مدخل لقراءة سورة يوسف قراءة واعية مثمرة
بقلم د. علي محمد الصلابي
سورة يوسف الصدّيق (عليه السلام) هي القصة الأطول في القرآن التي ذُكرت في موضع واحد، ولم تُذكر في مواضع أخرى. وهي قصة مميزة محببة للناس لما تحتويه من العبر والحكم الظاهرة، ولما تسرده من قصة يوسف عليه السلام من صغره وكيد إخوته ثم محنته في البئر، ثم انتقاله إلى بيت العزيز وحدوث فتنة امرأة العزيز، ثم سجنه، ثم بدايات التمكين من تعبير رؤيا الملك ثم لقائه بالملك وجعله على خزائن الأرض، إلى لقائه بإخوته ثم مجيء أهله إليه. وسأذكر في هذا المقال بعض المقدمات التي تعرف بالسورة متضمنة لطائف وعبراً يمكن تسهم في تهيئ نفس القارئ لقراءةٍ أكثر تفاعلاً وأعظم فائدة إن شاء الله تعالى.
أولاً: اسمها وعدد آياتها:
الاسم الوحيد لهذه السّورة هو (يوسف)، فقد ذَكر ابن حجر في كتاب الإصابة في ترجمة رافع بن مالك الزرقي عن ابن إسحاق أنّ أبا رافع بن مالك أوّل من قدم المدينة بسورة يوسف، يعني بعد أن بايع النبيّ ﷺ يوم العقبة.
ووجه تسميتها ظاهرٌ لأنّها قصّتْ قصّة يوسف u كلّها، ولم تُذكرْ قصته في غيرها، ولم يُذكر اسمه في غيرها إلّا في سورة الأنعام وعافر.
وهي مكيّة على القول الّذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره. وهي السّورة الثالثة والخمسون في ترتيب نزول السور على قول الجمهور، ولم تذكر قصّة نبي في القرآن بمثل ما ذُكرت قصّة يوسف الصديق (عليه السلام) في هذه السّورة من الإطناب.
وعدد آياتها مائة وإحدى عشرة آية باتفاق أصحاب العدد في الأمصار. [التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، 12/197-198].
ثانياً: ترتيب السّورة في المصحف:
سورة يوسف الصديق (عليه السلام)هي السّورة الثانية عشرة في ترتيب المصحف، وتقع في الجزء الثاني عشر أيضاً، وآياتها إحدى عشرة ومائة آية، ولا يماثلها في عدد آياتها إلّا سورة الإسراء.
وتأمل الموافقات، أنّ رقم السّورة والجزء الّذي هي فيه يناظر عدد أبناء يعقوب، وعدد الآيات يلمح إلى ذلك فهي إحدى عشرة آية بعدد إخوة يوسف ومائة آية. والقصّة الكريمة تستغرق من السّورة مائة آية وآية واحدة. ويستغرق التعليق عليها بقية الآيات وهي عشرة كاملة.
ونتجاوز هذه القضية لننتقل إلى فاتحة السّورة، ونجد أنّ افتتاحيتها هي بالحروف المقطّعة، وبالذات بحروف: (الر)، ولو تأملت هذه الحروف أيضاً لوجدتها نصف حروف كلمة الرؤيا الّتي هي من المعالم البارزة في قصّة يوسف (عليه السلام). [سورة يوسف دارسة تحليلية، ص 5].
ذكر العلماء أسباب نزول السّورة منها:
أ. أخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص، في قول الله عزّ وجلّ: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص﴾ [يوسف: 3]. وقد قال: “نزل القرآن على رسول الله ﷺ فتلا عليهم زمانا فقالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا. فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿الر تلك آيات الكتاب المبين﴾ [يوسف: 1]، ومن ثم تلا إلى قوله: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص﴾ [يوسف: 3] الآية. فتلا عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا. فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً﴾ [الزمر: 23] الآية كلّ ذلك يؤمر بالقرآن”. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. [المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم، 2/409].
ب. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألتِ اليهود النبيّ ﷺ، فقالوا: حدّثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾.
ويروى أنّ اليهود سألوا رسول الله ﷺ عن قصّة يوسف فنزلت السّورة بسبب ذلك. ويروى أن اليهود أمروا كفّار مكة أن يسألوا النبيّ ﷺ عن السبب الّذي أحلّ بني إسرائيل بمصر فنزلت السّورة.
رابعاً: زمن وظروف نزول السّورة:
وسورة يوسف مكيّة بالاتفاق – لدى المحققين – وآياتها مائة وإحدى عشرة آية، وعدد كلماتها ألف وسبعمائة وست وسبعون كلمة، وعدد حروفها سبعة آلاف ومائة وستون حرفاً.
نزلت سورة يوسف على رسول الله ﷺ بعد سورة هود، أيّ في الفترة الحرجة العصيبة من حياة رسول الله ﷺ، حيث توالت الشدائد والنكبات عليه وعلى المؤمنين، وبالأخصّ بعد أن فقد زوجه أم المؤمنين خديجة (رضي الله عنها)، وعمّه أبا طالب الّذي كان له خير نصير وسند قوي ومعين على أذى قريش وصناديدها. وبوفاتهما اشتدّ الأذى والبلاء على رسول الله ﷺ وعلى المؤمنين، حتّى عُرف هذا العام بــ (عام الحزن).
في تلك الفترة العصيبة من حياة رسول الله ﷺ وفي ذلك الوقت الّذي كان يعاني فيه الرسول ﷺ والمؤمنون الوحشة والغربة والانقطاع في ظل جاهلية قريش؛ كان الله I ينزّل على نبيّه الكريم هذه السّورة تسلية له وتخفيفاً لآلامه بذكر قصص المرسلين، وكأنّ الله I يقول لنبيّه ﷺ لا تحزن يا محمّد ولا تتفجع لتكذيب قومك وإيذائهم لك، فإنّ بعد الشدّة فرجاً، وإنّ بعد الضيق مخرجاً؛ انظر إلى أخيك يوسف u وتمعن بما حدث له من صنوف البلاد والمحن وألوان الشدائد والنكبات؛ محنة حسد إخوته وكيدهم له، ومحنة رميه في الجبّ، ومحنة تعلّق امرأة العزيز به ومراودته عن نفسه بكل طرق الإغراء، ثمّ محنة السجن، وبعد ذلك العزّ ورغد العيش. [قصة يوسف مدرسة أخلاقية، محمد محمود حماد، ص 7].
ويكتمل الخطاب الرباني في تصبير نبيه ورسوله الكريم بالقول: انظر إليه يا محمد! لمّا صبر يوسف على الأذى في سبيل الله وصبر على الضرّ والبلاء نقله الله من السجن إلى القصر، وجعله عزيزاً في أرض مصر وملّكه خزائنها فكان السيّد المطاع والعزيز المكرّم وهكذا أفعل بأوليائي، ومن صبر على البلاء فلا بدّ أن تُقوّى نفسه على تحمّل البلاء، اقتداء بما سبقك من المرسلين، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]. وقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: 127].
خامساً: التشابه بين قصة النبيّ يوسف وقصة رسولنا محمد:
تتشابه قصة يوسف الصدّيق (عليه السلام) وإخوته مع قصّة النبيّ محمّد ﷺ مع قريش، فإذا كان يوسف(عليه السلام) ، حيث تآمر أخوة يوسف عليه، وفكّروا في قتله وإبعاده وإخراجه، وقالوا: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾ [يوسف: 9]، وهذا الحدث كان تثبيتاً لفؤاد النبيّ ﷺ يوم تآمروا عليه في دار الندوة، وقرروا حبسه أو قتله أو إخراجه من مكة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذين كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]، فظروف الغدر والتآمر التي مرَّ بها يوسف مرًّ بها رسولنا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه.
وإن غيابة الجبّ في محنة يوسف u قبيل الرحيل به لمصر فيها تسلية للنبيّ ﷺ وهو في غار ثور قبيل الهجرة للمدينة. وسجن يوسف u بمصر ظلماً وعدواناً فيه ذكرى للنبيّ ﷺ وأصحابه وهم في شِعب أبي طالب بعد أن حاصرتهم قريش وقاطعتهم ظلماً وعدواناً، وهذا كلّه يُفصح عنه قولُه تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120].
وإن سجن الطاغية ليوسف الصدّيق (عليه السلام)
وظلمه رغم ظهور الآيات الدّالة على براءته وصدقه، قال تعالى: ﴿ثمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حتّى حِينٍ﴾ [يوسف: 35]، تذكر في تمادي المشركين في غيّهم في حقّ النبيّ ﷺ مع رؤيتهم الآيات الدّالة على صدقه كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)﴾ [الصافات: 13، 14].
ومن التشابه بين واقع يوسف u وواقع النبيّ ﷺ، أنّ الله تعالى مَكّن للنبيّ ﷺ بأرض المدينة كما مكّن ليوسف u بأرض مصر. فهذه أوجه التشابه بين القصتين، فكل قصة منهما تحملان معانٍ ودروس في الصبر والحكمة ومواجهة الصعاب والشدائد لتبليغ دعوة الله تعالى في الأرض ونشر كلمة الحق مهما كانت الظروف والأحوال.
سادساً: قصة يوسف والحِكمة في سوقها في مكان واحد:
قصّة يوسف (عليه السلام) لم ترد في القرآن في غير هذا الموضع بخلاف قصص سائر الأنبياء وأخبارهم، فإنّها جاءت متفرقة، بل لعلّه لم يرد ذكر ليوسف u في غير هذه السّورة وآية في سورة الأنعام وآية في سورة غافر. [آيات للسائلين، د. ناصر العمر، ص 29].
بدأت قصَّة يوسف (عليه السلام) وانتهت في سورة واحدة، والآيات طبيعتها تستلزم هذا الّلون من الأداء؛ فهي رؤيا تتحقق رويداً رويداً، ويوماً بعد يوم، ومرحلة بعد مرحلة، فلا تتمّ العبرة إلّا بها، كما لا يتمّ التنسيق الفنّي فيها إلّا بأن يتابع السّياق خطوات القصّة ومراحلها حتّى نهايتها، وإفراد حلقة واحدة منها في موقع لا يحقّق شيئاً من هذا كلّه، كما يحقّقه إفراد بعض الحلقات في قصص الرّسل الآخرين؛ كحلقة قصّة سليمان مع ملكة اليمن (بلقيس ملكة سبأ”، أو حلقة قصّة مولد مريم بنت عمران، أو حلقة قصّة مولد عيسى بن مريم u، أو حلقة قصّة نوح u والطوفان العظيم… إلخ. فهذه الحلقات القرآنية تفي بالغرض منها كاملاً في مواضعها، أمّا قصّة يوسف فتقتضي أن تأتي مشاهدها كلّها متوالية من بدايتها إلى نهايتها. [في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/60].
وقال أبو إسحاق الإسفراييني: إنّما كرر الله قصص الأنبياء، وساق قصّة يوسف مساقاً واحداً إشارة إلى عجز العرب، كأنّ النبيّ ﷺ قال لهم: إن كان من تلقاء نفسي، فافعلوا في قصّة يوسف ما فعلت في سائر القصص. وقال أيضاً: إنّ سورة يوسف نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقصّ عليهم كما رواه الحاكم في مستدركه، فنزلت مبسوطة تامّة ليحصل لهم مقصود القصص من استيعاب القصّة، وترويح النفس بها والإحاطة بطرفَيها.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عليه يقرأ بها في الفجر، وفي حديث عبد الله بن شداد بن الهاد الليث، إذ قال: سمعت عمر نشيج عمر في صلاة الصبح وهو يقرأ من سورة يوسف وأنا في آخر الصفوف يقرأ: ﴿قَالَ إنّما أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 86]. وتخصيصه لها في أطول الصلوات قراءة مشعر بمزيد مزيّة عنده.
وثبت أيضاً من حديث علقمة بن وقاص الليثي أنّه كان يقرأ في العتمة سورة يوسف وهو في آخر الصفوف حتّى إذا جاء ذكر يوسف سُمع له نشيجاً. وكما قال عبد الله بن عامر بن ربيعة: ما حفظت سورة يوسف وسورة الحجّ إلّا من عمر من كثرة ما كان يقرؤها في صلاة الفجر، فقال: كان يقرؤها قراءة بطيئة.
وثبت كذلك عن الفرافصة بن عمير الحنفي أنّه قال: ما أخذت سورة يوسف إلّا من قراءة عثمان بن عفّان إيّاها في الصبح من كثرة ما كان يرددها.
وكلّ ذلك يُشعر بعظم ما تتضمّنه من معان لها أثرها الحميد في الأنفس الزكيّة؛ ولهذا أكثروا من تكرارها في أطول المفروضات قراءةً وذلك دالٌّ على فضلها. [آيات للسائلين، مرجع سابق، ص 27].
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من مسودة كتاب: “النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام”، للدكتور علي الصلابي. واعتمد في كثير من مادته على كتاب: “آيات للسائلين”، للدكتور ناصر العمر.
المراجع:
- التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية، الطبعة الأولى، 1984م.
- المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411ه.
- قصة يوسف مدرسة أخلاقية، محمد محمود حماد، المكتبة العصرية، الطبعة الأولى، 1437ه – 2016م.
- آيات للسائلين، د. ناصر العمر.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1972م.
- الموطأ، الإمام مالك بن أنس، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1412ه.
- النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام (مسودة)، د. علي محمد الصلابي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق