الدكتور محمد البهي الوزير الأزهري العسكري في زمن العصبة الناصرية
الدكتور محمد البهي ١٩٠٥- ١٩٨٢ هو ثاني وآخر علماء الأزهر الذين عملوا في عهد الرئيس عبد الناصر بعد الشيخ أحمد حسن الباقوري، ولم يستوزر في عهد عبد الناصر من علماء الأزهر سواهما، وهو أول مَنْ اختير ليشغل منصب مدير جامعة الأزهر بعد صدور ما سمي «قانون تطوير الأزهر» (1961)، بيد أن حظه في إتمام التطوير كان ضعيفا إذا ما قورن بحظ الشيخ الباقوري الذي تلاه في ذلك المنصب وأضفي عليه من نشاطه وعلاقاته وتوجهاته وثقافته ما جعل التطوير أمرا واقعا وما جعل ذكر الجامعة في اذهان المثقفين يرتبط باسمه لا باسم الدكتور البهي.
نبدأ بالإشارة إلى ما هو غير مشهور وهو أن الدكتور محمد البهي كان واحدا من خريجي الأزهر في جامعته الإقليمية الأولي في الإسكندرية، وهو أمر غير مشهور، لكننا نزيده وضوحا هنا بأن نذكر ما ذكرناه في دراسة موسعة لنا من أن الأزهر كان سباقا إلى منح مؤسستيه الأزهريتين في الإسكندرية (معهد الإسكندرية) وطنطا (المعهد الأحمدي) صلاحياته الجامعية بتتويج طلابه بالشهادات العليا في هاتين المؤسستين مباشرة، وهكذا كان من الممكن أن يتخرج الخريج الأزهري على المناهج الأزهرية باعلي درجات التخصص من الإسكندرية (أو طنطا) دون حاجة إلى القدوم إلى الأزهر في القاهرة، وقد ظل هذا النظام سائدا لفترة من الوقت حتى تغلبت نزعة المركزية (وهي نزعة تاريخية سائدة بالطبع فضلا عن أصولها الفرعونية )، ونقل طلاب هذين المعهدين إلى الأزهر في القاهرة، وفي أثناء فترة الاستقلال الجامعي لمعهد الإسكندرية الديني تخرج في الأزهر بشهاداته العليا كل من الإمام محمود شلتوت والدكتور محمد البهي.
محطات حياته الست التي لا يمكن تجاوزها ولا يستحب الغرق فيها
لا تستقيم كتابة سيرة الدكتور محمد البهي من دون الإشارة إلى ست جزئيات في غاية الأهمية لا ينبغي تجاوزها ولا ينبغي الغرق فيها:
الجزئية الأولى: أن لهذا العالم الجليل مذكرات غير مشهورة، صدرت عقب وفاته، وقد تناولناها بالمدارسة مع مذكرات الشيخ أحمد حسن الباقوري في كتابنا "العيش مع العاصفة: الباقوري والبهي وعبد الناصر"، بيد أن هذا الكتاب يقبع في المطبعة منتهيا وجاهزا منذ الانقلاب وحتى الآن، نرجو الله أن يفك أسره .
الجزئية الثانية: أنه لولا عناية الدكتور محمد رجب البيومي بتسجيل تاريخ هذا الرجل العلمي والثقافي والاشادة بأدواره وحواراته الفكرية لضاع ذكر كل هذا تماما، فقد كان اداؤه في مناصبه كفيلا بصرف الازهريين وغير الازهريين عن تقديره واثبات أي فضل له .
الجزئية الثالثة: أن الدكتور البهي قبل ثورة ١٩٥٢ كان قد نال حظوة في الوظائف الازهرية وكان مرشحا لان يصل لأكثر مما وصل إليه في ظل حكومات ١٩٥٢ لكنه أصبح بلا مبرر محسوبا من رموز عهد عبد الناصر مع أنه لم يقل بهذا لا هو ولا العهد الناصري .
الجزئية الرابعة: أن ذكره في الأدبيات السياسية يكاد ينحصر في موقفه من رفضه اخلاء فيلا كان يستأجرها لتسكنها السيدة برلنتي زوج المشير عبد الحكيم عامر، بعد ما تم شراء الفيلا لوالدتها، وقد خاض في هذه القصة معارك أضاعت كثيرا من وقته وصفاء نفسه.
الجزئية الخامسة: أنه كان زوجا لابنة الشيخ على الغاياتي شاعر الوطنية الكبير التي نشأت في سويسرا مع والدها ووالدتها السويسرية، لكن الدكتور البهي لم يوجه جهدا مستحقا لتكريم ذكرى حميه .
الجزئية السادسة: أن هذا العالم الجليل عاش عصر الرئيس أنور السادات كله وشهد الصحوة الإسلامية، لكنه كان بعيدا تماما عن الاشتباك مع ذلك العصر، لغير ما سبب، وكأنه لم يعش يوما فيه.
اختير الدكتور البهي عقب تخرجه عضوا في البعثة الأزهرية التي رصدتها جماهير مديرية البحيرة تخليدا لذكري ابنهم الإمام محمد عبده ابن البحيرة، وسافر إلى ألمانيا في سبتمبر 1931 وبقي فيها حتى 1936
نشأته وتكوينه
ولد الدكتور محمد البهي في مديرية البحيرة (شبراخيت) سنة 1905، وتلقي تعليما دينيا تقليديا بدأه في الكتاب، ثم التحق بمعهد دسوق ثم معهد الإسكندرية، وقد كان من حسن حظه أن وفق إلى أن يختصر القسم العالي من دراسة الأزهر في عام واحد حين سمح القانون بالتقدم للامتحان النهائي بعد عام واحد من الانتهاء من المرحلة الأولي من الدراسة الأزهرية التي كانت تتطلب دراسة ثماني سنوات، وهكذا فإنه نال شهادته العالمية بعد عام واحد من اتمامه المرحلة الأولي مباشرة، ثم التحق بقسم التخصص لتدريس البلاغة والأدب، فانتهي منها في السادسة والعشرين، وحصل البهي على درجة التخصص في الأدب والبلاغة (1931)، وبدأ طريقه إلى البعثة في ألمانيا. ويروي أن البهي كان من الذين ظهر نبوغهم في أثناء الدراسة مبكرا وبدرجة مذهلة، حتى ليقال إن أساتذته كانوا يخشون أسئلته.
اختياره في بعثة الشيخ محمد عبده
اختير الدكتور البهي عقب تخرجه عضوا في البعثة الأزهرية التي رصدتها جماهير مديرية البحيرة تخليدا لذكري ابنهم الإمام محمد عبده ابن البحيرة، وسافر إلى ألمانيا في سبتمبر 1931 وبقي فيها حتى 1936، حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة وعلم النفس بالامتياز.
صعود نجمه بعد عودته من البعثة
وبعد عودته عمل بالتدريس في الكليات الأزهرية، كما تولي مسئوليات ثقافية وعلمية وإدارية في الأزهر الشريف، وعرف بالجد الشديد، والإنجاز المتصل، كما عرف بالقدرة على التواصل مع المجتمع العلمي، والثقافي، والصحفي، لكنه في كل هذا لم يكن من أصحاب الجماهيرية، وإنما كان أقرب إلى الأكاديميين الذين يختلطون بالحياة العامة بقدر محسوب، وقد امتد نشاط الدكتور محمد البهي المبكر إلى الصحافة والكتابة للجمهور، وكان من بين علماء الأزهر الذين نجحوا في الاتصال بالجماهير عن طريق الصحافة الثقافية والعامة أيضا، وقد كتب في مجلات «الثقافة» و«الرسالة» و«الأزهر»، كما كتب في جريدة «الأهرام».
تمثيله مصر في مؤتمرات الخارج
وقد شارك الدكتور البهي في بعض الندوات العلمية في مصر والندوات العلمية الدولية، منها ندوة جامعة برنستون الأمريكية (1953).
كان الدكتور البهي يتمتع بقدرات بيانية علمية مكنته من أن يقدم زادا فكريا على درجة رفيعة من التجديد والإتقان ودقة العبارة ووضوح الفكرة. وربما يكون أشهر مؤلفاته هو كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»
معاصرته لازمة مارس ١٩٥٤
ومن أطرف ما يمكن لنا أن ننقله هنا هو ما تتضمنه رواية الدكتور سيد أبو النجا عن تراجيديا اضطهاد الثورة الذي مورس ضد آل أبو الفتح أصحاب المصري حيث يقول إن صلاح سالم توجه لدار جريدة «المصري» فأعلن إغلاقها دون أن يتضمن الحكم ذلك، وجري بالكرباج خلف المحررين فأسرعوا بتركها إلى ميدان التحرير، ولم يسعف الوقت د. محمد البهي وكان محررا بالجريدة فوضع رجله اليمني في فردة من حذائه، ولم يجد الفردة اليسري فجعل يقفز بساق واحدة حتى خرج من الدار، ثم تقدم فيما بعد لمحيي الدين الشاذلي الذي عين حارسا على المطابع بطلب صرف للفردة التي تركها !!
توليه الوزارة
اختير الدكتور محمد البهي وزيرا للأوقاف في وزارة على صبري الأولي (سبتمبر 1962) وحتى مارس 1964 فقط، حيث خلفه المهندس أحمد عبده الشرباصي.
نموذج الوزير الصارم
وقد ظل الدكتور محمد البهي منذ ذلك الحين نموذجا لمن غطت الانطباعات المتواترة عن شخصيته الحازمة كوزير وكمدير جامعة إلى درجة أنه لايزال يضرب المثل به وبوقوفه بنفسه عند كشوف الحضور والانصراف لمراقبة التزام موظفي الوزارة بالمواعيد. وكان من الطبيعي أن ما هو أهم من هذا فيما يتعلق بقيمة علمه ومنهجه وفكره وتفوقه قد أهمل في ظل الحديث عن صور هذه الصرامة.. وهكذا ترينا حياته السياسية (القاسية أو حتى المتزمتة) الدليل على أن الأولي بالعلماء الجادين أن ينصرفوا عن المناصب إذا جاءتهم في زمن تعم فيه الفوضى وتختلط فيه المعايير وتتراجع القيم، ولولا أن الله وفقه إلى أن يترك مجموعة من المؤلفات كانت ولا تزال كفيلة بتخليد اسمه لفقد كل حظه من الخلود بقدر ما ساء حظه في السياسة.
عضويته في مجمع البحوث الإسلامية
كان الدكتور البهي قد اختير عضوا في مجمع البحوث الإسلامية (1962) بعد تأسيس المجمع.
كتابه الأشهر «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»
كان الدكتور البهي يتمتع بقدرات بيانية علمية مكنته من أن يقدم زادا فكريا على درجة رفيعة من التجديد والإتقان ودقة العبارة ووضوح الفكرة. وربما يكون أشهر مؤلفاته هو كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»، وفيه يظهر بوضوح أنه كان حريصا على إظهار أنه لم ينخدع في الإصلاح الإسلامي على مبادئ الغرب، وأنه لم يكن ليجاري تقديم الإسلام في الصورة التي يقدمه بها المستشرقون، وإذا كان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده قد قاوما الاستعمار مقاومة واعية يسندها الدليل الملزم، فإن الدكتور البهي كان حريصا على أن يؤطر جهودهما في هذا النطاق، وأن يفرق بين جهودهما وبين جهود آخرين تالين لهم عُرفوا بالإصلاح الديني على مذهب الغرب، فتخلوا عن تعاليم أصيلة من مبادئ الإسلام زعما بأنها لا تصلح للبقاء، فكسبوا الشهرة والمال وخسروا الشرف والكرامة.
محاربته للشيوعية
أما ما كتبه البهي في تفنيد الشيوعية فقد كان على حد وصف الدكتور محمد رجب البيومي شجا في حلوق ذيولها في مصر، فعملوا على مطاردة الكتاب، وحاربوا إعادة طبعه في الدار القومية للنشر بعد أن تعاقدت على نشره .
كتبه في التعريف بالفكرة الإسلامية
أما كتابه «المجتمع الحضاري وتحدياته من توجيه القرآن الكريم» فهو صور من صور ما يسمي بالتفسير الموضوعي. وفيه عقد فصلين مهمين يتحدث أولهما عن مظهر الوحدة في القرآن، إذ يشير إلى وحدة المعبود، وإلى الوحدة في ذات الإنسان، وإلي الوحدة في اتجاه المجتمع، من مؤلفاته أيضا «الشباب والتطرف في الإيمان» و«الإسلام دعوة وليس ثورة».
مناظرته لاستاذه عن فلسفة التاريخ
يروي الدكتور محمد رجب البيومي أن الدكتور محمد البهي جادل وهو طالب بعثة أستاذه «نوك» في محاضراته عن فلسفة التاريخ لهيجل، وهو يروي قصة هذا الصدام في كتابه «النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين»، مشيرا إلى أن الدكتور البهي بذل وقته في تأليف بحث (كتاب) بعنوان «رسالة الإسلام بين هيجل ومحمد عبده» وذلك على الرغم من أن الموضوع لم يكن متعلقا برسالته الجامعية، ولكنه فعل هذا من أجل ما رآه واجبا دينيا ينبغي أن ينجزه، وقد لخص الدكتور البيومي ملامح هذا البحث المبكر الذي نشره الدكتور البهي: «… أصر البهي على أن يؤلف باللغة الألمانية كتابا تحت عنوان «رسالة الإسلام بين هيجل ومحمد عبده» وقد اختار الأستاذ الإمام بالذات، لأن ما كتبه في الإسلام والنصرانية يصلح ردا شافيا على أخطاء الفيلسوف الألماني الكبير، التي عزاها إلى الإسلام، وكان الدكتور البهي لبقا حين أعلن أن المسيحية لا تؤاخذ بأخطاء المسيحيين، وذكر من هذه الأخطاء ما يعد تحديا للإنجيل، وذكر ذلك في إسهاب ليقول: إن أخطاء بعض المسلمين كذلك لا تحسب على الإسلام، وقد ناقش الفيلسوف في عدة مسائل، أهمها ما توهمه من أن الفردية في الإسلام هي العمل للآخرة وحدها مع الانقطاع عن الحياة، فساق البهي من النصوص الدينية ومن أعمال الرسول وصحابته ما يدحض ذلك، وإذا كان هيجل قد قرر اعتماد الإسلام في انتشاره على السيف دون الرأي، فإن المؤلف قد عصف بما قرره مستندا إلى أقوال المنصفين من أساتذة أوروبا أنفسهم، كما أطال الحديث عن دعوي التعصب التي ألصقها الفيلسوف الألماني بالإسلام، فعرض صفحة ناصعة من التاريخ الإسلامي في أزهي عصوره تكذب بالشاهد الملموس ما يقال عن التعصب، أما تقهقهر المسلمين في العصور الأخيرة فقد جاء نتيجة للابتعاد عن تعاليم الإسلام، ولم يجيء بسبب تعاليم الإسلام كما شاء هيجل أن يقول». «وبعد أن كشف الباحث عن حقيقة ما قاله هيجل، امتد به الحديث إلى كتاب «الإسلام والنصرانية» للأستاذ الإمام، ليدقق في وضع مقارن بما قاله الفيلسوف، وليصحح فكرة هيجل حين قرر أن قوة الإسلام قد اختفت كعامل في قيادة العالم».
محاوراته مع الأستاذ محمد فريد وجدي حول فلسفة الإغريق
وقد دارت محاورات بين الدكتور محمد البهي وبين الأستاذ محمد فريد وجدي حول قيمة فلسفة الإغريق ومكانتها في تطور الفكر الإنساني، وقد كانت هذه المحاولات السبب في تأليف الدكتور البهي لكتابه الشهير «الجانب الإلهي في التفكير الإسلامي»، فلما ظهر الكتاب أثني على ه الأستاذ محمد فريد وجدي بما عرف عنه من الانصاف والخلق الكريم والسمو، وكان مما قاله في الثناء على الكتاب: «هذا كتاب جليل قدره، عظيمة فائدته، طريف موضوعه، قام بتأليفه حضرة الأستاذ الألمعي الدكتور محمد البهي، مدرس الفلسفة بكلية أصول الدين، واسمه يدل على المجهود المضني الذي يقتضيه إبراز مثل هذا العمل الفذ في اللغة العربية، ومجرد استكمال المراجع العربية التي اعتمد على ها، ونقل ملاحظات قيمة منها، يدل وحده على مبلغ ما عاناه الأستاذ المؤلف من الجهد الجاهد، في سبيل إقامة هذا الصرح الفلسفي في أدق المواضيع، وأحوجها للعناية والتدقيق، إذ يعرض موقف فلاسفة المسلمين في الشرق من التراث العقلي الإغريقي فيما وراء الطبيعة، ولأجل الوصول إلى هذه الغاية جعل يذكر آراء المدارس الفلسفية، ويوضح أن رأيهم في تصورهم الوجود، وتصويرهم له، يتمثل في التوفيق بين الدين والفلسفة، أكثر من أن يعبر عن بناء جديد في التفكير الفلسفي فيما وراء الطبيعة».
وقال الأستاذ محمد فريد وجدي أيضا في الإشادة بكتاب الدكتور البهي: «هذا خضم متلاطم الأمواج من البحوث، استطاع ممثل النبوغ الأزهري في الفلسفة الحديثة أن يحصره في 293 صفحة حافلة بالنظرات القيمة، والتعليقات الثمينة، فنثني على مؤلفه النابغة أطيب الثناء، أكثر الله من أمثاله في النبغاء».
معركته مع الأستاذ توفيق الحكيم
كذلك يروي الدكتور محمد رجب البيومي قصة معركة مبكرة بين الدكتور محمد البهي والأستاذ توفيق الحكيم حين كتب مقالا ينعي فيه على شيخ الأزهر اعتراضه على تقرير رواية إنجليزية بكلية الآداب تحمل طعنا في نبي الإسلام، ورأي الحكيم في ذلك امتدادا لسلطان الكنيسة في أوروبا حين حاربت حرية الفكر، وقد وجد الحكيم مَنْ يعاضده في اتجاهه، لأن الهجوم على الإسلام في منطق هؤلاء آية من آيات التحرر الفكري، وقد نسوا أن أوروبا، التي يقلدونها في كل شيء تافه لا توجد فيها جامعة واحدة ـ في غير البلاد الشيوعية ـ تطعن في الدين، ومن المحال أن تقرر رواية ملحدة في جامعات فرنسا وانجلترا وأمريكا، نسوا ذلك واتجهوا إلى معارضة شيخ الأزهر حين حاول أن يعصم الشباب الجامعي من نزق يضر ولا ينفع.
قال الدكتور محمد البهي في مقاله الذي رد فيه على الأستاذ توفيق الحكيم: «مَنْ الذين يقارن مهمة الأزهر في حياته المجيدة، التي كلها فخر للشرق بسلطان الكنيسة في القرون الوسطي؟ ومَنْ الذي حدثنا عن أن جامعة كمبردج أو أكسفورد تضع أمام طلابها للنقاش… كتابا أو كتبا تطعن في المسيح، من مؤلف شرقي أو غربي؟ إن الأزهر لا يطلب سلطان الكنيسة في القرون الوسطي، ولم يطلبه يوما ما، وإنما يؤدي مهمته الروحية فوق مهمته العلمية، وهي المحافظة على الأمة وعلى شبابها المثقفين، وليس في منع التهجم على الدين فقط، بل في ضمان التدين به، وشيخ الأزهر الإمام المراغي لا يحد من حرية البحث الجامعي إذا ما حاول أن ينزع الأمة ـ وبالأخص شبابها ـ من تحكم فئة تدعي لنفسها من الألقاب الثقافية ما تشاء، مستغلة جهل الشعب وعدم سمو المستوي العلمي فيه».
حواره مع الاستاذين توفيق الحكيم وسيد قطب
يروي الدكتور محمد رجب البيومي أن الأستاذ سيد قطب (في عام 1949) قد كتب إلى الأستاذ توفيق الحكيم يتحدث عن موقف الفلسفة من فكرة الإسلام الصحيحة عن الكون والحياة والإنسان، مشيرا إلى أن الأزهر نفسه مقصر في هذا: قال الأستاذ سيد قطب: «إن فكرة الإسلام الصميمة الكلية عن الكون والحياة والإنسان هي شيء آخر لم تصوره تلك الفلسفة، ولم يتمثله الأوروبيون، وتبعا لذلك لم يتمثله المحدثون من المسلمين الذين يتلقون ثقافتهم عن الأوروبيين، ومالي ألومكم أنتم؟ والأزهر ذاته لا يدرس في كلياته إلا تلك الفلسفة الإسلامية باعتبارها فلسفة الإسلام».
وعندئذ عقب الدكتور محمد البهي فضمن رده خطابا إلى سيد قطب نشرته مجلة «الرسالة»، حيث قال: «أود أن أطمئن الأستاذ (أي سيد قطب) على أن الأزهر في تاريخه لم يدرس الفلسفة الإسلامية على اعتبار أنها تمثل فلسفة الإسلام، أو تحكي مبدأ من مبادئه، أو هدفا من أهدافه، ففي ماضيه كان يحرم دراسة النوع الإلهي من الفلسفة الإسلامية، لأنه كان يري في هذا النوع انحرافا واضحا عن الإسلام، وفي العصر الحديث يدرس الأزهر في كلياته الفلسفة الإسلامية، كما يدرس أنواع الفلسفات الأخرى من الإغريقية إلى الدينية في القرون الوسطي، إلى المذاهب الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة على أنها اتجاهات للفكر الإنساني في أزمنة متعاقبة، وفي بيئات مختلفة، وقد يكون بعضها ترديدا لبعض، ويسعدني أن أقدم له كتابي «الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي» وسيلة يعرف بها هذه الروح في الأزهر».
معركة الدكتور البهي مع الأستاذ أحمد أمين
تفضل د. محمد رجب البيومي على تاريخ الحياة العقلية أيضا بأن استعرض في كتبه تفصيلات معركة ذكية دارت بين الدكتور محمد البهي وبين الأستاذ أحمد أمين، حين كتب أحمد أمين مقالاً بمجلة «الثقافة» وصف فيه ظاهرة سماها «الدين الصناعي» فذكر عنه أنه «كصناعة الحياكة والنجارة، وأنه يلوي الدين ليخدم مصلحة السلطان، ومظهره عمامة كبيرة وقباء يلمع، وفرجية واسعة الأكمام، وهو نحو وصرف وإعراب وتأويل، وهو تحسين علاقة صاحبه بالإنسان لاستدرار الرزق أو كسب الجاه»… إلخ.
يقول الدكتور محمد البيومي إن الدكتور البهي رأي في هذا النمط من التفكير والتعبير غلوا يميل إلى الاستهزاء، ولا يبحث عن الحقيقة، فكتب ردا على الأستاذ أحمد أمين: «ما ذكره الأستاذ على أنه مظهر الدين الصناعي ليس صفة عامة في كل بلد يدين بالإسلام، فالعمامة الكبيرة، والقباء اللامع، والفرجية المتسعة الأكمام ليست من مظاهر التدين الحقيقي أو الصناعي بين مسلمي الهند أو مسلمي شرق أوروبا، ولم أعرف أن النحو والصرف وإعراب الكلام والتأويل رمز العمل الذي يتناوله محترف الدين، أو صاحب الدين الصناعي في أي بلد إسلامي في مصر، أو في غيرها من البلدان الأخرى. كما لم أعرف أن الشهادة عنده هي إعراب جملة وتخريج متن، وتفسير شرح». ومضى الدكتور البهي في رده على أحمد أمين حتى انتهي إلى قوله: «لم أتبين الظاهرة الاجتماعية التي أراد الأستاذ أن يعالجها في الدين الصناعي وحده، كما لم أنجح في تكوين طابع علمي لمقاله هذا».
وفاته
توفي الدكتور محمد البهي عام 1982.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق