من يسخَر من مصر والمصريين؟
وائل قنديل
النغمة الرائجة بين جمهور الطغيان في مصر الآن أن كل من يعلّق بالاعتراض أو بالنقد أو بإبداء الأسى على البؤس الطارح فيها هو من الشامتين، معدوم الوطنية فاقد الانتماء والولاء للوطن لو كان مصريًا، وحاقدًا وكارهًا وشامتًا لو كان شقيقًا عربيًا يعرف قدر مصر ويحزن على ما وصلت إليه.
شقيق فلسطيني كتب تغريدة على "تويتر" يعبّر فيها عن حزنه وألمه لما تردت إليه الحالة الاقتصادية والاجتماعية في مصر، فوجد أسرابًا من المخلوقات الإلكترونية، تتنوع بين الذباب والذئاب، تهاجمه بضراوة وتغرس مخالبها في لحمه الحي، وتعيّره بأنه فلسطيني، يقبض من العدو الصهيوني، وتطلب منه أن يبتعد عن مصر ويتركها في حالها ويركز في بلده المحتل، ولا يفتح فمه وهو يشاهد شعب مصر العظيمة الكبيرة مفروضًا عليه أكل أرجل الدجاج، وترك صدورها وأوراكها لأولي الأمر.
صاحب التغريدة هو الكاتب الفلسطيني فايز أبو شمالة، وهو محبٌّ حقيقي لمصر الحقيقية، الغائبة المغيبة عن أدوارها التاريخية وامتدادها الحضاري وانتمائها الأصلي. كل ما فعله الرجل أنه تجرّأ وأبدى تعاطفًا مع شعبٍ لم يعد يملك حق التألم من أوجاعه، ومع وطنٍ محكوم بسلطةٍ تسخر طوال الوقت من العباد والبلاد وتبدع في استحداث أشكالٍ جديدةٍ من الطغيان، لا تجدها حتى في سير الطغاة في سالف الأزمان.
من لا يحزن على شعبٍ تعداده أكثر من مائة مليون نسمة استيقظ على هدير حملة إعلامية مجنونة تحدّد له أرجل الفراخ طعامًا للحصول على البروتين، وتقول له كل هذه ولا تأكل تلك، ثم قبل أن يفيق من الصدمة، يجد أعلى سلطة فيه تبلغه بأن قرار زواجه وإنجابه أطفالًا ليس حقًا إنسانيًا له، يمارسه وقتما يشاء ومع من يختار من الزوجات، وتقول له بصريح العبارة: عليك أن تطلق زوجتك إن تعثرت ماديًا وصرت لا تستطيع تحمّل تكلفة الاستمرار والإنجاب، لأن تكلفة الطلاق أقل؟
من لا يأسى على أمةٍ صار زواج شبابها عملية شديدة التعقيد تتطلب تراخيص وموافقات، يدفع عنها رسومًا باهظة بالطبع، للحصول على إذنٍ قضائيٍّ أو ترخيص قيادة حياة زوجية، ثم ترخيصًا طبيًا بصلاحية هذا الشاب للزواج من تلك الفتاة التي أحبها واختارها. ومن دون ذلك لن يُسمح له بالزواج؟
في السياق، ينشر زميلنا في "العربي الجديد"، الفنان عماد حجّاج، كاريكاتيرا عن مصر العظيمة التي تنصح (بالأحرى تأمر) بأكل أرجل الفراخ في زمن عبد الفتاح السيسي الذي وعد الناس بأنهارٍ من السمن والعسل واللبن نظير التصفيق له وتأييده على عزل الرئيس الذي انتخبته أغلبيتهم واختطافه.
وحين تعيد نشر الكاريكاتير تكون متهمًا بالسخرية من بلدك والشماتة في أهل بلدك، تمامًا كما أنت تواجَه بالتهمة ذاتها إن علقت أو شاركت الشعب المصري السخرية من قرارات بنك قراقوش المركزي بشأن أموال المودعين وحدود السحب منها.
يصدِمك في ذلك كله أن مليشيات العويل والعواء التي تردّد طوال الوقت استغاثات الشماتة واتهامات الحقد على البلد والشعب لم تعد فقط قطعانًا إلكترونية تسرح في مراعي الفضاء الإلكتروني والتلفزيوني، بل لا يخلو الأمر ممن يزعم إنه رجل حقوق وعدالة اجتماعية، يعتبر كل سخرية من النظام الذي أفقر الناس وأذلهم بطغيانه هي شماتة في الوطن ذاته ..
هذا هراء تافه لا يعني سوى التزلّف لسلطةٍ تقطع ألسنة الناس وأرزاقهم وتسطو على أملاكهم، وابتزاز سخيف لن يثني محبّي مصر الحقيقيين عن فضح كل ما يُكال لهذا الشعب من ألوان التنكيل والترويع والتجويع، فنحن، للمرّة الألف، لا نسخر من شعبنا، بل نسخر من كل طاغيةٍ يهينه، ومن كل قرار غبي يؤلمه. ولن نتوقف عن الأسى على وطنٍ كبير، بات داخليا وخارجيا يبدو مثل أسد عجوز يقبع في سيرك أو قفص للفرجة فقط. أسد منهك وجائع يتثاءب طوال الوقت، لم يبق منه إلا زئير يدوّي في الفراغ.
وهي الحالة التي بدأت في الأيام الأخيرة من سلطة نظام حسني مبارك التي "شاخت فوق مقاعدها" بتعبير محمد حسنين هيكل في ذلك الوقت، وتفاقمت حتى بلغت حدود الأسى والحسرة والخوف من المستقبل الآن.
تبدو لعبة الاتهام بالشماتة ساخرة وعبثية، وهي قديمة جدًا من أيام إعلام مبارك، حين ضبط متلبسًا باللعب في صورة تجمعه مع أوباما ورؤساء آخرين، كان فيها في ذيل اللقطة لكن "فوتوشوب" النظام وضعه في المقدّمة والجميع خلفه، فكانت فضيحة لصحيفة الأهرام تحدّث بها الركبان، فكان الحل الساذج السريع بيان من رئيس مجلس إدارة الأهرام في ذلك الوقت، عبد المنعم سعيد، يعتبر أن من ينتقد "مصر الفوتوشوب" هو شخص ضد النظام المصري ويستهدف الدولة المصرية، وكأن التصدي للتزييف والقبح الفني مرادف تماما للعداء للدولة.
في كتابه المهم عن "الطاغية"، يخلص أستاذ الفلسفة، إمام عبد الفتاح إمام، من استعراضه لتاريخ الطغيان في الثقافات المختلفة إلى أن حكم الطاغية عندما يمكّن لنفسه لا يكون أمام الناس سوى الاستسلام والشكوى والأنين، ثم الالتجاء إلى سلاح وحيد صاحبه مجهول.
ولهذا يتوارون خلفه، وهو سلاح النكتة والسخرية، فالنكتة السياسية هي تعبير عن قصور في البناء الديمقراطي. ويضيف أن الغاية النهائية لكي يحتفظ بعرشه هي تدمير روح المواطنين وزرع الشك وانعدام الثقة فيما بينهم وجعلهم عاجزين عن عمل شيءٍ أو فعل أي شيءٍ كذلك تعويد الناس الخسّة والوضاعة والعيش بلا كرامة، بحيث يسهل عليهم أن يعتادوا الذل والهوان.
هذا ما كان يحدُث في الطغيان الشرقي القديم، فما بالك ونحن بصدد طغيانٍ لا شبيه له في كتب الأولين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق