صراع الولاءات والوطنيات: التناقض بين الفلسطينيين والسوريين
شهدنا كلّنا موجة النقد الشديدة الموجهة لحركة حماس حين استجارت من الرمضاء بالنار، وذهبت إلى بشار الأسد وأعادت العلاقة به وبنظامه، رغم أنه قتل ودمر سكان مخيم اليرموك، بحجة أن فلسطينيي سوريا كانوا متفقين مع الثوار السوريين ضد ما هو مشهور من إرهاب بشار ومجازره. وقال قومٌ إن هناك شواهد على أن ذهاب حماس والجهاد، الفصيلين الفلسطينيين، وغيرهم إلى جزار دمشق كان بإرغام إيراني، ولم يكن صادرًا عن مصلحة ولا رغبة ذاتية؛ ذلك لأن سياسة إيران القومية جدًّا، الوطنية جدًّا، والتي تنفذها تحت شعارات أممية إسلامية لا تؤمن بها، تبرر تفريقها بين عمل جيشها وعصاباتها والبراميل القاتلة للسوريين، وبين ما توفره من دعم عسكري ومالي للمقاومة الفلسطينية. وقد تقدم أحيانًا دعمًا أمنيًّا لقيادات فلسطينية في إيران ولبنان، كل ذلك بحسب استراتيجيتها ومندرج تحت ترتيب مصالحها وخلافاتها الدولية.
أما الناقدون السوريون فقد شعروا أن إخوانهم المناضلين الفلسطينيين قد غدروا بهم علنًا، وذهبوا إلى عدوهم في مشروع مصالحة ولقاءات ودية، فيما يفهم منه بأن موقف الفلسطينيين انحياز لحاكم دمشق ضد الشعب السوري، خاصة أن كثيرًا من دول العالم تقف مع الشعب السوري حقيقة أو تظاهرًا في مأساته التي لا مثيل لها في العصر الحديث إلا المحارق النازية. أما بقية حكومات العالم فلا ترى أهمية لسوريا ولا لشعبها ولا تختلف من أجلها مع بشار ولا إيران، وقد تتقي وراء شعارات حقوق الإنسان.
كل من الطرفين خطابه منسجم من داخله إلى حد كبير، ومختلف مع غريمه في الخارج، وكل من الطرفين أعلن وجلّى موقفه وظروفه؛ إذ يحتج الفلسطينيون بأننا لم ننتقدكم رغم ذهابكم إلى الأمريكان وتحالفكم معهم، وأنتم تعلمون أن أمريكا تعادي الفلسطينيين نصرة للإرهاب الصهيوني ضد أبرياء فلسطين، وسلاحها موجه لصدورهم العارية، بل قد تجاهل السوريون في اندفاعهم إلى أمريكا فلسطين والعراق وأفغانستان وما ألحقته أمريكا بالمسلمين في كل مكان، حين وضعت من الإسلام هدفًا لها وأخفت عداوتها للإسلام والإسلاميين تحت شعار محاربة الإرهاب، حتى أصبح مصطلح الإرهاب عندهم يعني مطاردة المسلمين واتهامهم بكل مصيبة تحل بهم، وكأنهم يقولون إنكم تقبلون بواقع الخطاب الأمريكي المتناقض ولا تقبلون منا قبول خطاب إيران المتناقض.
هذه مقدمة، وإن طالت للضرورة، بين يدي فكرة المقال، وفكرته أن كلَّ طرفٍ محقٌّ في نقده للآخر، ولكن لماذا هذا التنافر رغم أن خطاب الطرفين ينطلق من مرجعية إسلامية، بل ربما بعض من الطرفين يشتركون في أساس جماعي واحد وهو الإخوان المسلمون، فهل المشكلة في تصوراتهم للمبادئ الإسلامية، أم تنافر حاجاتهم السياسية؟
هناك حقيقة يحب الطرفان تجاهلها وتغييبها عن النقاش، وهي أنهما يعانيان من مشكلات راسخة في العمل والتفكير، سواء شاءوا الحديث عنها أم أغفلوها لظروفهم السياسية المعروفة والمقدرة، ومنها:
أولًا: مشكلة واقعية، وهي عدم استقلال أي من الحركتين سياسيًّا، فحماس قرارها السياسي الخارجي وموقفها وتمويلها، كل ذلك مرهون بمزاج دولة أخرى (إيران) ورغبتها واستراتيجيتها، وزعم الاستقلال عن الضغوط الإيرانية مجرد شعارات لا قيمة لها ولا شاهد لا من الواقع ولا من خطاب الطرف الداعم، ولا نناقش الآن لماذا تدعم إيران الفلسطينيين، فهي لا تفعل شيئًا لوجه الحق رغم ما تنثره على الآذان من مبادئ.
ثانيًا: لم يلاحظ كثير من الإسلاميين أن الخطاب الإسلامي الأممي قد سقط منذ زمن من قلوب وممارسة الإسلاميين أنفسهم، تمامًا كما سقط من واقع القوميين واليسار من قبلهم. ورغم تشبث القوميين واليساريين بالألفاظ القومية والقطرية، ولكن ممارساتهم في واقع الأمر قد أسقطت فكرة العروبة والأمة العربية، وقضوا في الواقع بأنفسهم على شعاراتهم، فهم يفكرون كوطنيين لبلد محدد، من خلاله يعملون وينفذون ولا يبالون بغيره. وإذا كانت الحكومات بوحي خارجي ملزم رفعت شعارات بلدكم “أولًا”، كمصر أولًا أو الأردن أولًا أو سورية أولًا، فإن القلوب والعقول قد حسمت لصالح هذا الموقف قديمًا. فحزب البعث حين أدار نظامه تحت نظام “القومي والقطري” كان يستسلم لنظام وواقع الإدارة الاستعمارية بوعي أو بدونه، وحل دين الوطنية محل الدين الأممي، فدين الوطنية هو دين السياسة في العالم الإسلامي الذي دخل فيه منذ قرن واستسلم له إلى اليوم، ولا يعرف كيف يخرج من دين الوطنية إلى دين الأمة، هذا لو كان قد فكر في ذلك. وكلا الحركتين، حركة التحرر السورية “الثورة” وحركات المقاومة الفلسطينية، أنموذجان لواقع هذا الدين أو الواقع الجديد المتحكم واقعًا والمنكر لفظًا في الوقت نفسه، كلاهما تؤمنان في واقع حالهما بدين الوطنية الذي فرضه الاستعمار منذ نحو قرن من الزمان، وهذا الدين يسري في المجموعتين سريان الدماء في الأجساد، ولم يعد في الواقع مستغربًا وإن كان في الألفاظ مكروهًا.
ثالثًا: بسبب من الهيمنة الغربية والشرقية على المنطقة وتفكيرها، فإن من السهل انتقاد طرف دولي أجنبي ومتخلف إعلاميًّا مقارنة بطرف آخر، فانتقاد روسيا وإيران أسهل من انتقاد أمريكا وحزبها في المنطقة، وأذكر أن أحد الصحفيين العراقيين ضج من اهتمام العرب بغزة أكثر من الاهتمام بالعراق، مقارنًا ما هي غزة مقارنة بالعراق؟ ولم ينتبه لسهولة نقد الصهاينة عربيًّا وصعوبة انتقاد أمريكا وعواقب ذلك، لأن المنطقة العربية تحت الهيمنة الغربية المباشرة، ونقد الغرب فيها يزعج الناقد مهما تكن الجريمة، بعكس إيران وروسيا، إذ إن نقدهما سهل على المقيمين في مناطق النفوذ الغربية أو بلاد الناتو، وينسى الناقدون الثقافة السياسية القاهرة لأي شخص من قبل توجهات البلد الذي يقيم فيه.
رابعًا: هناك الدور الوظيفي لأي دولة أو جماعة، من الصعب أن يتخلص منها أحد في زمن النظام العالمي القائم، وإذا كنت قد تخيلت كغيري أن حماس، خاصة غزة، تستطيع أن تكون كيانًا مستقلًا فإن هذا يبدو بعيدًا، ومن ثمّ فإن أمريكا وإسرائيل أصرتا على مشاركة حماس في الانتخابات عام 2006، لتكون تلك المشاركة الضعيفة مبررًا لخضوع السلطة الفلسطينية التابعة للمحتل، ولكن ولسوء حظ الجميع، بمن فيهم حماس، فازت حماس بالأغلبية تحت الاحتلال، وهذا لا يعني إلا مشقة مضاعفة، ورددتُ وقتها على الآذان في جمع سياسي خطأ الانتصار، متمنيًا أنهم خسروا الانتخابات:
وللسهم الشرود أخف عبئًا على الرامي من السهم المصيب
فليتهم لم يفوزوا؛ لأن الفوز يعني مواجهة البؤس منفردين، ومواجهة الحصار والتمزق، ثم تنازلوا عن انتصارهم في المجلس التشريعي؛ فالمحيط والعالم ضدهم، وحكومات العرب أشد حقدًا عليهم من الصهاينة، وذلك كراهية لأي كيان ينوي أن يتحرر فيفضح عبوديتهم، إنه منطق: “ودت الزانية لو زنى النساء كلهن”. وقد صنع انتصارهم مزيدًا من التماسك بين الحكومات العربية الوظيفية وبين سادتهم في تل أبيب، وكله بحجة إعاقة حماس والإسلاميين عن أي نجاح، وكذلك خوفًا من حماس أن تنافسهم فتدخل سوق العمل الوظيفي لأي الأطراف. وكان خوفنا أيضًا من أن تقوم حماس بنفس دور الحكومات، ولم يغن التخوف من حصوله واقعًا، إذ إن منصب الحكم أو بعضه في المنطقة العربية المحتلة كلها في الواقع يلزمها أن تقوم بدور وظيفي لأي جهة من جهات النزاع، وقد وقعت فيه حماس شاءت أم أبت، سواء أقر أحدهم أم حاول ألا يقر، أما لماذا يستسلمون لهذا الدور؟ فمن الجواب: لأنهم لا يملكون أرضًا ولا منافذ ولا اقتصادًا ولا سلاحًا يخصهم.
ثم إن حماس شق عليها جدًّا أن تنقسم إلى كيانين منفصلين: أحدهما يقبل شروط الإدارة المملاة على منظمة التحرير، وقسم يناضل بالممكن. وبدت الفكرة حين عرضت عليهم وقتها غريبة بعيدة، إن لم تكن مكروهة؛ لأنها ستقسم الموحد، وقد تصنع فريقًا جديدًا يرتبط بالمكاسب التي يمنّ بها المحتل أو عماله في المنطقة، لكنها كانت فكرة للتخفيف من التناقض الذي وقعت فيه، وسوف يكبر هذا التناقض.
فإذا كانت الثورة السورية قد انتهت إلى دور وظيفي، سياسة ونضالًا، رغم العدد والمساحة والحدود والمشروعية، فكيف لا تنتهي حماس الأكثر حاجة وضعفًا ووضوحًا إلى دور وظيفي في صراعات منطقة ضعيفة تابعة، ليس لسكانها وحكامها إلا سلاح المناورة الضعيفة بالاستقلال والتبعية.
وللتوضيح، ليس هذا الخلاف كله كما يظهر للمستمعين من كل الجهتين، فهناك مسكوت عنه كثير عند الطرفين يحدد مواقفهما، ولو رجعتم لأيام سعيد حوى والقيادة الإخوانية السورية عام 1979 وما بعد ذلك، وكيف انحازوا في البداية لإيران باندفاع شديد، ولما بدأت الحرب العراقية الإيرانية وتحالف بشار مع إيران ضد العراق، غيّر الإخوان موقعهم وذهبوا لبغداد. رغم أن العدو هو البعث في البلدين. إن ضعف المعارضات وعدم استقلالها يرمي بها كل وقت في مكان، ولا معنى للكلام عن استراتيجيات ذاتية، بل الضعف يملي الإكراهات.
وكان الإخوان يرددون دائمًا عبارة: “نعمل فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه”، فماذا حصل لهم حتى تنافروا هذا التنافر في عمل فلسفته مشتركة ومنكرة عند الطرفين؟ ذلك لأن التسامح أصبح كلامًا أو شعارًا بلا حقيقة، ثم إن الواقع والمشاهد المؤلمة التي وقعت على السوريين لم تعد تسمح بالتساهل مع المجرم خطابًا، فضلًا عن زيارته. وللحق فإن قطاعًا كبيرًا من الفلسطينيين يشاركون السوريين في الاستياء، ولكن هل هؤلاء الناقدون للفصائل التي زارت بشار ممن مستهم السياسة، أم لهم حياة بعيدة عن ظروف فلسطين المحاصرة؟ يحسن بنا أن نعرف الواقع وليس الأماني.
أخيرًا..
أردت كشف جانب من تحولاتنا الفكرية، التي نصمت عنها، فنقرها واقعًا ونتحاماها لفظًا وتصريحًا، وننسى أنها تنخر في العقول وتستخدم الألسنة، وننسى أيضًا أن الحال الصعبة تملي علينا أفكارًا لا نحب أن تظهر أننا نقبلها. وإذا كانت الحكومات الوظيفية تقبلها وقد تعلنها كما تغطي على الحقيقة المملاة عليها بغشاء نفاق ضعيف ووطنيات مدعاة، فإن الحاجة أكبر أن نعرف كيف نفكر أكثر من حاجتنا إلى تجاوز سطحي سريع، فهل كانت الثورة السورية تملك خيار اختيار من يناصرها؟ وهل كانت حماس تملك اختيار من يناصرها؟ لا يبدو أن أحد الفريقين كان يستطيع العمل في مناطق النفوذ الاستعماري دون هذه الولاءات الإكراهية المتناقضة، مهما بررها بمثاليات الاستقلال والاختيار الحر الموجود على الألسنة، والبعيد جدًّا عن كل واقع، فإن سلاح المقاومة الفلسطينية أغلبه إيراني، كما أن سلاح الثورة السورية أغلبه أمريكي، وعليك أن تنظر إلى آثار ذلك وليس إلى الخطابات المثالية. إن الإيمان بمشروعية الثورة السورية كالإيمان بمشروعية الثورة الفلسطينية، فهل يمكن التخفيف من اللوم المتبادل والعذر بظروف القهر عند الطرفين، ويتم الاعتراف أو الاستسلام لدين الوطنيات والعمل من خلاله، كما استسلم له كثيرون، أم يبقى مثقفونا من إسلاميين وغيرهم داخل نفاق وشعارات أممية إسلامية أو عربية، رغم سيادة دين الوطنيات في عقولهم وقلوبهم ودواخلهم، والذي ينعكس على تفكيرهم وممارساتهم؟ إن كان هناك من خيار مرحلي وطني فهو كريه مهما كان ممارسًا، وإلا فما على الجميع إلا البحث عن خطاب أممي بديل، إذ الواقع هو نتيجة لأمرين: أولهما: عدم الاستقلال عند الطرفين، وثانيهما سياسة وخطاب الوطنيات المحلية التي تنطوي على الذات، وتتساهل في النظر إلى المظالم الواقعة بالآخرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق