فتيان صنعوا التاريخ ( 3 )( 3 )
طلحة بن عبيد الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ( " من سرّه أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض، وقد قضى نحبه، فلينظر إلى طلحة"..!!).
لقد اطمأن إذا إلى عاقبة أمره ومصير حياته.. فسيحيا، ويموت، وهو واحد من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولن تناله فتنة، ولن يدركه لغوب..
ولقد بشّره الرسول بالجنة، فماذا كانت حياة هذا المبشّر الكريم..؟؟
وماذا فعل هذا الفتى ابن السادسة عشر من عمره ليستحق هذا اللقب؟
هو أحد الثمانية الأوائل الذين سبقوا للإسلام، وقصته كما يرويها هو، قال : حضرتُ سوقَ بُصْرى فإذا راهبٌ في صومعته يقول: سَلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحدٌ من أهل الحَرَم؟ قال طلحة: فقلتُ نعم أنا، فقال: هل ظَهَرَ أحْمَدُ بعدُ؟ قال قلتُ: ومَنْ أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطّلب، هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء ومخرجه من الحرم ومُهاجَرُه إلى نَخْلٍ وحَرّةٍ وسِباخٍ، فإيّاكَ أنْ تُسْبَقَ إليه، قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال فخرجتُ سريعًا حتّى قدمتُ مكّة فقلتُ: هل كان مِنْ حَدَثٍ؟ قالوا: نعم محمّد بن عبد الله الأمين تنبّأ وقد تبعه ابن أبي قُحافة، قال فخرجتُ حتّى دخلتُ على أبي بكر فقلت: أتَبِعْتَ هذا الرّجل؟ قال: نعم فانطلقْ إليه فادخل عليه فاتْبَعْه فإنّه يدعو إلى الحقّ. فأخبَرَه طلحة بما قال الرّاهب فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله ﷺ، فأسْلَم طلحة وأخبر رسول الله بما قال الرّاهب فسُرّ رسول الله ﷺ، بذلك فلمّا أسلَم أبو بكر وطلحة بن عُبيد الله أخذهما نَوفل بن خُويلد بن العَدَويّة فشَدّهما في حبلٍ واحدٍ ولم يمنعهما بنو تيم، وكان نَوفل بن خُويلد يُدْعى أسدَ قريش فلذلك سُمّي أبو بكر وطلحة القَرينَين.
هاجر إلى المدينة و شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عدا غزوة بدر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ندبه ومعه سعيد بن زيد لمهمة خارج المدينة.
ولما أنجزاها ورجعا قافلين إلى المدينة، كان النبي وصحبه عائدين من غزوة بدر، فآلم نفسيهما أن يفوتهما أجر مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد في أولى غزواته..
بيد أن الرسول أهدى إليهما طمأنينة سابغة، حين أنبأهما أن لهما من المثوبة والأجر مثل ما للمقاتلين تماما، بل وقسم لهما من غنائم المعركة مثل من شهدوها..
وشهد يوم أحد، وكان ممن ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين ولّى النّاس، وبايعه على الموت،ـ ودافع عنه حتى شُلَّت يده، فلما ولى الناس كان مع النبي محمد اثنى عشر رجلًا، وكان منهم طلحة، فأدركهم مجموعة من جيش قريش تريد قتل النبي ﷺ ، فقال النبي من للقوم؟» قال طلحة: «أنا»، فرفض النبي أن يخرج لهم طلحة وقال له: «كما أنت»، فقال رجل: «أنا»، قال: «أنت»، فقاتل حتى قتل، ثم قال: «من لهم؟» قال طلحة: «أنا»، قال: «كما أنت»، فقال، رجل من الأنصار: «أنا»، قال: «أنت»، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى لم يبق مع النبي محمد إلا طلحة، فقال: «من للقوم؟» قال طلحة: «أنا»، يقول جابر بن عبد الله: «فقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى قطعت أصابعه، فقال: حس، فقال رسول الله ﷺ: لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون. ثم رد الله المشركين.
وأثناء دفاع طلحة عن النبي ﷺ ، رمى مالك بن زهير سهمًا فاتّقى طلحة السهم بيده فأصاب يده فَشُلّت، وأُصيب في رأسه، ضَرَبهُ رجلٌ من قريش ضَرْبَتَينِ، ضَرْبَةً وهو مقبل وضربة وهو مُعْرِض عنه، فنزِفَ منها الدمُ، فكان ضرار بن الخطاب بن مرداس الفهري يقول: «أنا والله ضربتُه يومئذٍ، وأُصيب أنفُ النّبيّ ورَباعيّتُه، وضرب طلحة ضربات عديدة حتى قيل أنها حوالي خمسٍ وسبعين أو سبعٍ وثلاثين ضربةً، فعن موسى بن طلحة: «رجع طلحة يومئذٍ بخمسٍ وسبعين أو سبعٍ وثلاثين ضربةً، رُبّعَ فيها جبينه، وقُطعَ نَساه، وشَلّت إصبعه التي تلي الإبهام.» وأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم الصعود على صخرة، وكان ظاهرَ بين دِرْعين فلم يستطع النّهوض، فحمله طلحة على ظهره إلى الصخرة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أَوْجَبَ طلحةُ» وبعدما انتهت المعركة، كان طلحة قد أُغمَى عليه وأصابه الغَشي، فأمر النبي أبا بكر الصديق وأبا عبيدة بن الجراح بإصلاح شأن طلحة وتطييب جراحه، فيقول أبو بكر الصديق: كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: «عَلَيْكُمَا صَاحِبُكُمَا» يُرِيدُ طَلْحَةَ، وَقَدْ نَزَفَ فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ أَتَيْنَا طَلْحَةَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْجِفَارِ، فَإِذَا بِهِ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، وَضَرْبَةٍ، وَإِذَا إِصْبَعُهُ قُطِعَتْ فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِهِ.
وكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِذَا ذُكِرَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ: ذَلِكَ يَوْمٌ كُلُّهُ لِطَلْحَة.
وفي جميع المشاهد والغزوات، كان طلحة في مقدّمة الصفوف يبتغي وجه الله، ويفتدي راية رسوله ﷺ .
ويعيش طلحة وسط الجماعة المسلمة، يعبد الله مع العابدين، ويجاهد في سبيله مع المجاهدين، ويرسي بساعديه مع سواعد إخوانه قواعد الدين الجديد الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور..
فإذا قضى حق ربه، راح يضرب في الأرض، ويبتغي من فضل الله منمّيا تجارته الرابحة، وأعماله الناجحة، فقد كان طلحة رضي الله عنه من أكثر المسلمين ثراء، وأنماهم ثروة..
وكانت ثروته كلها في خدمة الدين الذي حمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته ...
كان ينفق منها بغير حساب..
وكان الله ينمّيها له بغير حساب!
لقد لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ طلحة الخير، وطلحة الجود، وطلحة الفيّاض اطراء لجوده المفيض.
وما أكثر ما كان يخرج من ثروته مرة واحدة، فإذا الله الكريم يردها إليه مضاعفة.
تُحدّثنا زوجته سعدى بنت عوف فتقول:
" دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما، فسألته ما شانك..؟
فقال المال الذي عندي.. قد كثُر حتى أهمّني وأكربني..
وقلت له ما عليك.. اقسمه..
فقام ودعا الناس، واخذ يقسمه عليهم حتى ما بقي منه درهم" ...
ومرّة أخرى باع أرضا له بثمن مرتفع، ونظر إلى كومة المال ففاضت عيناه من الدمع ثم قال:
" إن رجلا تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري ما يطرق من أمر، لمغرور بالله" ...
ثم دعا بعض أصحابه وحمل معهم أمواله هذه، ومضى في شوارع المدينة وبيوتها يوزعها، حتى أسحر وما عنده منها درهم..!!
ويصف جابر بن عبد الله جود طلحة فيقول:
" ما رأيت أحد اعطى لجزيل مال من غير مسألة، من طلحة بن عبيد الله". وكان أكثر الناس برّا بأهله وبأقربائه، فكان يعولهم جميعا على كثرتهم..
وقد قيل عنه في ذلك:
".. كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا إلا كفاه مؤنته، ومؤنة عياله..
وكان يزوج أيامهم، ويخدم عائلهم، ويقضي دين غارمهم"..
ويقول السائب بن زيد:
" صحبت طلحة بن عبيد الله في السفر والحضر فما وجدت أحدا، أعمّ سخاء على الدرهم، والثوب والطعام من طلحة"..!!
رحم الله طلحة، وأبدل أمتنا مثله أوخيرا منه من شبابنا الذين تمسّكوا بدينهم وجاهدوا وأنفقوا ونصروا هذا الدين ولم يروا النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم فقط سمعوا عن ما كان من سيرة جدّهم طلحة، فساروا على طريقته فأصبحوا مثله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق