت في نفسي: إنه على مشارف الستين وسيأتيني إن عاجلًا أو آجلًا في هذه الحجرة كما يقول المثل العامي «طائعا راكعا» كي أكشف عليه وأكتب له العلاج وأعطيه النصائح وسيظل يسعى ورائي من أجل السؤال عن هذا الدواء أو ذاك، أما أنا فليس لي عنده طلب، أولادي يدرسون في القاهرة، وليس منهم أحد محتاج إلى خدمة منه.
قلت: وماذا أيضاً؟
قال: ليس عندي والحمد لله «بهيمة» أحتاج إلى علاجها فأذهب إليه كي يوصي بعلاجها أحدًا من زملائه.
قلت: وهل يعالج المصريون بهائمهم بهذه الطريقة؟
قال: لا.. ولكني أخذت أفكر في القيمة «العملية» لهذا الرجل الذي تجعله يفعل بي ما فعله اليوم.
قلت: ولا يجيبك على سؤالك إلا المسؤول عنه الآن!! .
قال: لهذا أتحمله وأتحمل قسوته علىّ كما تعرف، ويبدو أنه يمهد لقسوة من قسواته.
قلت: يا سيدي المسألة في غاية البساطة.. ليس للموضوع علاقة بك ذاتك من قريب أو من بعيد، وليس له علاقة بمنصبك ولا بقيمتك.
قال: ما الذي يدفع أستاذًا محترمًا لأن يفعل ذلك الذي فعله هذا النائب؟
قلت: الضيق الشديد.
قال: مني؟
قلت: نعم.. منك.. ومنك وحدك.
قال: أأنا أرتكب جرائم لا أعرفها؟
قلت: لا هي جرائم، ولا هي مجهولة لك.
قال: ماذا يضايق هذا الرجل.. كان قد بدأ حياته مدرسًا في التعليم الابتدائي، وهو الآن نائب رئيس للجامعة.
قلت: أربأ بك أن تردد هذه القصة، فقد كان من أوائل دفعته، وكان سيعين معيدًا لكنه عمل شهورًا مدرسًا في التعليم الابتدائي حتى أتته وظيفة المعيد.
قال: وكان يمكن له أن يظل في التعليم الابتدائي.
قلت: لا تكرر هذا أيضا، فلو أنه مضى في سلك التربية والتعليم لكان الآن وكيل وزارة، دون أن يحضر رسالة للدكتوراه، أو الماجستير، أو ينال بعثة، أو يتعب في هذا كله.. لا تصدق هذا الكلام الذي يطلق من أجل الإغاظة ولا يراعي التاريخ الطبيعي للوظائف والموظفين.
قال: وإذا كان هذا الذي أقوله هو ما قاله عن نفسه.
قلت: إنما يحكي هو وزميله ذلك الموقف من باب الأمجاد، أو الحظ.. وليقللا من قيمة ما وصلتم إليه في الطب من مكسب مادي!!
قال: دعك من هذا لأني لا أريد دفاعًا عنه ولا تمجيدًا لتاريخه الآن، وقل لي ما ذنبي أنا؟ ما هي الجرائم التي لا أعرفها؟
قلت: يا سيدي الموقف أبسط من هذا التعقيد كله، لولا أنك تجنبت الجماهير في الأسبوعين الأخيرين فلم تصلك الأخبار الجديدة، وهي أن عميدنا الجديد قد تمكن تماما من قلب رئيس الجامعة الجديد وعقله وقلمه وقراره وكل شيء حتى أصبح نواب رئيس الجامعة أنفسهم في غاية الضيق من هذا الوضع.
قال: سمعت أطرافًا من مثل هذا الحديث فلم أصدق لأنه كلام غير منطقي.. لكن ما هو ذنبي في هذا؟
قلت: الرجل يعتقد كما يعتقد الآخرون أنك السبب في وصول العميد إلى هذا الموقع.
قال: إن العقل يقول: إنني آخر مَنْ يكون مسؤولا عن هذا، فقد كنت مرشحا بقوة للفوز، وقد كنت قاب قوسين أو أدنى من الفوز، وباختصار شديد فإنني قبل هذا الوضع كنت ولا زلت عميدًا محتملًا. dean potential ، فقد كنت وكيلًا سابقًا بل أقدم الوكلاء السابقين الذين لايزالون أساتذة عاملين (أي لايزالون في الخدمة) ، كما كنت أحد اثنين محتمل فوز أحدهما، وقد فزت بالمرتبة الثالثة في عدد الأصوات، يعني أنني لازلت رغم عدم فوزي صالحًا لأن أكون عميداً، فلو أن رئيس الجامعة اختارني وترك الأولين ما كان قد تعدى سلطته.
قلت: كل هذا يضاعف من مسؤوليتك.
قال: عن ماذا؟ عن وصول الرجل إلى العمادة؟
وسكت أستاذي هنيهة ثم قال: فليكن يا محمد.. فليكن إنني أنا الذي أتيت به عميدا.. أو فرضته، ما ذنبي إذًا في استيلائه على عقل رئيس الجامعة وقلبه وقلمه في أسبوعين فقط كما يزعمون؟
قلت: أنت السبب الوحيد «المنظور» لهذا الوضع الجديد الذي كدر نفس الرجل، فوصولك أو وصول المنافس الثاني كان سيعني اتصالا بالوضع القائم في الجامعة، لكن الوضع الجديد أغرى صاحبه بأن يغري رئيس الجامعة الجديد بعهد جديد، والنفس البشرية في طبيعتها تميل إلى مثل هذا الخيار، وهكذا يمكن القول بأنك في نظر كثيرين أصبحت مسؤولًا عما يعتبره هؤلاء أزمة للجامعة لا عن وضع الكلية فحسب.
سكت أستاذي وأخذ نفسًا عميقًا واتكأ على مسند كرسيه ثم رجع بظهره إلى الوراء وقال: اسكت يا محمد… اسكت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق