مذبحة صليبية في الإسكندرية.. كيف أسقط القبارصة المدينة في ساعات قليلة وقتلوا أهلها؟
بعكس ما هو شائع ربما، لم يبدأ تاريخ علاقات الإسلام بالغرب مع الحروب الصليبية التي وقعت في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي/الخامس الهجري، وإنما بدأ منذ وقعت معركتا "مؤتة" و"تبوك" حين التقت جيوشُ المسلمين الرومَ البيزنطيين على عين النبي محمد ﷺ وفي حياته. وبعد وفاة النبي ﷺ، انطلقت الجيوش صوب أراضي الروم لا يكاد يوقفها مانع أو حاجز، وفي غضون القرن الأول من الهجرة/السابع الميلادي كانت الأناضول وبلاد الشام وفلسطين ومصر وليبيا وبلاد المغرب والأندلس وحتى مشارف باريس عاصمة فرنسا اليوم تحت راية حُكام مسلمين، وبدأ الإسلام فيها يأخذ طريقه ومستقره.
ولأن الحياة دُول، والقوة لا تدوم، فقد تراجعت قوة المسلمين وتشرذمت وحدتهم في العصر العباسي في الشرق والغرب سواء، مع هبَّة صليبية غربية رعتها الكنيسةُ وأذكت نارها، فانطلقت جحافلهم في الأندلس تستعيد المدن التي استولى عليها المسلمون من قبل حتى سقطت برشلونة وسرقسطة وطُليطلة قُبيل سنوات قليلة من سقوط مدن بلاد الشام وفي القلب منها القدس. وبعدما فُجع العالم الإسلامي بهذه الضربة، بدأت الإفاقة تأخذ منحى تدريجيا في كلٍّ من العراق وبلاد الشام والأناضول ومصر، وقد حمل لواء المواجهة الزنكيون ثم الأيوبيون ثم المماليك، وسلَّم كلٌّ منهم المشعل لمَن تلاه طوعا أو قسرا بفعل الظروف القاهرة وسُنن الأمر الواقع وانتقال السلطة.
ولئن تمكَّن صلاح الدين الأيوبي من استعادة القدس عُقيب معركة حطين عام 583هـ/1187م، واستطاع استعادة العديد من مدن فلسطين والساحل الشامي التي احتلها الصليبيون، فقد مات وأكثر المدن الساحلية لا تزال ترزح تحت نير الاحتلال الصليبي الذي استغل غفلات الأيوبيين في الشام ومصر وهجم هجمة الضباع بغية استعادة قوته المفقودة.
الانتقام من مصر
ومثلما لم يقبل المماليك وجود الصليبيين في البر، فإنهم لم يقبلوا أن يكونوا مصدر تهديد لهم في البحر. ولهذا السبب عملوا على استرداد جزيرة أرواد القريبة من البر الشامي قرب طرطوس، واستطاعوا تحقيق هذا الهدف في زمن السلطان الناصر "محمد بن قلاوون" في حدود عام 702هـ/1302م[1]. وقد تسببت هذه التطورات، إلى جانب الأحداث الدامية والصراعات التي شهدتها أوروبا في القرن الرابع عشر الميلادي، مثل حرب المئة عام بين فرنسا وإنجلترا، وتوثّق العلاقات التجارية والدبلوماسية بين دولة المماليك وبقية القوى الأوروبية التي نزعت منزع التجارة مثل جمهوريات إيطاليا المستقلة جُنوة والبندقية وبيزا وغيرها، وكذلك مملكة أرغون الإسبانية، والإمبراطورية البيزنطية الرومانية في أوروبا الشرقية وإسطنبول، فضلا عن ضعف البابوية وانحسار قوتها العسكرية، تسببت في جعل جزيرة قبرص آخر المعاقل الصليبية ذات الخطر الحقيقي في البحر المتوسط.
كانت ثمَّة أسرة أوروبية لاتينية تُسمى لُوزجنان هي المهيمنة على السلطة في تلك الجزيرة آنذاك، وكانت في صراع مباشر مع المماليك الذين طردوهم من مملكة عكا التي أحكموا قبضتهم عليها من قبل وتبعت الجزيرة سياسيا. وقد حاول ملوك قبرص واحدا تلو آخر إنجاع ثأرهم بإنجاز حملة صليبية جديدة، لكن ذلك لم يتسنَّ إلا للملك بُطرس الأول لوزجنان الذي راح منذ تربُّعه على عرش هذه الجزيرة الإستراتيجية سنة 1350م/751هـ يُجهِّز لتلك الحملة العسكرية، موقنا أن شن حملة على دولة قوية مثل المماليك في حاجة ولا ريب إلى دعم صليبي من جميع الممالك والدول الأوروبية. ومن ثمَّ قام بحملة دبلوماسية طاف فيها على رُودس والبندقية وجنوة والنمسا ومناطق ألمانيا وفرنسا وإنجلترا والدولة الرومانية المقدسة في وسط أوروبا، واستمرت تلك المحاولة الدبلوماسية لمدة ثلاث سنوات منذ سنة 1362 إلى 1365م[2].
تكلَّلت هذه الجهود في أغسطس/آب 1365م/ذي القعدة 766هـ، حين اجتمعت سفن حملة صليبية كبرى بلغت 165 سفينة، وتم الاتفاق على الهجوم على الإسكندرية في يوم جمعة والمسلمون في صلاتهم، ويبدو أن اختيارهم لمصر وليس بلاد الشام كان مقصودا، لأنها قلب دولة المماليك ومستقر حكمهم، ولأن مصر قد أرسلت الحملات العسكرية تلو الأخرى منذ زمن الناصر صلاح الدين ومَن جاؤوا بعده من الملوك والسلاطين لتحرير الشام، وكانت عونا وعضدا لنجاحات المسلمين العسكرية بلا شك([3]).
مذبحة في الإسكندرية
ورغم الأحداث الدامية التي وقعت لاحقا، كان من حُسن حظّنا أن مؤرخا سكندريا مصريا اسمه "محمد بن قاسم النويري السكندري" عاصر تلك الأحداث، وقد أثّرت فيه أشد التأثير حين رأى دماء أبناء مدينته تُراق بلا مدفع ولا مدمع، فقرر التأريخ لما حدث في مؤلف خاص جعل اسمه "الإلمام بالأعلام فيما جَرت به الأحكام والأمور المقضية في وقعة الإسكندرية وعودها إلى حالتها المرضية". والمؤرخ النويري السكندري -وهو غير شهاب الدين النويري القاهري البوصيري- هو الحجة الأولى بلا نزاع لتاريخ تلك الحملة.
لخَّص النويري الأسباب التي دفعت القبارصة والصليبيين إلى الهجوم على الإسكندرية في محرم سنة 767هـ، مُشيرا إلى أن السلطان الذي حكم المماليك آنذاك، وهو السلطان الصالح بن محمد بن قلاوون، كان قد أنزل وكبار أمرائه بالمسيحيين وأهل الذمة أنواع الظلم والقهر سنة 755هـ، وقد بلغت مظالمهم لأبناء دينهم في الشمال، وكان أقربهم بطرس لوزجنان في قبرص. وقد اتخذ بطرس من هذه الأحداث ذريعة لشن حملته تحت دعوى إنقاذ أبناء دينه من قبضة المماليك[4].
أما الأسباب الباقية التي ذكرها النويري السكندري فخلاصتها أن بطرس عَلِم من بعض القبارصة الذين طالما أغاروا على الشواطئ المصرية، ومن مخابراته وعيونه، أن الإسكندرية ورشيد وبقية الموانئ المصرية تكاد تكون خالية من وسائل الدفاع والمقاومة الفعَّالة وأنها لقمة سائغة، مما دفع بطرس إلى الاستخفاف بالمماليك، ومقدرتهم على الدفاع عن موانيهم([5]). بيد أن الأسباب التي دفعت الصليبيين إلى الهجوم على الإسكندرية لم تقتصر على الأسباب التي ذكرها النويري فقط، إذ إن تاريخ العلاقات بين الصليبيين والمماليك، والدوافع الصليبية الدينية، كانت لها وجاهتها أيضا.
وصلت الحملة إلى الإسكندرية في محرم 767هـ/أكتوبر/تشرين الأول 1365م، وكما توقع الصليبيون فإنهم لم يواجهوا في هجومهم على الإسكندرية مقاومة جدية بسبب([6]) غياب والي الإسكندرية "صلاح الدين خليل بن عرَّام" ببلاد الحجاز لأداء فريضة الحج آنذاك، وقيام مساعده الأمير "جنغرا" بالعمل مكانه. وقد عُرف هذا الأمير المملوكي بالضعف والتردد، ولم يكن بالحاكم المُجرِّب الذي يستطيع أن يُنظّم وسائل الدفاع عن المدينة، فضلا عن ضعف حامية الإسكندرية وعدم اهتمام السلطة المركزية في القاهرة بتقويتها بسبب حروبها ونزاعاتها الداخلية[7].
بالتزامن مع ذلك كله، جعل فيضان النيل وما نتج عنه من غمر الدلتا بالمياه، جعل من المتعذِّر إمداد حامية الإسكندرية بنجدة عاجلة فاعلة من القاهرة لانسداد الطرق وصعوبة سلوكها. يُضاف إلى ذلك اضطراب الحالة الداخلية في العاصمة القاهرة حينئذٍ، فلم يكن على رأس السلطة وقتذاك سلطان قوي يستطيع أن يقود حملة لصد هجوم الصليبيين. وكان سلطان مصر حينذاك الأشرف "شعبان" حفيد الناصر محمد بن قلاوون، قد ضعُفت سلطته تحت استبداد وقوة قائد جيش الأتابك "يلبُغا الخاصكي"، لا سيما وعُمر السلطان لا يتجاوز الثانية عشرة[8].
لهذه الأسباب مجتمعة هُزِمَت الحامية المملوكية بقيادة جنغرا، واستُشهد عدد لا يُحصى من المسلمين، فاضطر جنغرا إلى الهرب بأموال المدينة وعدد من تجار الفرنج. وقد أطلق الصليبيون يد السلب والنهب في المدينة، وانضم إليهم نصارى دلُّوهم على بيوت الأغنياء فأخذوا ما فيها، وظلوا أربعة أيام يعيثون في المدينة فسادا. وقال النويري السكندري الشاهد على تلك الأحداث: "والقبرصي الملعون جمع من لصوص النصرانية وأتى بهم إلى الإسكندرية، سرقوا أثاثها على حين غفلة من حُماتها.. فعلم اللص من أين يدخل يسرق، فدخلها سرقها وهرب عنها خوفا من كبسة جيش مصر عليه يهلكه لو أدركه بها"([9]).
أسهب المقريزي في وصف مشاهد الدماء والقتل التي ارتكبها الصليبيون والقبارصة في الإسكندرية، فقال: "دخل وقت الضحى من يوم الجمعة ملك قبرص واسمه ربير بطرس بن ريوك وشق المدينة وهو راكب، فاستلم الفرنجُ الناسَ بالسيف، ونهبوا ما وجدوه من صامت وناطق، وأسروا وسبوا خلائق كثيرة، وأحرقوا عدة أماكن، وهلَكَ في الزحام بباب رشيد ما لا يقع عليه حصر.. واستمروا يقتلون ويأسرون ويسلبون وينهبون ويحرقون من ضحوة نهار الجمعة إلى بكر نهار الأحد، فرفعوا السيف وخرجوا بالأسرى والغنايم إلى مراكبهم"[10].
في نهاية المطاف، ومع اقتراب المماليك من الإسكندرية، قرر الصليبيون القبارصة وأعوانهم الفرنسيون والبنادقة والرودسيون وغيرهم الهرب مع خمسة آلاف أسير، بالإضافة إلى الغنائم والأموال الكثيرة التي استولوا عليها، إذ رأوا أن من المستحيل في ظل أعدادهم القليلة الاحتفاظ بمدينة كبيرة كهذه، فضلا عن قوة وبطش الجيش المملوكي حتى وهو في تخبطه وضعف سُلطانه. ولذا اضطر بطرس لوزجنان إلى الخروج والهرب بعد ستة أيام والمماليك على مشارف المدينة[11].
الهجمات الأخيرة لبطرس لوزجنان ومقتله
رغم خراب الإسكندرية ودمارها الواسع، فإن الحملة القبرصية كانت ضعيفة التأثير على مجريات الصراع، فضلا عن كونها ورَّطت قبرص في حرب مع المماليك. وقد أدت هذه الحملة إلى استياء عدد من أبناء أوروبا الغربية مثل البنادقة وغيرهم لعرقلة تجارتهم وفقدان بضائعهم ومصادرة الدولة المملوكية لها عقابا لأصحابها، فضلا عن أسر عدد كبير من تجار أوروبا. ورفض المماليك في بادئ الأمر وطوال أشهر أيَّ مصالحة مع البنادقة، الأمر الذي دفع البنادقة إلى الضغط على القبارصة بكُل الوسائل، لكن بطرس لم يهتم بهذه المناشدات، وأعدَّ الحملات البحرية العسكرية تلو الأخرى للهجوم على مدن الساحل الشامي في العام التالي 768هـ/1366م، لكنَّ ريحا عاصفة أتلفت عددا كبيرا من وحدات أسطوله([12]).
في نهاية المطاف، وبضغط من تجار البنادقة وجنوة، دخل القبارصة الصليبيون في مفاوضات مع دولة المماليك استمرت لأكثر من أربع سنوات تخلَّلتها بضع غارات لهم على سواحل مصر والشام، أخطرها غارة سنة 769هـ/1367م على مدينة طرابلس الشام بقيادة بطرس لوزجنان نفسه، وعدد كبير من قوات رودس وفرنسا والمجر وغيرها. وقد استطاعت هذه الحملة أن تنزل إلى المدينة وتنهبها، ثم سرعان ما واجهتها الحامية المملوكية فاضطرتها إلى الهروب نحو البحر، ثم جرت مراسلات بين الجانبين حقَّر فيها كلٌّ منهما الآخر وتوعَّده، ولم يجسر بطرس على النزول ثانية إلى طرابلس الشام لقتال القوة العسكرية المملوكية فيها([13]).
بعد ذلك، اتجه الأسطول الصليبي شمالا صوب طرطوس واستطاع أن ينزل بها وفعل فيها كما فعل في طرابلس، كما أحرقوا الأخشاب المُعدَّة لبناء أسطول مملوكي جديد، ومن ثم عرجوا على مدينة اللاذقية. لكن الرياح الشديدة وقوة تحصينات المدينة حالتا دون نزول القوات الصليبية بها، واستطاع المسلمون أن يغنموا أربعة مراكب دفعتها تلك الرياح، وكان بها عدد من آلات الحرب والمؤن التي غنمها الصليبيون من طرابلس. ولما حلَّت الهزيمة بالصليبيين اتجهوا شمالا صوب ميناء "إياس" على خليج الإسكندرون قُرب أنطاليا، وكان في الأصل ميناء بمملكة أرمينية الصغرى التي أسقطها المماليك وأخضعوها لسيادتهم. ولهذا السبب تعاهدَ الأرمن والمسلمون على إنزال الهزيمة بقوات قبرص، فدبَّروا مكيدة لإنزال تلك القوات ثم الفتك بها مع الاستفادة من عامل الوقت حتى تتوالى النجدات من المناطق والولايات الإسلامية القريبة مثل حلب وغيرها. وبالفعل أنزل المسلمون هزيمة ثقيلة بقوات قبرص، فعاد بطرس إلى جزيرته خائبا مهزوما[14].
رغم مقتل بطرس سنة 771هـ/ 1370م على يد أخيه بطرس الثاني، فإنه سار على نهج أخيه، حيث أرسل في بداية حُكمه عدة سُفن للإغارة على صيدا واللاذقية وغيرهما. ولكن في نهاية المطاف اضطر الفريقان إلى إبرام اتفاق مصالحةٍ بسبب تضرر الأوضاع الاقتصادية من انقطاع العلاقات التجارية بين القوى الأوروبية بما فيها قبرص وبين الدولة المملوكية، وأُبرم الاتفاق بالفعل سنة 772هـ/1371م وعاد الأسرى المسلمون، وفُتحت كنيسة القيامة بعد إغلاقها أمام النصارى([15]).
لقد كان الهجوم الصليبي الغادر على مدينة الإسكندرية المصرية وقتل الآلاف من أهلها الأبرياء وسلب المدينة نتيجة تراخي القبضة الأمنية المملوكية، وضعف أساطيل المماليك ومخابراتهم، وكذلك صراعهم على الحكم وانشغالهم بالسلطة على حساب وظيفتهم الأساسية، وهو ما يُقدِّم لنا درسا تاريخيا مكررا حول التهديد الذي تُشكِّله صراعات الحكم وضعف السلطة على وحدة أراضي المسلمين وأرواحهم.
المصادر:
- [1] الدواداري: كنز الدرر وجامع الغرر 9/80.
- [2] سعيد عبد الفتاح عاشور: قبرص والحروب الصليبية ص50- 57.
- ([3]) سعيد عبد الفتاح عاشور: السابق ص56- 58.
- [4] محمد جمال الدين سرور: دولة بني قلاوون ص247، 248.
- ([5]) النويري نقلا عن سعيد عاشور: السابق ص59، 60.
- ([6]) ابن حبيب: تذكرة النبيه 3/288 – 290.
- [7] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 4/283، 284.
- [8] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 11/24.
- ([9]) النويري السكندري: الإلمام بالأعلام فيما جرت به الأحكام والأمور المقضية في وقعة الإسكندرية وعودها إلى حالتها المرضية 3/64، 65.
- [10] المقريزي: السلوك 4/284.
- [11] المقريزي: السابق نفسه.
- ([12]) بيتر إديوري: قبرص والحروب الصليبية ص146- 148.
- ([13]) النويري السكندري: الإلمام 5/84، 85.
- [14] سعيد عاشور: السابق ص75- 78.
- ([15]) جمال الدين سرور: دولة بني قلاوون ص256- 258.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق