رسالتان إلى منكوبٍ في الزّلزال المُدمِّر
ولكنّها كلمة، والكلمةُ بها واسى الله أنبياءه وأحبابه وأصفياءه حينَ اشتدّ بهم الكرب وثقلت وطأة الآلام على نفوسهم، وعساها كلمتي تكون الكلمة التي تخرج من قلبٍ ملتاعٍ إلى قلبك المكلوم لتدخل دون استئذانٍ فتمسحَ جرحًا راعفًا أوله في قلبك وآخره في قلبي.
الرّسالة الأولى: إنّه قضاء الله تعالى
دعني أسألك أيّها المحزونُ الرّفيق: مَن صاحبُ الأمر كلّه في إيقاع الزّلزال في الأرض؟ سيجيبك قلبك: إنّه الله تعالى الذي يقول في سورة فاطر: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}.
وما دام الله تعالى هو المتصرّف وحده في هذا الكون، وهو الحليم اللطيف، فإن الزلزال ما هو إلّا من خلق الله تعالى الذي قضاه بعلمه وقدّره بحكمته، ولا يمكن لمخلوقٍ أن يقف في وجه قدر الله تعالى، ولا يملك المخلوق أمام تصرّف الخالق في مخلوقاته على هذا الشّكل إلّا أن يستشعر ضعفه وضآلته أمام قوّة الله تعالى وعبوديّته أمام تجليّات ألوهيّة القويّ الجبّار، فيفرّ من قدَر الله إلى قدَر الله، ويفرّ من الله إليه، ويوقن أنّه لا ملجأ ولا منجى منه إلّا إليه جلّ في علاه، فيرضى بقضاء الله تعالى وقدره.
فكلّ مأ أصابكَ في هذا الزلزال من فقدٍ أو هدمٍ أو جراحٍ أو موتٍ إنّما هو بقضاء الله وقدره، وكأنّي برسول الله صلى الله عليه وسلّم يخاطبُ قلبكَ وأنتَ في معاناتك هذه إذ يقول: “واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ، وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسرًا”.
وفي هذا الابتلاء الذي يوجعُ قلبك وروحك، فإنّ الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره هو بلسمُ الجراحات وشفاء لوعة النفس بالأسئلة المتدفّقة.
واسمع إلى الوليد بن عبادة بن الصامت إذ يقول: “دخلتُ على عبادة وهو مريضٌ أتخايلُ فيه الموت، فقلت: يا أبتَاه أوصني واجتهد لي، فقال أجلسوني، قال: يا بنيّ إنّك لن تطعم طعم الإيمان ولن تبلغ حقّ حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتّى تؤمن بالقدر خيره وشرّه، قلت: يا أبتَاه فكيف لي أن أعلَم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبَك وما أصابك لم يكن ليخطئك”.
فما دام أنّ القضاء هو قضاء الله، فهو يحبّ منك أن ترضى بقضائه وتستسلم لقدره، وإن من دعاء حبيبكَ محمّد صلى الله عليه وسلّم: “وَأَسْأَلُك الرِّضَا بَعْد القَضَاء”.
وممّا يعينك على الرّضا بقضاء الله تعالى أن توقن أنّ قضاء الله تعالى خيرٌ كلّه، وأنّ ما يقضيه الله لك خيرٌ مما تقدّره أنتَ لنفسك بعلمك القاصر، فهو الذي خلقك وهو العليم بحالك الخبير بك باطنًا وظاهرًا، وقد عبّر نبيّنا صلى الله عليه وسلّم عن هذا المعنى بجلاء في قوله: “عجِبْتُ لأمْرِ المؤمِنِ، إنَّ اللَّهَ لا يَقْضي له قَضاءً إلَّا كان خيرًا له”، وفي صحيح مسلم: “عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له”.
الرّسالة الثّانية: في ابتلائِه علاماتُ محبّته
أجل أيها المكلوم المنكوب، إنّ ما أنتَ فيه من آلامٍ وابتلاءٍ شديدٍ يدلّ على عظيم حبّ الله تعالى لك إن رضيتَ وصبرت، ولعلك تسأل: كيف يبتلي الله من يحبّهم بهذا الابتلاء العظيم والألم الشّديد؟
أما تتلو قول الله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كلا}؟
وفي هذه الآيات زجرٌ واضح لمن يقصُرُ دلالة سعة الرزق والأمن والسّلامة على حبّ الله تعالى بينما يقصرُ دلالة المصائب ــ والزّلزال منها ــ على الإهانة والعقاب، ونبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم قد بيّن أنّ الابتلاء علامة حبّ الله تعالى لعبده الذي يبتليه، فقال: “إنّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن اللهَ عزّ وجل إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ”.
ثمّ ألا يرضيكَ أن تكون معاملة الله تعالى لك كمعاملته لأنبيائه وهم أحبّ خلقه إليه، لتكون بعدَهم في درجة القُربِ منه؟
فاسمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يجيب إذ سئل: “يا رسولَ اللهِ! أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ، ثم الصّالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الرّجلُ على حسبِ دِينِه، فإن كان في دِينِه صلابةٌ، زِيدَ في بلائِه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ، خُفِّفَ عنه ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ”.
وكأنّي ــ يا صديقي ــ بابن القيّم يقصدك أنت في خطابه في كتابه “مفتاح دار السّعادة” حين يقول: “وإذا تأمّلتَ حكمتَه سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوتَه، بما ساقَهم به إلى أجلّ الغايات، وأكمل النّهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلّا على جسرٍ من الابتلاءِ والامتحان، وكانَ ذلك الجسرُ لكمالِه كالجسر الذي لا سبيلَ إلى عبورهم إلى الجنّة إلّا عليه، وكانَ ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقّهم والكرامة، فصورتُه صورةُ ابتلاءٍ وامتحان، وباطنُه فيه الرّحمة والنّعمة، فكم لله من نعمةٍ جسيمة ومِنّة عظيمة، تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان، فلله سبحانه من الحِكَم في ابتلائِه أنبياءَه ورسلَه وعبادَه المؤمنين، ما تتقاصرُ عقولُ العالمين عن معرفته، وهل وصلَ من وصلَ إلى المقامات المحمودة والنّهايات الفاضِلة، إلّا على جسرِ المحنة والابتلاء؟”.
لن أطيل عليك أيها الحبيب، ولكن مهما اشتدّ وجعك ابقَ موقنًا بقضاء الله تعالى، مؤمنًا بقدره، ومؤمنًا بحبّ الله لك في مصابك، فقابل حبّه بحبّ، فأسرع بالأوبة إليه وكثّف الضّراعة بين يديه، واعلم أنّه لن يتخلّى عنك فهو قريب يجيب دعوة الدّاعي إذا دعاه، فعلّق قلبكَ به وصِل حبلَك ببابه ولن تندم في الدّنيا والآخرة، فهو حسبك وهو نعم الوكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق