الاثنين، 19 ديسمبر 2022

«جلاد دنشواي».. الذي لم يسامحه المصريون!

 «جلاد دنشواي».. الذي لم يسامحه المصريون!

يسري الخطيب

إنه «جلاد دنشواي» إبراهيم الهلباوي (30 أبريل 1858م – 20 ديسمبر 1940م)

وكيل النيابة المصري الذي طالبَ بأقسى عقوبة على فلاحي دنشواي، وتسبب في إعدام 4 من أهالي دنشواي، والحُكم على (12 فلاح) بالأشغال الشاقة لمدد مختلفة، وبجلد كل واحدٍ فيهم 50 جلدة.

جذوره تعود لبلاد المغرب، لكن والده من مواليد البحيرة، وأمه مصرية الجذور، ووُلِدَ ونشأ في بلدة: العطف (المحمودية الآن) بمحافظة البحيرة.

أول نقيب للمحامين في تاريخ مصر، عام 1912م.

كان خطيبا مفـوّهًا، يجيد فن التمثيل ببراعة أثناء الدفاع في المحاكم، ويخلط بين الفصحى والعامية، ولذا قال عنه عباس العقاد: (كان ذا ذلاقة لسانٍ لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها)

وما زال رجال المحاماة في مصر يصفونه بأنه أعظم محامٍ في تاريخ مصر.

صاحب الكلمة الشهيرة: (ما أتعس حظ المحامي، وما أشقاه، يُعرّض نفسه لعداء كل شخصٍ يدافع ضده لمصلحة موكّله، فإذا كسب قضية موكله، أمسى عدوًا لخصمه، دون أن ينال صداقة موكّله)

حارب من أجل إنشاء نقابة المحامين،

وتحققت أمنيته، في سنة 1912م، وتم انتخابه بالأغلبية الكاسحة: أول نقيب للمحامين، فأطلق عليه المحامون لقب: «شيخ المحامين».

أسس حزب الأحرار الدستوري، وهو واحد من النقباء الثلاثة الذين وضعوا الدستور مع عبدالعزيز باشا فهمي، ومحمود أبو النصر.

من سنة 1906م، وأحداث دنشواي، حتى وفاته في سنة 1940م، عاش الهلباوي 34 سنة، مكروها مذمومًا، ورغم كل ما فعله طيلة 34 سنة في الدفاع عن الثوار المصريين، والتودد للشعب المصري، ومهاجمة المحتل البريطاني؛ لم يقبل الشعب المصري توبته…

إبراهيم الهلباوي

34 سنة كاملة فعل فيها المستحيل ليكـفّـر عن (غلطته الوحيدة) في حياته كلها، لكن رد الفعل الشعبي كان قاسيا في كل مرة..

-34 سنة يسترحم فيهم الشعب المصري، لكن الشعب لم يرحمه ولم يقبله.

معايرة 34 سنة بحادث دنشواي

ظل المصريون طيلة 34 سنة يعايرونه بما قاله في محكمة دنشواي: (هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصى والنبابيت، وأساؤا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز 25 عامًا ونحن معهم بكل إخلاص واستقامة)

كان المصريون يقذفونه بالطوب ويقذفون بيته، ورغم ذلك ترافع عن «إبراهيم الورداني» المتهم بقتل «بطرس غالي» قاضي دنشواي!

قـدّمَ التليفزيون المصري في أول التسعينيات، تمثيلية سهرة عن حياة الهلباوي، قام بدوره الممثل الراحل «صلاح قابيل»، وأظهرت التمثيلية قذف الناس له بالطوب، ومحاولاته المستميتة ليسامحه الشعب المصري..

كان الهلباوي أشهر الفصحاء والمتحدثين وأمير الحكّائين في مصر في ذلك الزمن، وكان يُضرب به المثل في طول اللسان: (دا لسانه أطول من الهلباوي) وكان الناس في أسواق مصر، إذا وجدوا (لسان) الذبيحة مرتفعا ثمنه، يقولون للجزار: (هو يعني لسان الهلباوي)

– يقول الدكتور عبد العظيم رمضان: (نجح الهلباوي في كل مرافعاته، والدفاع عن المتهمين، ولم يخسر قضية واحدة، لكنه فشل فشلا ذريعا  في قضيته أمام الشعب المصري طيلة 34 سنة)

– يقول الأديب يحيى حقي: (رأيتُ الهلباوي يخطب في سرادقٍ ضخم ازدحم فيه أنصار حزب الأحرار الدستوريين، من أجل تخليص البلاد من يد المحتلين، وقوبل خطابه بالهتاف والتصفيق، وامتلأ الرجل ثقة وزهوًا، وظن أن الدنيا قد صالحته، ولكنه لم يكد يفرغ من خطابه حتى ارتفع صوت في آخر السرادق يهتف «يسقط جلاد دنشواى».)

مذكرات الهلباوي

قرأتُ مذكرات الهلباوي التي صدرت عن المشروع الرائع: (مكتبة الأسرة)، ووجدتُني أتعاطف معه وهو يبكي ويسترحم الشعب المصري ليسامحه،

ولكن الرافعي ردّني بقوة وأنا أقرأ تفاصيل حادثة دنشواي.. فقلتُ: اللهم اغفر له إن كان صادقا، فأنت تعلم ولا نعلم..

–  يقول متباكيا في مذكراته: (المصريون كلهم كرهوا محاكمة دنشواي، واحتقروا كل من شارك فيها ودافع عن المحتلين الإنجليز..

ولستُ هنا في مقام التوجّع ولا الدفاع عن نفسي..

ومع ذلك أستطيع أن أؤكد أن الشعب المصري يحتقر كل من يدافع عن المحتلين،

أو يأخذ صفهم، أو يبرر جرائمهم.. وأؤكد أيضا أن مواطنينا لم يـقـدّروا الظروف التي دفعتني أنا وغيري إلى ذلك..

لهذا جئتُ للدفاع عن «إبراهيم الورداني» الذي قتل القاضي «بطرس غالي»

الذي حكم على أهالي دنشواي بالإعدام.. جئتُ نادما أستغفر مواطنينا عمَّا وقعتُ فيه من أخطاء شنيعة.. اللهم إني أستغفرك وأستغفر مواطنينا!!)

– لكن وكما يقال: (حسنة واحدة تستطيع مَحوَ مئات السيئات، وسيئة واحدة تمحو مئات الحسنات)..

– سبق الشاعر «حافظ إبراهيم» الجميع، وأطلق على (إبراهيم الهلباوي) جلاد دنشواي .. ورددها بعده الشيخ عبد العزيز جاويش، فنسبها الناس له،

رغم أن قصيدة حافظ سبقت مقال جاويش بشهور:

أَيُّها المُدَّعي العُمومِيُّ مَهلًا                  

                  بَعضَ هَذا فَقَد بَلَغتَ المُرادا

قَد ضَمِنّا لَكَ القَضاءَ بِمِصرٍ                    

                        وَضَمِنّا لِنَجلِكَ الإِسعادا

فَإِذا ما جَلَستَ لِلحُكمِ فَاِذكُر                   

                عَهدَ مِصرٍ فَقَد شَفَيتَ الفُؤادا

لا جَرى النيلُ في نَواحيكِ يا مِصــرُ             

                     وَلا جادَكِ الحَيا حَيثُ جادا

أَنتِ أَنبَتِّ ذَلِكَ النَبتَ يا مِصـ                    

                    ـرُ فَأَضحى عَلَيكِ شَوكاً قَتادا

أَنتِ أَنبَتِّ ناعِقاً قامَ بِالأَمـ                       

                     ـسِ فَأَدمى القُلوبَ وَالأَكبادا

إيهِ يا مِدرَةَ القَضاءِ وَيا مَن                      

                    سادَ في غَفلَةِ الزَمانِ وَشادا

أَنتَ جَلّادُنا فَلا تَنسَ أَنّا                        

                   قَد لَبِسنا عَلى يَدَيكَ الحِدادا

مات إبراهيم الهلباوي، في 20 ديسمبر 1940م (82 سنة).. وأطلقت الدولة اسمه على شارع بحي المنيل بالقاهرة !!!!

ويبقى السؤال:

لماذا رفضَ المصريون توبة الهلباوي رغم أنها الغلطة الوحيدة في حياته؟!

وهل الشعب المصري الذي عاش في أوائل القرن الماضي، يختلف عن الذي يحيا الآن؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق