زيارة لمجتمع الغربة القسرية!
أحمد الهواس
فرضت الهجرة القسرية على السوريين أن يقيموا مجتمعًا سوريًا في مواطن اللجوء المختلفة ، ولم يذوبوا في تلك المجتمعات بل أثّروا فيها، وأحدثوا صدمة حضارية في كل بقعة وصلوا إليها .
في التغريبة السورية ، هناك من يحدثك عمّا فعل السوريون في مصر وكيف استطاعوا أن يتكيّفوا مع المجتمع المصري ، ونقلوا إليه أنواعًا مختلفة من الأطعمة والأزياء ، وثمة من يحدثك عن السوريين في تركيا ودورهم في دعم الاقتصاد التركي من خلال المنتوجات السورية، وكذلك اليد العاملة الماهرة في المصانع التركية ، ولن يتوقف الحديث عن السوريين في أوربا ، حديث يطول ولكن العنوان الأبرز له ، النجاح السوري في ظل هجرة شعب ..
بين مجتمعين
لم ازر تركيا منذ ثلاث سنوات ، ولعل الزائر السوري لتركيا لا يفكر بطعامها ولا طيب هوائها ولا سحر طبيعتها كحال السائحين ، بل أن ثمة أهلًا ورحمًا وصهرًا ونسبًا وأصحابًا له هناك ، أو لنقل مجتمعًا متكاملًا حطّ به الترحال -في تركيا – بانتظاره ..
بعيدًا عن ظروف التهجير ، وكذلك معاناة من هجّروا ، وعن صعوبة الحصول على فيزا للزائر السوري بعيدًا عن كل ما ذكرنا ، فإنّ السوري في تركيا ولاسيما في إسطنبول ينتقل بين ثلاثة مجتمعات مجتمع سوري ، وآخر تركي ، ومجتمع ثالث مجتمع عربي تشكّل بعد ثورات الربيع العربي ، يشكّل المصريون الهاربون من بطش الانقلاب عموده الفقري .
أمّا في الولايات المحاذية لسورية ، فثمة مجتمعان ، مجتمع تركي ، وآخر سوري ولا فاصل بينهما ، وهذا الأمر نشأ بعد الثورة السورية وما حصل من تهجير للسكان السوريين حيث أفرغت مدن من سكانها ، وساهم في هذا التهجير ” الممنهج” النظام الطائفي وداعش والتحالف وعصابة قسد.
التحالف الذي جاء تحت بند محاربة “داعش” كان في واقع الحال لطرد السكان “الكتلة الصلبة” من محافظات حلب والرقة وديرالزور، وتكفلّت مليشيات البككا المتخفية باسم قسد بتهجير أبناء الجزيرة السورية لتكتمل فصول المؤامرة على الشعب السوري
الرحيل المرّ
في الثورة السورية كان تهجير الغالبية “السنة” سببًا للحرب وليس نتيجة لها كما يقول د. نبيل خليفة في كتابه استهداف أهل السنة (1)، ولهذا حرص النظام الطائفي على تنفيذ هذا المخطط ، وقد شهد العصر الحالي أكبر هجرة في التاريخ – بتواطؤ دولي – حيث تمّ طرد شعب من أرضه مقابل بقاء نظام يؤمّن حماية إسرائيل .
ولاية شانلي أورفا، في جنوب تركيا كانت إحدى وجهات السوريين في الرحيل المرّ، ولمحاذاتها لمنطقة الجزيرة وقربها من الشرقية ، فقد كانت المنطقة المفضّلة للمرحّلين من ديرالزور والرقة والحسكة ، فثمة تشابه مجتمعي بين أورفا وتلك المناطق ، فضلًا عن تنوع سكاني من أتراك وأكراد وعرب ، والمجتمعات المتنوعة عرقيًا والمنسجمة اجتماعيًا تكون أكثر جذبًا للمهاجرين أو المهجّرين كما في الحالة السورية .
تقدر السلطات التركية عدد السوريين في أورفا بـ 430 ألفًا ، وتأتي بالمرتبة الرابعة بعد اسطنبول وعينتاب وهاتاي في عدد اللاجئين السوريين .
هذه الأرقام الكبيرة فضلًا عن انتمائها لمنطقة جغرافية واحدة في سورية ، صنعت مجتمعًا “ديريًا” بامتياز، وحين نقول “مجتمع ديري” ، لا نقصد ديرالزور بعينها بل يشمل الحسكة والرقة ، فديرالزور سواء حين كانت لواء زمن الدولة العثمانية أو محافظة في سورية الحديثة كانت تشمل المحافظات الشرقية الثلاث ” ديرالزور الرقة الحسكة” مع تغييرات حصلت نتيجة ظهور الحدود الجيوسياسية بين سورية والعراق وتركيا ، حتى تم فصل محافظة “الجزيرة” التي باتت تعرف بالحسكة ومن ثم الرقة عن ديرالزور . هذا الجزء الجغرافي من سورية يغلب عليه الطابع العشائري ، فالنسيج المجتمعي ينتمي لقبائل عربية مختلفة تموضعت في هذه البقعة وعُرفت باسمائها قبل الإسلام ، ويتكلم أبناؤها بلهجة متقاربة ويحملون عادات واحدة .
مجتمع سوري متكامل
ليس من السهل على الإنسان أن يتأقلم مع الغربة المختارة فكيف بالغربة القسرية ؟ لكن هذه الغربة لها قوانين تطبّق على ضحاياها ، وهذا يعني معركة من نوع آخر ، معركة البقاء ، وهذا كان حال أغلب السوريين الذين مرّ عليهم اليوم نحو عشر سنوات من الغربة أو التهجير القسّري .
زائر أورفا من أبناء المنطقة الشرقية ،يظن أنّه في إحدى المدن السورية ، لولا أن واجهات المحلات والمؤسسات مكتوبة بالخط اللاتيني لحسب الزائر أنّه يسير في شوارع ديرالزور أو الرقة . ثمة تشابه في البناء وآخر في الوجوه يشعرك أنّك لم تغادر وطنك.
في هذه البقعة التي اختارها أبناء المنطقة الشرقية وطنًا مؤقتًا لهم ، وقد طال عليهم الوقت واستنزفت مدخراتهم -وقد كانوا يحسبون أن الإقامة لن تطول شهورًا- ، فقد دفعتهم الظروف للعمل ، بما يؤمن لهم حياة مقبولة ، وحين تجول في أورفا سواء في قلبها أوحواريها تجد المحلات السورية المختلفة، وفي مقدمتها المطاعم فضلًا عن مهن قد لا ترى مواقع أصحابها بل تتعامل معهم عبر الهاتف ، كالذين يعملون في الوساطات العقارية ، بيعًا أو أجرة، أو معرفة طرق الحصول على إقامة وغير ذلك .
اللافت للنظر أيضًا، نشوء عدة تجمعات مجتمعية مدنية ، وقد كانت التجمعات في بداية الثورة تجمعات ثورية وسياسية ، اليوم تستطيع أن تجد التجمعات المجتمعية سواء على مستوى “عشيرة” أو مستوى منطقة أو مدينة ، فتجد أماكن للأفراح والأتراح ، وتأسيس روابط حقوقية وربما أن غياب التنظيم المجتمعي الذي فشلت مؤسسات الثورة ” الإئتلاف والحكومة المؤقتة “في تأسيسه والإشراف عليه قد دعا لأن يوجد أبناء المجتمع المهجّر بدائل ذاتية كذلك نشوء الروابط الثقافية ومراكز تعنى بتعليم العربية والقرآن الكريم ، ولعل تنامي ذلك يعود لإغلاق المدارس السورية الخاصة . لم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل تصدى بعض أبناء المنطقة للعمل على تأصيل تراث الفرات ، من طعام وشراب وثقافة ، وعادات وتقاليد ، ونقل ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي سواء بمقالات منشورة أو برامج وثائقية ومقابلات تم تصويرها ومنتجتها بشكل احترافي .
حين تغادر أورفا ، تخلص لنتيجة : أن الشعب السوري شعب خلّاق استطاع أن يتكيف مع ظروف التهجير وحظي باحترام أهل المكان ، وثمة تجارب لأهل حلب في عينتاب ومرسين ونجاحات سورية من كل المحافظات بشكل عام في اسطنبول تؤكد على أنّ الخوف من إمكانيات هذا الشعب – كانت سبب مأساته – فلو توافرت الظروف الطبيعية من حكم مدني ،وترسيخ مبدأ المواطنة ، وفصل بين السلطات وصحافة حرّة ، لكانت سورية إحدى أهم اقتصادات المنطقة والعالم ، ولهذا كان لابدّ من حكم طائفي مستبد يعد على الناس أنفاسهم ، فإن طالبوا بالحرية يقوم بقمعهم بكل الوسائل المتاحة دون حساب أو عقاب ، فإذا فشل فيقع على عاتقه تدمير الدولة وتهجير الكتلة الصلبة وثمة جيوش ستأتي لمساعدته وثمة قوة عظمى ستغطي على جرائمه وجرائم من دعمه ، فالأهم أن تبقى إسرائيل في أمان ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق