الأربعاء، 8 فبراير 2023

مهارة التمويه (2) حوارات الدين والطب و السياسة

 مهارة التمويه (2)

حوارات الدين والطب و السياسة


دكتور محمد الجوادي

كان أستاذي معروفا بيننا بالقدرة على التمويه الذكي أو المحترف أو ذي المهارة العليا، وكان يتمتع بقدرات تكتيكية عالية، وكان يستغل هذه القدرة في إدارة معاركه الانتخابية والسياسية أيضا، كما كان يوظفها في كثير من المواقف الشخصية والعائلية، وعلى سبيل المثال فإنه كان يتمتع بقدرة فائقة على تغليف رأيه وهدفه، أو فلنقل إبداء رأيه وإخفاء هدفه، أو فلنكن أكثر دقة ونقول: بث رأيه وهدفه مغلفًا بأكثر من ثلاث طبقات من الأغلفة الواقية، فهذا غلاف واقٍ من شبهة الحرارة، أو دفء المشاعر المحبة أو الكارهة، وهذا غلاف واقٍ من شبهة الحزبية الصارمة التي تصل في بعض الأحيان إلى العنصرية القاتلة، وهذا غلاف واقٍ من الندية أو التنافسية مع اتساع نطاق هذه الندية أو التنافسية.. وهكذا.

وربما تبدو المسألة صعبة على الفهم، ولكني سأحاول تبسيطها للقارئ العادي من أمثالي وأنا أعترف أني أنا نفسي لم أكن أفهم المسألة على هذا النحو، ولم يتح لي أن أفهمها إلا بعد سنوات من عشرتي لأستاذي.

ولنأخذ على سبيل المثال موقفًا أثر فيَّ وفي نفسيتي تأثيرا قاسيًا على الرغم من أني لم أكن طرفًا مباشرًا فيه، فلربما يكون هذا الموقف أكثر تعبيرا عما أريد أن أعبر عنه.

كان ذلك الموقف قد اتخذه أستاذي حين أشار بعدم ملاءمة زواج أحد زملائنا الأفاضل المثاليين من ابنة صديق له.

كان أستاذي يحب زميلنا هذا ما في ذلك شك، وكان يشاركنا الرأي في أنه بلغ درجات عليا من الكمال الروحي والخلقي والنفسي، وعلى أنه النموذج الأمثل للطبيب الملتزم، والمهني الجيد، ولم يكن أستاذنا يلقى بالا كبيرا لتحفظ بعض زملائنا الكبار على هذا الزميل بأنه ليس له حضور قوي، أو بالمعني الشائع كارزما.

مع هذا الإيمان الشديد من أستاذنا بزميلنا فإنه في لحظة واحدة أفصح عن رأي قاس، وهو أنه لم يكن يرى أن صديقنا هذا بكل مزاياه هذه يصلح للزواج من ابنة صديقه.. وهكذا وقف ضد مشروع هذا الزواج لسبب لا ندريه، ولم يكن أستاذي في الوقت نفسه قادرًا على أن يصرح لنا بهذا السبب، ولا أظنه كان قادرًا على أن يصرح به لصديقه وهو الذي رشح هذا الزميل كي يساعد ابنة صديقه في الدراسة على هيئة درس خصوصي من الطبقة الثالثة، أي خصوصي خصوصي خصوصي، ولا يعجبن القارئ من هذا الوصف المتكرر بكلمة خصوصي ثلاث مرات، فالأولى هي جزء من المصطلح، والثانية تعني أن الدرس يكون خاصا بها وحدها، والثالثة تعني أن هذا الدرس فيما تحتاجه هي وليس في كل المقرر، أي أنها تحصر النقاط التي تحتاج إلى فهمها ويتولى زميلنا توضيحها بما فيه الكفاية.

ونعود إلى ما فعله أستاذنا حين سئل عن زميلنا كخطيب متقدم لابنة صديقه، وقد سأله صديقه بالطبع أو فلنقل إنه أنهى إليه أن علاقة ما نشأت بين المدرس الشاب وابنته وأن العلاقة وصلت إلى قرب نهايتها الطبيعية، وكان الرجل الصديق سعيدًا بهذا، وكان يود أن يشرك أستاذنا في السعادة، لكن أستاذنا لأسباب لا نعلمها جيدًا لم يكن يحبذ أن يمضي هذا الموضوع إلى نهايته الطبيعية، وهنا أدركت أنا والمقربون ما اشتملت عليه طريقة أستاذنا من تقديم رأيه على هيئة جرعة واحدة فعالة جدًا فإنه غلف الرأي للمرة الأولى بأن لجأ إلى العزف على فكرة أن زميلنا متفوق زيادة عن اللزوم، وأنه يتمتع بخلق عظيم، وأنه لا يدري لماذا لا يقدره الناس رغم كل هذا التفوق والخلق والأصل الطيب، إلا إذا كان ذلك راجعًا إلى أن هذا الزمن ليس زمن الناس الطيبين، هذا هو الغلاف الأول.

لكن أستاذي لم يكتف بأن يقدم هذا الرأي هكذا، على الرغم من أنه يكفل توصيل الرسالة الكفيلة بنسف المشروع، وإنما غلف أستاذنا هذا الرأي في غلاف ثان فقال: إنه حدث منذ عام أن سأله أحد أصدقائه عن هذا الشخص زوجا لابنته فأجابه بهذه الإجابة لكن السائل ذا الحظ العاثر أو الذي هو والد فتاة ليس لها في الطيب نصيب، فضل لابنته زميلًا آخر، لأنه كان يتمتع بالقدرة على الحضور رغم أنه يقل في تفوقه وتدينه عن الأول محل السؤال.

ولم يكتف أستاذنا بهذه الصياغة المعقدة التي تكفل تقديم الرأي ذي الغلافين هكذا لصديقه، وإنما أضاف أستاذنا غلافا ثالثا في صورة ذكية، وهي البدء بإظهار تمنع عفيف عن الإجابة المباشرة والفورية قال فيه : إنه يرجو أن يعفى من السؤال… لماذا؟ فلا يجيب ، ولكنه بعد تمنع يقول: لأنه حدث أن سئل منذ عام وأجاب لكن طرفا آخر أقنع السائل القديم بأن أستاذي يتحيز لتلميذه الذي يفتقد الحضور رغم تفوقه وتدينه، وهكذا فإن السائل صرف النظر عن زميلنا الأكثر تفوقا وتدينا وفضل عليه الأقل تفوقا وتدينا، ولكن زميلنا لا يعرف الحقيقة فيما مضى على هذا النحو، ويظن أن أستاذي هو الذي عوّق زواجه، ولهذا فإن أستاذي لا يريد أن تتكرر التجربة مع الشخص نفسه لمرة ثانية وهو لا يتحمل جرحا ثانيا.. وأولاد الحلال كثيرون!!.

وهكذا فإنه بعد هذا الغلاف الثالث تصبح الجرعة فعالة وتصبح المسألة محسومة، فقد أبدى الأستاذ رأيه ولم ينسبه إلى نفسه، بل نسبه إلى الآخرين، واحتاط حتى لا ينقل الرأي على أنه رأيه ولا على أنه هو الذي رواه، لأنه لا يريد أن يجرح تلميذه، ولا يريد أن يبدي رأيه.. وفي الوقت نفسه فإن أستاذي أكد بكل ما أمكنه ما لا يهم والد العروس سماعه، ولا التأكد منه ولا من حجمه من حبه لزميلنا وتقديره لحظه العاثر!!.

هذا هو أبسط مثل لما كان أستاذي يفعله حين يريد أن يبدي رأيًا من آرائه الكثيرة، ولن أطيل على القارئ بذكر أمثلة معقدة من آراء أستاذي، ولكني أكتفي في هذا المقام بذكر مثلين على قدرته على «توصيل الرسالة الإعلامية» كما نقول في علوم الإعلام والميديا الحديثة.

المثل الأول: حدث أن دار حوار عابر بيني وبين مجموعة من أساتذتي كانوا بمثابة زملاء ورؤساء لأستاذي، وقد دار هذا الحوار على مائدة غداء، وكانت الآراء التي يرددونها (لمجرد تضييع الوقت ) تقترب من الزندقة ولا نقول من الكفر، وقد انفردت بمواجهة هؤلاء جميعًا بما أعتقد أنه الصواب، وكان انفرادي بمواجهتهم يمثل نموذجًا للشجاعة الأدبية والفكرية، ووصلت القصة إلى أستاذي، وأراد أستاذي أن يعبر عن تقديره للرأي الآخر، الذي كنت حامل لوائه دون أن يقدرني بما أستحق، نظرا لشجاعتي وقوتي ونجاحي في المحاولة في النهاية، وإذا بأستاذي يسألني في دهشة: كيف أقول كذا وكذا؟ وأخذ ينسب إلىّ أقوالهم القريبة من الزندقة، ثم يردف بأن يقول: إن الصواب كذا وكذا.. وينسب الصواب إلى نفسه، كل هذا في مونولوج طويل وأنا فاغر فمي للدهشة من جزئيتين، الأولى: أن الحوار قد نقل بحذافيره في نفس اليوم مع أن الحاضرين كانوا ثلة، والجزئية الثانية: أن الأبطال قد تغيرت مواقعهم، حتى إن أحدهم ـ وهو أنا ـ قد وضع في الموقف المسرحي المضاد على طول الخط لما كان عليه موقفه في الحوار الذي حدث.

وأستاذي يروي الحوار ثم يزيد عليه أن يدعو لعباد الله الصالحين الذين ملؤوا كتب التراث ردًا على هؤلاء الزنادقة ويبدي إعجابه بعلم الذين حفظوا هذه الردود للأجيال.. وأنا لا أزال فاغرًا فمي من الدهشة، وبعد ساعتين كاملتين بلا جدال تعطف أستاذي علىّ بقوله: كنت أتوقع منك أن ترد بمثل هذا الرد، وعندما أجبته بأني فعلت هذا بالتمام والكمال قال ضاحكا: ولكن الذي بلغني عكس هذا… وتجهم، وتركني وانصرف إلى حجرته المجاورة في عيادته، وقد صعد الدم في رأسي حتى أوشك مخي أن ينفجر، وهو لا يفعل شيئا غير التجاهل.. ولم يعد في وسعي أن أقول شيئا، وهو لا يتدارك الأمر وإنما يناقشني في ضغط هذا المريض، وفي نبض الآخر، وفي حاجة الثالث إلى تحليلات، وحاجة الرابع إلى قثطرة، وعدم حاجة الخامس إلى دخول الرعاية المركزة، بينما أنا الذي أصبحت في حاجة ملحة إلى دخول هذه الرعاية!!.

وحتى وقت كتابة هذا الحوار لم يتكرم علىّ أستاذي صراحة بذكر أنه كان يعرف الحقيقة، وأنه يعرف أنني أنا الذي كنت أقول الصواب.. ولكني كنت أميل إلى التأكد أنه يريد أن يقول ذلك.

وليس عندي حتى الآن ما يؤكد معرفته للحقيقة إلا جزئية واحدة هي أن القصة كانت تتعلق بحوار بين طرفين ولم يكن أفراد الطرف الثاني في رأي أستاذي ومعرفته أكثر مني تدينا أو تمسكا بالدين والتراث أو فهما لحقائق الفلسفة والتاريخ.

***

المثل الثاني: للتغليف المزدوج أو الثلاثي الذي كان أستاذي يؤديه بمهارة وتلقائية، كان يتعلق برأيه في قيادة جامعية كان على خلاف معها بحكم انتمائه السياسي والأيديولوجي، وبحكم عضويته في مجلس إدارة نادي هيئة التدريس، لكن هذه الشخصية مدت له يدها بعد أن تمكنت من كل ما كانت تريد تحقيقه، ولم يكن أستاذي ولا الجماعة التي ينتمي إليها سعداء بحالة الجفاف والمحاصرة التي نجحت هذه القيادة الجامعية في فرضها عليهم.

وهكذا فإنه مع أول ضوء أخضر أبدى أستاذي قبولًا وسعادة وارتياحًا وكنت قد اصطحبته إلى هذا اللقاء، وحرصت على أن تكون مهمتي منحصرة في دور أقرب إلى دور قائد السيارة فقط دون أن أحضر اللقاء، رغم أني كنت أنا الذي توليت ترتيب اللقاء بحكم ما عُرف عني وما أحبه من ميل للتوفيق، ومن علاقة جيدة بالطرفين كليهما، لكني وجدت أن من الأفضل أن أبقى في سيارتي دون أن أحضر اللقاء، لكن أستاذي أبي علىّ البقاء في السيارة فوصلنا إلى حل وسط أن أبقي في مكتب من مكاتب إدارة الجامعة بعيدا عن السيارة وعن المكتب الذي من المفترض أن يتم فيه اللقاء… وقد كان.

وبعد اللقاء وجدت أستاذي مستبشرًا بما توصل إليه، أردفت بالسؤال عن رأيه في هذه القيادة الجامعية فإذا به يجيبني من فوره بأنه «فلاح زى حالاتنا»، وعبثا حاولت أن أستخرج منه أية كلمة تنم عن تقدير أو عن نقد، فقد اكتفي بهذا الوصف الذي كان يعتقد أنه الوصف الجامع المانع الشامل الكامل الكفيل بأن يغطي كل الانتقادات وكل الثناءات في الوقت نفسه. على أني كنت لا أزال في حاجة إلى أن أرى رأيه في عدوه وقد تغير بعض الشيء، وكان أستاذي في كل محاوراتي التالية يلجأ إلى أن يقول: ألم أقل لك إنه فلاح زى حالاتنا.. وكان هذا رده إذا ذكرت ميزة وقلت: أليس كذلك، وكان هذا رده أيضا إذا ذكرت عيبا وقلت: أليس كذلك، وهكذا كان أستاذي في حالة حرص على إمساك العصا من الوسط!!.



مهارة التمويه (1) حوارات الدين والطب و السياسة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق