تهافت الإلحاد المعاصرد. عطية عدلانمدير مركز «محكمات» للبحوث والدراسات – اسطنبول
لم أكُنْ مندهشًا وأنا أطالع للبروفيسور الأمريكي “جيفري لانغ” كتابه: “حتى الملائكة تسأل” والذي يحكي فيه بِلُغَةٍ مُتْرَعَةٍ بالصدق مُفْعَمَةٍ بالروحانية قصةَ إسلامه، ولا وأنّا أقرأ بعمق للعائد من الإلحاد إلى محضن الإيمان الفيلسوف البريطاني “أنطوني فلو” كتابَهُ: “هناك إله”؛ ذلك لأنّ هذا هو الوضع الطبيعيّ عندما يُخَلَّي بين الإنسان وبين فطرته، وعلى التوازي لم أكن مندهشا وأنا أتصفح أدلة بعض عُتاة الإلحاد من أمثال “ريتشارد دوكنز” ولم أتفاجأ بما اشتملت عليه من مغالطات تنحطّ إلى مستوى (السوءات الفكرية!) وينحدر بها التنظير إلى مستوى (العهر الأكاديمي!)؛ ذلك لأنّني على يقين بأنّه لا يخرج على الفطرة إلا فكر انتكس في الحمأة.
الدهشة التي تحير الألباب
إنّما تتملكني الدهشة عندما أرى أشخاصًا ألحدوا وقد كانوا من قبل مسلمين! وسواء أَكان ذلك ذلك بسبب فشل الحركة الإسلامية، وخذلانها لآمال الشباب، وتَسَبُّبِها في ضياع ثورة الشعوب العربية، أو كان بسبب الغارات الفكرية الشرسة التي واكبت الانقلابات، واستثمرت جَوَّها الْمُوَشَّح بالغيوم، فإنّ المبرر العقليّ والْمُسَوّغ المنطقيّ منعدمٌ بكل تأكيد لدى هؤلاء جميعا، وما يُبْدُونَهُ من ثقة واعتداد ليس سوى حالة نفسية، تستطيع أن تقف على حقيقتها إذا تصورتَ إنسانًا يَبْحَرُ بقارِبِهِ على ثبج الكثبان الرملية، ويجدف بعناد وكبرياء، غير آبِهٍ بما أَلَمَّ به من التعب والنصب والإعياء.
رويدكم فليس وراء الأكمة إلا السراب
رويدك أيها المندفع بوثوقية مفرطة نحو اللامعقول، فإنَّ كافّة النظريات التي قام عليها ذلك الهرم المصنوع من الحطب قد انهارت تحت مطارق العلم ذاته، وفي مقدمتها نظرية “الصدفة”!، التي قُضِيَ عليها بمنطق العلم ذاته، فقانون الطاقة المتاحة، الذي يقول إنّ الكون يفقد الطاقة باستمرار وإنّ الحرارة تنتقل دوما من وجود حراري إلى وجود حراري أقل، والعكس ليس ممكنا، بما يعني أن الكون سائر إلى فقد الطاقة ومعها فقد كفاءته للعمل، وهذا يعني أن الكون ليس أزليا؛ لأنه لو كان أزليا لفقد طاقته منذ زمن بعيد، وإذا لم يكن أزليا وكان حادثا فمن الذي أحدثه: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ).
أمّا نظرية التطور التي فُتِنَتْ بها الإنسانيةُ دهرًا طويلًا فلا توجد نظريةٌ نالتْ من التّفْنِيد العلميّ ما نالته هذه النظرية البائسة، يقول عالم الكيمياء الحيوية البلجيكي “كريستيان دو دوف”: “إذا حسبنا فرصة ولادة خلية بكتيرية واحدة – وهي أبسط أنواع الخلايا – بسبب تجمع ذراتها المكونة (عشوائيا) فإنّ الأبدية لا تكفي لخلق تلك الخلية المفردة”! وقد ثبت رياضيًا أنّ احتمال تشكل أبسط خلية حية من السائل الحيوي – الذي يَفْتَرض العلماءُ تَكَوُّنَهُ من 20 حمضا أمينيا تَوَضُّعُها يساري – احتمال يعادل احتمال أن يقوم إنسان برمي مكعب النرد 50 مرة متتالية فيظفر في كل مرة بالرقم 6 دون إخلال.
ولقد أثبت العلم أنّ فكرة التطور ذاتها غير صحيحة؛ لأنّ الأمر المشترك في معظم الطفرات هو أنها انتكاسية، أي تكون للأسوأ لا للأفضل، والكائن الناتج عنها يكون أقل تطورا من سلفه، هذه الحقيقة أكدتها مجلة “سينتيفيك أمريكان” بقولها: “أدت الطفرة في الجينات في أكثر من تسع وتسعين بالمائة من الحالات إلى تأثيرات ضارة، وخلل في وظائف الأجهزة والأعضاء في الكائن الحيّ”.
ويؤكد “روبرت جاسترو” في كتابه “عمالقة عمي وأقزام بيض” أنّ “السنوات البليون الأولى التي سبقت ظهور الحياة كانت كصفحة بيضاء في تاريخ الأرض، وكل بقايا الأحافير التي وجدت في الأوقات اللاحقة في الصخور لا تدل على بداية بسيطة للحياة؛ بل تدل على العكس من ذلك، فقد كانت تضم معظم التعقيدات البيوكيمائية للخلايا الحية والتي نعرفها اليوم” ويقرر عالم الرياضيات “ديفيد بلوك”: “أننا نعيش في كون كل ما فيه محسوب؛ ليكون بيتا لنا”.
واعجبًا .. أهكذا يفكرون؟!
ربما يندهش المرء إذا علم أنّ الأزمة قبل كل شيء أزمة أبيستمولوجية معرفية، لكنّ الدهشة سوف تزول إذا علمنا أنّ آثار هذه الأزمة تركزت في إدارة الظهر (للغائية) وماوراء الكون المنظور، فوقوف المناهج المعرفية في العصر الحديث عند حدود التجربة الحسية يجعل النتائج العلمية لا تتجاوز حدود المادة، ولا تفكر فيما وراءها من أسباب، إلى حدّ إنكار (الغائية) في كل ما يجري في هذا الكون المحكم، وإلى حدّ التنكر الفج للعِلِّيَّةِ والسببية!
وخلاصة هذا المذهب الذي فرضه “ديفيد هيوم” وأمثاله هو أنّ ما يحدث في عالم الواقع لا يتعدى التعاقب بين الحادثتين المشهودتين حسًّا، ولا وجود لشيء اسمه الضرورة السببية، فعلاقة السببية ليست ضرورية؛ ومن ثم فهي ليست قبلية، وعلى الرغم من أنّ “برتراند رسل” كان ملحدا لم يقبل هذه الطريقة في التفكير، وقال: إنّ هذا سيؤدي إلى نتيجة مَيِّتة؛ لأنّنا لن نستطيع بالاستقراء الوصول إلى نتائج وقوانين كلية إذا لم تكن هناك عِلَّةٌ قبلية.
“ديفيد بيرلنسكي” في كتابه الرائع “وهم الشيطان” وأثناء رده على ديفيد هيوم – الذي دعا إلى إلقاء كتب الدين في النار بزعم أنّها لا تشتمل على تفكير مجرد يتعلق بالكم والعدد ولا تفكير تجريبي يتعلق بحقائق الوجود – يقول: “مهما كان العنفوان الذي حمل ديفيد هيوم على الإدلاء بآرائه؛ فإنّ حججا كهذه حين تطبق على ذواتها تعود على نفسها بالإبطال؛ إذ إنّ تقريرات هيوم لا تشتمل بدورها على تفكير مجرد يتعلق بالكم والعدد ولا تفكير تجريبي يتعلق بحقائق الوجود، لقد قيلت لكي تؤخذ على عِلَّاتِها، وهذا جمع بين الكبر والسماجة”.
عَالِمُ الفيزياء “فريمن دايسون” يقول: “كلما قمت بفحص هذا الكون ودرست تفاصيل تكوينه؛ وجدت دليلا إضافيا على أنّ الكون يعرف أنّنا قادمون”، ويضيف “جون ديفيد بارو”: “هناك معادلات رياضية، تتمايل على الورق، تخبرنا: كيف يسلك هذا الكونُ بأسره!”، وهذا “بول ديفيز”: “العلم يقوم على فرضية أنّ الكون عقلانيّ ومنطقيّ على كافّة المستويات”، فماذا يصنع منهج “هيوم” وأَضْرابُه أمام هذا السيل من اعترافات المتخصصين؟! وَثَمَّ مئاتُ الاعترافات تجاوزناها اختصارًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق