السبت، 10 ديسمبر 2022

تلك البلاد الملعونة والخاطئة (22/23)

تلك البلاد الملعونة والخاطئة (22/23)



جمال الجمل

(مراوغة الوجع)

بينما أقف على مفترق الطرق بين عامين أتأمل المشهد من حولي، تفجعني المفارقات: صور السيد عبد الفتاح السيسي متألقا في ثياب فاخرة ومكياج مكلف وشباب نضر، وهو يفتتح مشروعاته "العظيمة" في تفاخر وتأكيد على إنجازاته الهائلة لتحديث مصر، يقابلها الصور الأخيرة لواحد من الرعايا المنبوذين.. الشاب محمد أبو الغيط في رداء المرض والمنفى..

لا أحب المراثي، ولن أكتب عن أبو الغيط، فقط أراوغ الوجع وأدعو له ولكل الطيبين بالرحمة والسلام، ثم أركز على الوطن الطارد.. على "تلك البلاد الملعونة والخاطئة" حسب عنوان قديم للكاتب الراحل رفائيل سانشيث فيرلوسيو.

(حداثة السيسي)

يصدق السيد عبد الفتاح السيسي (كما كان يصدق السيد فرانكو) أنه يسعى بجهود إعجازية خارقة لتحديث مصر، والحقيقة أنني لا أكذّب الرجل ولا أستهين بالمجهود الذي يبذله، ولا بالنفقات التي "نحلت وبر الدولة" من أجل عيون المشاركين في مشروع التحديث (كوزير النقل مثلا)، ولن أظلم السيسي ورجاله فأقصر مشروعهم التحديثي على شق الطرق ومد الجسور والكباري وبناء أحياء سكنية حديثة على أنقاض العشوائيات، فقبل عام واحد ألغى الرئيس التحديثي قانون الطوارئ وأطلق استراتيجيات متعددة لتحديث المفاهيم، بدأها مبكرا بتجديد الخطاب الديني، ثم استراتيجية حقوق الإنسان، واستراتيجية حقوق الملكية الفكرية، وتنشيط لجنة العفو الرئاسي، والتأكيد على حق المعارضين "الفاهمين" في إبداء رأيهم بحرية، والإيعاز بفتح الباب للمعارضين المنفيين من أجل عودة كريمة على البلاد (سها عليهم أن يشملوها برعاية مبادرة "حياة كريمة"، هذا بالإضافة لإطلاق سيارات توزع الطعام المدعوم على الفقراء، وتشجيع سلوك "إحسان الدولة" على الغارمات وغير القادرين، كما ظهر جليا في اهتمام النخبة المصرية "الدولتجية" بحالة "محمد بتاع كشري التحرير"!

فور عودتي من الخارج، ناقشت كثيرين من أهل الحل والعقد في "تلك البلاد الملعونة والخاطئة" عن ضرورة فتح المجال العام، واحترام المبادئ الأساسية في الدستور، وقلت لأحدهم بتعبير صريح: بدل ما تعملوها غصب ويبقى شكلكم وحش، اتخذوا خطوات تليق بدولة عصرية واجتهدوا في تنفيذ الشروط العامة للدول الحديثة

(محمد الآخر)

تغريني حالة "محمد بتاع كشري التحرير"، بمقارنة شعبوية مع حالة "محمد الآخر".. محمد أبو الغيط، أو محمد كمال، أو محمد عمرو واكد، أو محمد سارة حجازي، أو محمد جرجس عبد الملاك، أو أي محمد معارض طردته "الضرورة الحاكمة" تحت شعار "حماية مصر من الإرهاب"، لكنني سأقاوم الإغراء الشعبوي، وألتزم بخطاب رصين يناقش مشروعات "الحداثة السيساوية" بحياد موضوعي، واستفسارات بريئة:

فور عودتي من الخارج، ناقشت كثيرين من أهل الحل والعقد في "تلك البلاد الملعونة والخاطئة" عن ضرورة فتح المجال العام، واحترام المبادئ الأساسية في الدستور، وقلت لأحدهم بتعبير صريح: بدل ما تعملوها غصب ويبقى شكلكم وحش، اتخذوا خطوات تليق بدولة عصرية واجتهدوا في تنفيذ الشروط العامة للدول الحديثة، وأشرت إلى مخرجات الحوار المصري الأمريكي التي ربطت بين المعونة واتخاذ خطوات في طريق التحول الديمقراطي. وفهمت من مجرى النقاش أن رجال الدولة لديهم رؤية واضحة لتنفيذ مخرجات الحوار بطريقتهم، وبالفعل "عملوا دولة ديمقراطية في نص ساعة"، ألغوا العمل بقانون الطوارئ وتحولت مصر إلى دولة راعية لحقوق الإنسان وللمناخ وللملكية الفكرية وللتعطف بالعفو عن الإرهابيين (حتى الصادر في حقهم أحكام قضائية بالسجن)، وباع السيد الرئيس الحقوقي عبد الفتاح السيسي كل هذه الإنجازات للراعي الأكبر "محمد بايدن" أثناء لقائهما السريع في مؤتمر شرم الشيخ للمناخ..

(أنا عاوزة بيت بالمسلح يا إبراهيم)

عقب حرب أكتوبر 1973 قررت "آلهة الحكم" في القصور الرئاسية تحرير مصر من الانغلاق، وكانت خطة التحديث بسيطة وبراقة: سنفتح الأسواق ونغلق السجون والمصانع الخاسرة ونبيع القطاع العام، ونمنح الفرصة للنشال "زعتر النوري" أن يعمل في الاستثمار ويتحول بجهده وإخلاصه إلى "محمد بيه"..

كتب نجيب محفوظ مشككا في خطة التحديث الساداتية قصته "أهل القمة"، ولما قدمها المخرج اليساري علي بدرخان في السينما، بدا فيلمه بالتركيز على انتشار شعار: "نحن في انتظار سنوات من الرخاء".

لكن الرخاء لم يأت، حدث التحول الخطير، وفككت مصر مصانها، وارتمت في أحضان التبعية، وتزايدت معدلات الهجرة المؤقتة للمصريين في بلاد النفط بحثا عن "المال الوفير" (لم يكن حينها قد تم صك اصطلاح بلاد الرز)..

جرت الأموال فعلا في أيدي الفقراء، وبدأت أكبر موجة تغريب للمدرسين والموظفين واساتذة الجامعة والعمال والحرفيين والشباب والبنات الباحثين عن فرصة، فمن لم يغتن في عصر الانفتاح لن يغتني أبداً، حسب القول المنسوب للرئيس المنفتح "محمد السادات"!

كانت نتيجة التغريبة البشرية للمصريين، تغريبة أفدح في الأفكار وفي المعمار، وأنتم تعرفون العلاقة بين المبنى والمعنى، فقد ساعدت الهجرة على نشر الأفكار الوهابية ونمط "الإسلام الخليجي"، فتراجعت مدرسة القراءة المصرية للقرآن الكريم والأذان، وتغيرت شروط الإنتاج الفني في الأفلام والمسلسلات، وخسر عدوية أعز ما يملك في الصراع المصري الخليجي، في إشارة لتفوق طرف صاعد على طرف هابط.

وفي مجال الإعمار بدأت أعنف موجة طمس للمعمار الريفي في مصر وسمقت مداخن صناعة الآجر، بدلا من مربعات الطين، وساعدت الأموال الواردة من الخليج في انتشار الكاسيت وشرائط الفكر الوافد، كما ساعدت على بناء البيوت بالطوب الأحمر فوق التربة الطينية، وبعد سنوات فوجئ الجميع في مصر بالسرطان الذي أصاب بدن الدلتا، بعد تجريف الأراضي الطينية من الطمي وبيعه لمصانع الطوب الآجر، وبناء البيت الحديث أبو فراندة، والذي تحول إلى نمط سائد، حتى أصبح من العار أن يعيش المصري في بيت طيني، لأن الأسمنت تحول إلى مؤشر طبقي يعبر عن المكانة الاجتماعية الجديدة التي تقاس بالمال، وليس بالأخلاق أو الأصول، كما يعرف أهل الشمال وأهل الجنوب في مصر.

(تطورات القانون الجديد)

خسرت مصر مشروعها التحديثي السابق الذي تبنه ثورة يوليو رافعة شعار العمال والفلاحين، وانجرفت في مشروع الانفتاح التحديثي، وكان من ضرورات الانفتاح "أن تنتعش الحرية"، فالقانون الجديد هو السوق، و"دعه يعمل دعه يمرح ويلهو"، وانتعشت السياحة الخليجية وملاهي شارع الهرم ومسارح القطاع الخاص التي تبيع اللحم العاري أكثر مما تبيع الفن. وهذا الانفتاح الرائع يلزمه "مطرح"، لهذا قدم المبدعون الشعبيون بالتعاون مع السلطة المنفتحة خطة "قانون الإيجار الجديد"، وبدأ الطموحون شراء وتجهيز مساكن جديدة لتأجيرها بشكل مؤقت للباحثين عن السعادة، أو للمغتربين، أو للمضطرين ممن لم ينجحوا في الحصول على مسكن بقانون الإيجار القديم الظالم والدائم! حتى أن بعض المجتهدين كان ينقل عائلته في مسكن أرخص وأضيق ليجهز مسكنه للإيجار السياحي بسعر مرتفع.

وهذه الثورة العقارية الجديدة تعاونت مع "حرية الانفتاح" في مشاريع اقتصادية جديدة مثل "زواج الفتيات القاصرات من أثرياء الخليج، ومثل انتشار "بيوت السعادة (المميزة بالضوء الأحمر والدخان الأزرق)، وتطورت الحالة إلى اتجاه التفكك الأسري والخيانات الزوجية، ثم قتل الأزواج والزوجات، و..

لكن الفلوس جريت في الإيد والتليفزيون بقى ملون، وحسام أبو الفتوح أدخل البلورويد وماكينات تصوير الألوان وسيديهات الحرية الملونة الجريئة بالتعاون مع الفنانة الوطنية دينا التي تمكنت من تمصير صناعة كانت قاصرة على الأجانب!

(هذا هو ذاك)

أقول قولي هذا، ولا أستغفر لآلهة القصور، فالحداثة التي يتحدث عنها السيسي سبقتها حداثات مثيلة كثيرة، تشبه حداثة بناء بيوت المسلح على لحم الدلتا، وتشبه تصوير الحرية بمقدار المساحات الجغرافية العارية من جسد المرأة، وتشبه شطارة النشال في الاستثمار حتى يتحول إلى رجل أعمال من طراز "محمد فودة" أو "محمد المستشار" الذي قتل زوجته الإعلامية، أو "محمد زميله" الذي استغل منصبه القضائي في افتتاح مطعم وتسهيل الاستيراد الحرام أو تهريب الآثار، وهي كلها حداثات زائفة تشبه الحداثة التي يحدثنا عنها السيد الرئيس الحداثي "محمد عبد الفتاح السيسي"، فهذا من ذاك.. كلمات عن الرخاء تغطي سياسات من الخر..

القوة المهيمنة على مقادير ومصائر "تلك البلاد الملعونة والخاطئة" تعيد إنتاج نفسها بوتيرة ثابتة مهما تغيرت الأقنعة ولغة الخطاب، لكي تفرض على الشعوب هذه الأوضاع المذلة والظالمة والمهينة، وطالما أن هذا النمط من الحكام باق ولم يتغير، فإن أي حديث عن التغيير أو انتظار نتائج مختلفة ليس إلا وهما عظيما، تبيعه السلطة

(كيف نتغير؟)

أعود إلى كتاب آخر لرفائيل سانشيز فيرلوسيو، يقول في عنوانه: "طالما أن الآلهة لم تتغير، فلن يتغير شيء"..

والمغزى أن القوة المهيمنة على مقادير ومصائر "تلك البلاد الملعونة والخاطئة" تعيد إنتاج نفسها بوتيرة ثابتة مهما تغيرت الأقنعة ولغة الخطاب، لكي تفرض على الشعوب هذه الأوضاع المذلة والظالمة والمهينة، وطالما أن هذا النمط من الحكام باق ولم يتغير، فإن أي حديث عن التغيير أو انتظار نتائج مختلفة ليس إلا وهما عظيما، تبيعه السلطة في دكان المخدرات الإعلامية والسياسية التي تغسل بها أدمغة جمهور السوق.

وإذا ظهر بين الناس "محمد آخر" (كمحمد أبو الغيط) فلا بد من تهيئة الظروف لتحويله إلى "أضحية"، ولا يهم أن يبكي الناس على الضحايا أو يقدمونها بطيب خاطر، لأن "فروسيلو" يخبرنا أن الآلهة عادة لا تطلب القرابين، لأنها على يقين أن خوف الناس يكفي لقبولهم بفكرة استمرار تقديم القرابين على الآلهة. وأنتم تعرفون أن الإله الذي يملك مصيرك، هو وحده القادر على العفو عنك، ومن هذه الفكرة يمكنك مراجعة الخطيئة التي تشارك فيها الأحزاب المصرية المشاركة في الحوار والسعيدة بتقبل الإله لدعواتهم بالعفو عن هذا أو ذاك، غافرين أو متناسين أن الإله يملك العفو عن الجميع وإقامة العدل بدون قوائم ولا أسماء ولا حفلات للقرابين..

(تذكير بالكفر)

أذكركم بما كتبته في مقالات "أكفر بكم"، وأزعم أن أبو الغيط وأمثاله من النابهين لم يكن يؤمن أبدا بأنه ضحية، ولم يكن يؤمن بهيمنة تلك الآلهة الملعونة والخاطئة التي تشارك دراكولا ظلامه وظلمه وقلعته.

قد نتألم؟.. نعم..

قد نمرض؟... نعم..

قد نعاني؟.. نعم..

قد نموت؟.. نعم..

لكننا أبدا لسنا ضحايا، بل أبطال نملك مصيرنا ونكفر بما لا يجب أن نرضى به أو نؤمن بمسلكه، فإلهنا واحد أكبر وأعلى وأعدل من هؤلاء المسوخ.

والله ناصر المخلصين..

tamahi@hotmail.com

مقالات "أكفر بكم"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق