الثورة التي نريد (7)
أحمد عبد العزيز
سؤال الثورة ما زال يشغل المصريين
أنهيت المقال الخامس من هذه السلسلة بسؤال مركب، تضمن أربعة أسئلة: "ما ملامح هذه "الثورة التي نريد"؟ وهل هي نسخة من الثورات التاريخية التي سبقتها، أم يجب أن تكون مختلفة عنها؟ وما أدواتها؟ ومَن المنوط به قيادتها؟". واستهللت المقال السادس بالحديث عن "ملامح الثورات"، ثم عرضت لموقف الثورات الثلاث الكبرى من الدين (الفرنسية، الروسية، الإيرانية)، وأنهيت المقال بفقرة عن "الدين في أعرق ديمقراطية" (الإنجليزية)، ثم ختمت المقال بسؤال: "هل يقبل العلمانيون في بلادنا بأن يتمتع "الرئيس المسلم" بمثل هذه "السلطة الدينية"، حتى لو أصبحنا "دولة ديمقراطية" على النمط الإنجليزي؟".
الدين في "الثورة التي نريد"
تعود أهمية الحديث عن الدين في "الثورة التي نريد" لأمرين أساسيين:
الأمر الأول: اعتزاز الشعب المصري بدينه وإن لم يلتزم به، يتساوى في ذلك المسلمون والمسيحيون. واستنادا للواقع (وليس للدستور) فإن مصر "دولة مسلمة" كون غالبيتها الساحقة تدين بالإسلام الذي ينهَى أتباعه نهيا قاطعا مانعا، عن ظلم "أهل الذمة" أو التعرض لهم بأذى، بأي صورة من الصور، احتراما لمبدأ "حرية العقيدة"، في المقام الأول، وإمعانا في بث الطمأنينة في نفوسهم؛ كونهم الأقل عددا في المجتمع المسلم.
قد يتوهم البعض أن "أهل الذمة" تعبير مسيء، ينتقص من قدر مواطنينا المسيحيين واليهود! والعكس هو الصحيح؛ فمصطلح "أهل الذمة" يعني أن الشريعة الإسلامية منحت هذه الأقليات "حصانة خاصة"، لا نظير لها في القانون الوضعي، فلا يتجرأ مسلم على المساس بها. ومن ثم، فهم آمنون مطمئنون، في "ذمة" المسلمين إخوانهم في الوطن. على العكس (مثلا) من الوضع في فرنسا "العلمانية" التي يتعرض مسلموها (اليوم) للاضطهاد من قِبل الدولة؛ لكونهم مسلمين وحسب.
الأمر الثاني: ذلك الصراع المحتدم (منذ مطلع القرن المنصرم) حول هوية الدولة ومرجعيتها، لأنهما أول ما سيختلف أو بتعبير أدق أول ما "سيتقاتل" عليه "فرقاء الثورة" في حالتنا المصرية، إذا تعددت مشاربهم الفكرية ومرجعياتهم الدينية أو العقدية! وساعتها سيتكرر سيناريو "الاقتتال الداخلي" بين فرقاء الثورات الثلاث، مع اختلاف في الدوافع والأسباب التي لم تكن محل نقاش وتوافق، قبل اندلاع هذه الثورات، أو نشأت إبَّان نجاحها:
اليعاقبة والجيرونديون، في الثورة الفرنسية.. الخلاف كان جهويا عُصبَويا، أو "شِلليا"، أما جميع الفرقاء فكانوا متفقين على "العلمانية" هوية للدولة.
البلاشفة والمناشفة، ثم اللينينيين والتروتسكيين، في الثورة الروسية.. الخلاف كان حول تفسير الماركسية؛ شيوعية أم اشتراكية؟ أما جميع الفرقاء فكانوا متفقين على "الماركسية الملحدة" هوية للدولة.
أنصار ولاية الفقيه وأنصار ولاية الشعب، في الثورة الإيرانية.. الخلاف حول مبدأ ولاية الفقيه الذي ابتدعه الخميني، وهيمنة رجال الدين "الشيعة" على مفاصل الدولة، وهوية الدولة الدينية "الشيعية الجعفرية الاثني عشرية". فالشعب الإيراني (في غالبيته) مسلم متعدد المذاهب والعرقيات، وهناك شريحة علمانية لا يستهان بها.
وفي "ثورتنا التي لا نريد".. الإسلاميون والعَلمانيون.. الخلاف الأساس سيكون حول "هوية الدولة"؛ إسلامية أم علمانية؟ لأن مصر لا تعاني من المذهبية ولا الإثنية.
ولست أتصور دولة غالبيتها الساحقة مسلمون، ثم تكون دولة "عَلمانية" لا يمنعها مانع من إصدار تشريعات تخالف "ثوابت الإسلام" التي لا يجوز الاجتهاد فيها، أو حتى مناقشتها، مثل أحكام الميراث (أقر برلمان تونس تشريعا يساوي بين الذكر والأنثى في الميراث) أو إباحة الزنا، تحت مسمى "المساكنة" (باتت عرفا مجتمعيا في لبنان)، أو إباحة تغيير الهوية الجنسية (تحول الذكر إلى أنثى والعكس)، أو إصدار تشريعات تبيح "الحق" في ممارسة الشذوذ.. وأخيرا سمعنا بسيدة تونسية سافرة تُدعى "الحاجة" سندس، تعلن عن نيتها الزواج برجلين في آن واحد، بزعم أن القانون التونسي (العلماني) لا يمنع من تعدد الأزواج!
أما إذا أنكر أو استنكر العلمانيون مثل هذه التشريعات وغيرها المخالفة للدين، فعلى أي أساس سيكون الإنكار أو الاستنكار؟! هل لاعتبارات دينية أم لاعتبارات عُرفية؟ فإذا كانت الأولى، فالدين عندهم لا مكان لهم في حياة الناس، وإذا كانت الثانية، فالأعراف يمكن أن تتغير، بعد جيل أو جيلين أو ثلاثة! وقد حدث ذلك فعلا؛ فكثير من القيم والأعراف الحميدة التي تربي عليها جيلي لم يعد لها وجود لدى جيل اليوم، والفضل (في ذلك) يعود إلى عملية التجريف الممنهجة لدين المجتمع وقيمه وأعرافه التي قام بها الإعلام، والفن، و(لا مؤاخذة) الأدب، بإيعاز من السلطة التي كانت (ولا تزال) تعمل على تدجين الشعب، بسلخه من دينه وقيمه وأعرافه! ففي أوروبا (مثلا) كانت النساء (حتى مطلع القرن العشرين) محتشمات جدا، وكان ظهور المرأة بالمايوه جريمة يعاقِب عليها القانون! فهل بقي (اليوم) من ذلك شيء؟!
أما الحديث عن "الدولة المدنية" باعتبارها نقيض أو مقابل "الدولة الإسلامية" فهو ضرب من المخاتلة! فالمدنية تعني: احترام الدستور وسيادة القانون، ولا علاقة لها (من قريب أو من بعيد) بهوية الدولة، سواء كانت إسلامية، أو مسيحية، أو يهودية، أو ليبرالية، أو ماركسية! أقول ذلك على سبيل "التقريب".. أما الحقيقة الناصعة فتقول: إن العالم لم يعرف دولة احترمت الدستور والقانون كما احترمته "دولة المدينة" الأولى التي أسسها الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ووليَ أمرَها من بعده الخلفاء الراشدون، أما ما جرى (بعد ذلك) من مخالفات، فالإسلام منه براء، وهو حجة على أصحابه، لا على الإسلام.
قراءتنا للإسلام
ليس بوسع أي علماني (في بلادنا) أن يجادل في تلك "الحقيقة" التي لا تحتاج إلى إثبات، ألا وهي أن إنجلترا "دولة ديمقراطية"، بل عريقة في الديمقراطية، و"دولة دينية" كون الملك رأس الكنيسة فيها، و"حامي العقيدة"، ولا يُتوج ولا يتزوج إلا في الكنسية، أيضا هي "دولة مدنية" يسود فيها القانون الذي لا يُعد نافذا إلا بعد إقرار البرلمان، ممثل الشعب، والناطق باسمه.
وقد استخدمت (تجاوزا) مصطلح "الدولة المدنية"، رغم خلو "القاموس السياسي" في الغرب من هذا المصطلح الذي صار "عِلكة" في أفواه العلمانيين، في بلاد العرب والمسلمين..
إذن، إنجلترا دولة ديمقراطية دينية مدنيَّة! هذه حقيقة لا يتناطح فيها عنزان، ولا يتمارى فيها اثنان!
فما المانع، لدى العلمانيين في بلاد العرب والمسلمين، في أن تكون مصر أو غيرها من الدول العربية والإسلامية، دولة ديمقراطية إسلامية مدنية؟!
والرد جاهز في صيغة سؤال، لا يَمَلُّون من طرحه واجتراره ومضغه، وكأنهم وقعوا على ذلك الحجر الذي إذا ألقمونا إيَّاه، سكتنا إلى الأبد: أي إسلام تريدون؟ إسلام الوهابية؟! أم إسلام "الإخوانجية"؟! أم إسلام الملالي في إيران؟! أم إسلام طالبان في أفغانستان؟!
والإجابة أبسط مما يتصورون: لا هذا، ولا ذا، ولا ذاك، ولا ذينك! فكل هذه "الإسلامات" (حسب تعبيركم) ليست سوى "قراءات" للإسلام.. تتشدد، أو تتوسط، أو تنحرف، أو تتطرّف!
أما "قراءتنا" للإسلام، فنزعم أنها قراءة واعية للإسلام في "نسخته الأولى"، غير ملونة بأي لون: جغرافي، أو طائفي، أو عرقي، أو قومي، خالية من الغلو والتفريط.. إنها "قراءة للإسلام" قبل حِقب الفتن والصراعات والمؤامرات، وما تلاها من ملوكيات تسيَّدت فيها الجواري، فرفعت خلقا لا يستحقون، ووضعت آخرين ظلما وعدوانا.. إنها "قراءة للإسلام" التي عاش بها وفي ظلالها المسلمون الأوائل، فاصطبغت حياتهم عدلا، وأمنا، ورخاءً، وقناعة، ورضى..
إن "الحاكم" في "النظام الإسلامي الأول" (وهو النظام الذي نريد) ليس له أي سلطة "دينية" من أي نوع! فهو لا يُفتي، ولا يُشرِّع، ولا يُحلل، ولا يُحرِّم، عدا محمدا صلى الله عليه وسلم، كونه نبيا ورسولا ومشرِّعا.. الحاكم في ذلك النظام "الرشيد"، ليس سوى "مدير" مؤتمن على الدولة والشعب، لا يمتاز عن شعبه بشيء، ولا يتمتع بأي "حصانة" تمنع محاسبته إذا أخطأ، حتى في حق آحاد الناس! على النقيض (تماما) من الحاكم في "النظم الديمقراطية الحديثة" الذي لا يمكن محاسبته، لأنه (ولا مؤاخذة) يتمتع بـ"الحصانة"!
فلماذا تستبدلون (أيها العلمانيون) الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! لماذا هذا الإصرار على "العك" و"تحطيم البوصلة" و"السير على غير هدى" منذ مئة عام، وحتى اليوم؟!
أيها الفرقاء على اختلاف مرجعياتكم الفكرية..
إذا أردتم الحوار؛ كي نمضي (معا) نحو "ثورة" تستنقذ مصر من بين أنياب هؤلاء المخرِّبين الذين ساقوا المصريين إلى مستنقعات الجهل والتخلف والفقر والمرض، فليس لنا إلا مطلب واحد، ألا وهو: الالتزام بتنقية التشريعات القائمة، من كل ما يخالف الشريعة الإسلامية، وعدم إصدار أي تشريع مخالف لها مستقبلا، ولندَع للأزهر الشريف مهمة تعريف "الشريعة"، وليس للإخوان ولا للسلفيين ولا غيرهم! عدا ذلك، فهو محل أخذ ورد، وسنكون معكم أليَن مما تتصورون. فإذا قبلتم فأهلا وسهلا، ولنبدأ من الآن، وإذا أبيتم، فليمض كل صاحب فكر في سبيله، وينجز "ثورته"، إذا استطاع إلى ذلك سبيلا.
(يُتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
الدين في "الثورة التي نريد"
تعود أهمية الحديث عن الدين في "الثورة التي نريد" لأمرين أساسيين:
الأمر الأول: اعتزاز الشعب المصري بدينه وإن لم يلتزم به، يتساوى في ذلك المسلمون والمسيحيون. واستنادا للواقع (وليس للدستور) فإن مصر "دولة مسلمة" كون غالبيتها الساحقة تدين بالإسلام الذي ينهَى أتباعه نهيا قاطعا مانعا، عن ظلم "أهل الذمة" أو التعرض لهم بأذى، بأي صورة من الصور، احتراما لمبدأ "حرية العقيدة"، في المقام الأول، وإمعانا في بث الطمأنينة في نفوسهم؛ كونهم الأقل عددا في المجتمع المسلم.
قد يتوهم البعض أن "أهل الذمة" تعبير مسيء، ينتقص من قدر مواطنينا المسيحيين واليهود! والعكس هو الصحيح؛ فمصطلح "أهل الذمة" يعني أن الشريعة الإسلامية منحت هذه الأقليات "حصانة خاصة"، لا نظير لها في القانون الوضعي، فلا يتجرأ مسلم على المساس بها. ومن ثم، فهم آمنون مطمئنون، في "ذمة" المسلمين إخوانهم في الوطن. على العكس (مثلا) من الوضع في فرنسا "العلمانية" التي يتعرض مسلموها (اليوم) للاضطهاد من قِبل الدولة؛ لكونهم مسلمين وحسب.
الأمر الثاني: ذلك الصراع المحتدم (منذ مطلع القرن المنصرم) حول هوية الدولة ومرجعيتها، لأنهما أول ما سيختلف أو بتعبير أدق أول ما "سيتقاتل" عليه "فرقاء الثورة" في حالتنا المصرية، إذا تعددت مشاربهم الفكرية ومرجعياتهم الدينية أو العقدية! وساعتها سيتكرر سيناريو "الاقتتال الداخلي" بين فرقاء الثورات الثلاث، مع اختلاف في الدوافع والأسباب التي لم تكن محل نقاش وتوافق، قبل اندلاع هذه الثورات، أو نشأت إبَّان نجاحها:
اليعاقبة والجيرونديون، في الثورة الفرنسية.. الخلاف كان جهويا عُصبَويا، أو "شِلليا"، أما جميع الفرقاء فكانوا متفقين على "العلمانية" هوية للدولة.
البلاشفة والمناشفة، ثم اللينينيين والتروتسكيين، في الثورة الروسية.. الخلاف كان حول تفسير الماركسية؛ شيوعية أم اشتراكية؟ أما جميع الفرقاء فكانوا متفقين على "الماركسية الملحدة" هوية للدولة.
أنصار ولاية الفقيه وأنصار ولاية الشعب، في الثورة الإيرانية.. الخلاف حول مبدأ ولاية الفقيه الذي ابتدعه الخميني، وهيمنة رجال الدين "الشيعة" على مفاصل الدولة، وهوية الدولة الدينية "الشيعية الجعفرية الاثني عشرية". فالشعب الإيراني (في غالبيته) مسلم متعدد المذاهب والعرقيات، وهناك شريحة علمانية لا يستهان بها.
وفي "ثورتنا التي لا نريد".. الإسلاميون والعَلمانيون.. الخلاف الأساس سيكون حول "هوية الدولة"؛ إسلامية أم علمانية؟ لأن مصر لا تعاني من المذهبية ولا الإثنية.
ولست أتصور دولة غالبيتها الساحقة مسلمون، ثم تكون دولة "عَلمانية" لا يمنعها مانع من إصدار تشريعات تخالف "ثوابت الإسلام" التي لا يجوز الاجتهاد فيها، أو حتى مناقشتها، مثل أحكام الميراث (أقر برلمان تونس تشريعا يساوي بين الذكر والأنثى في الميراث) أو إباحة الزنا، تحت مسمى "المساكنة" (باتت عرفا مجتمعيا في لبنان)، أو إباحة تغيير الهوية الجنسية (تحول الذكر إلى أنثى والعكس)، أو إصدار تشريعات تبيح "الحق" في ممارسة الشذوذ.. وأخيرا سمعنا بسيدة تونسية سافرة تُدعى "الحاجة" سندس، تعلن عن نيتها الزواج برجلين في آن واحد، بزعم أن القانون التونسي (العلماني) لا يمنع من تعدد الأزواج!
أما إذا أنكر أو استنكر العلمانيون مثل هذه التشريعات وغيرها المخالفة للدين، فعلى أي أساس سيكون الإنكار أو الاستنكار؟! هل لاعتبارات دينية أم لاعتبارات عُرفية؟ فإذا كانت الأولى، فالدين عندهم لا مكان لهم في حياة الناس، وإذا كانت الثانية، فالأعراف يمكن أن تتغير، بعد جيل أو جيلين أو ثلاثة! وقد حدث ذلك فعلا؛ فكثير من القيم والأعراف الحميدة التي تربي عليها جيلي لم يعد لها وجود لدى جيل اليوم، والفضل (في ذلك) يعود إلى عملية التجريف الممنهجة لدين المجتمع وقيمه وأعرافه التي قام بها الإعلام، والفن، و(لا مؤاخذة) الأدب، بإيعاز من السلطة التي كانت (ولا تزال) تعمل على تدجين الشعب، بسلخه من دينه وقيمه وأعرافه! ففي أوروبا (مثلا) كانت النساء (حتى مطلع القرن العشرين) محتشمات جدا، وكان ظهور المرأة بالمايوه جريمة يعاقِب عليها القانون! فهل بقي (اليوم) من ذلك شيء؟!
أما الحديث عن "الدولة المدنية" باعتبارها نقيض أو مقابل "الدولة الإسلامية" فهو ضرب من المخاتلة! فالمدنية تعني: احترام الدستور وسيادة القانون، ولا علاقة لها (من قريب أو من بعيد) بهوية الدولة، سواء كانت إسلامية، أو مسيحية، أو يهودية، أو ليبرالية، أو ماركسية! أقول ذلك على سبيل "التقريب".. أما الحقيقة الناصعة فتقول: إن العالم لم يعرف دولة احترمت الدستور والقانون كما احترمته "دولة المدينة" الأولى التي أسسها الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ووليَ أمرَها من بعده الخلفاء الراشدون، أما ما جرى (بعد ذلك) من مخالفات، فالإسلام منه براء، وهو حجة على أصحابه، لا على الإسلام.
قراءتنا للإسلام
ليس بوسع أي علماني (في بلادنا) أن يجادل في تلك "الحقيقة" التي لا تحتاج إلى إثبات، ألا وهي أن إنجلترا "دولة ديمقراطية"، بل عريقة في الديمقراطية، و"دولة دينية" كون الملك رأس الكنيسة فيها، و"حامي العقيدة"، ولا يُتوج ولا يتزوج إلا في الكنسية، أيضا هي "دولة مدنية" يسود فيها القانون الذي لا يُعد نافذا إلا بعد إقرار البرلمان، ممثل الشعب، والناطق باسمه.
وقد استخدمت (تجاوزا) مصطلح "الدولة المدنية"، رغم خلو "القاموس السياسي" في الغرب من هذا المصطلح الذي صار "عِلكة" في أفواه العلمانيين، في بلاد العرب والمسلمين..
إذن، إنجلترا دولة ديمقراطية دينية مدنيَّة! هذه حقيقة لا يتناطح فيها عنزان، ولا يتمارى فيها اثنان!
فما المانع، لدى العلمانيين في بلاد العرب والمسلمين، في أن تكون مصر أو غيرها من الدول العربية والإسلامية، دولة ديمقراطية إسلامية مدنية؟!
والرد جاهز في صيغة سؤال، لا يَمَلُّون من طرحه واجتراره ومضغه، وكأنهم وقعوا على ذلك الحجر الذي إذا ألقمونا إيَّاه، سكتنا إلى الأبد: أي إسلام تريدون؟ إسلام الوهابية؟! أم إسلام "الإخوانجية"؟! أم إسلام الملالي في إيران؟! أم إسلام طالبان في أفغانستان؟!
والإجابة أبسط مما يتصورون: لا هذا، ولا ذا، ولا ذاك، ولا ذينك! فكل هذه "الإسلامات" (حسب تعبيركم) ليست سوى "قراءات" للإسلام.. تتشدد، أو تتوسط، أو تنحرف، أو تتطرّف!
أما "قراءتنا" للإسلام، فنزعم أنها قراءة واعية للإسلام في "نسخته الأولى"، غير ملونة بأي لون: جغرافي، أو طائفي، أو عرقي، أو قومي، خالية من الغلو والتفريط.. إنها "قراءة للإسلام" قبل حِقب الفتن والصراعات والمؤامرات، وما تلاها من ملوكيات تسيَّدت فيها الجواري، فرفعت خلقا لا يستحقون، ووضعت آخرين ظلما وعدوانا.. إنها "قراءة للإسلام" التي عاش بها وفي ظلالها المسلمون الأوائل، فاصطبغت حياتهم عدلا، وأمنا، ورخاءً، وقناعة، ورضى..
إن "الحاكم" في "النظام الإسلامي الأول" (وهو النظام الذي نريد) ليس له أي سلطة "دينية" من أي نوع! فهو لا يُفتي، ولا يُشرِّع، ولا يُحلل، ولا يُحرِّم، عدا محمدا صلى الله عليه وسلم، كونه نبيا ورسولا ومشرِّعا.. الحاكم في ذلك النظام "الرشيد"، ليس سوى "مدير" مؤتمن على الدولة والشعب، لا يمتاز عن شعبه بشيء، ولا يتمتع بأي "حصانة" تمنع محاسبته إذا أخطأ، حتى في حق آحاد الناس! على النقيض (تماما) من الحاكم في "النظم الديمقراطية الحديثة" الذي لا يمكن محاسبته، لأنه (ولا مؤاخذة) يتمتع بـ"الحصانة"!
فلماذا تستبدلون (أيها العلمانيون) الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! لماذا هذا الإصرار على "العك" و"تحطيم البوصلة" و"السير على غير هدى" منذ مئة عام، وحتى اليوم؟!
أيها الفرقاء على اختلاف مرجعياتكم الفكرية..
إذا أردتم الحوار؛ كي نمضي (معا) نحو "ثورة" تستنقذ مصر من بين أنياب هؤلاء المخرِّبين الذين ساقوا المصريين إلى مستنقعات الجهل والتخلف والفقر والمرض، فليس لنا إلا مطلب واحد، ألا وهو: الالتزام بتنقية التشريعات القائمة، من كل ما يخالف الشريعة الإسلامية، وعدم إصدار أي تشريع مخالف لها مستقبلا، ولندَع للأزهر الشريف مهمة تعريف "الشريعة"، وليس للإخوان ولا للسلفيين ولا غيرهم! عدا ذلك، فهو محل أخذ ورد، وسنكون معكم أليَن مما تتصورون. فإذا قبلتم فأهلا وسهلا، ولنبدأ من الآن، وإذا أبيتم، فليمض كل صاحب فكر في سبيله، وينجز "ثورته"، إذا استطاع إلى ذلك سبيلا.
(يُتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق