وقفات مع كهرمان مرعش
كان يوم الاثنين السادس من فبراير/شباط 2023 على موعد مع التاريخ، ليسطره في صفحاته المظلمة ضمن أكثر الزلازل دماراً وقسوة في تركيا وسوريا، حيث تسبب زلزال "كهرمان مرعش" في انهيار آلاف المباني، مخلفاً عشرات الآلاف من القتلى والجرحى. كان على موعد مع التاريخ يتذكره الناس كلما حدث زلزال في المستقبل، وكلما مرت عليهم ذكرى أحبابهم.
كان هذا اليوم على موعد مع حدث لا يعترف بالحدود الجيوسياسية والفوارق القومية والعرقية والدينية والمذهبية التي وضعها الإنسان بتسلطٍ من جبروته وأطماعه وأنانيته. كان هذا اليوم يوم بدء الفصل الدراسي الثاني، حيث استعد فيه التلاميذ والطلاب للعودة إلى فصولهم ومواصلة دراستهم بين الفرح والتذمر، حتى جاء هذا الحدث ليلغي كل شيء، ويستبدل بالحزن والأسى مشاعر الابتهاج بالعودة إلى الدراسة أو التذمر منها.
لا أحد يتمنى مغادرة الحياة تحت أنقاض الزلزال على هذا النحو. إن مجرد التفكير فيه أمر مرعب، لكنه رغم قسوته ليس الأكثر رعباً، فكم من البشر يموتون سنوياً تحت أنقاض القصف
مغادرة دون سابق إنذار
كانت الساعة الرابعة فجراً من هذا اليوم موعداً إجبارياً لعشرات الآلاف من البشر ليغادروا هذه الحياة دون إخطار مسبق، ودون تحديد لفئات عمرية أو جنسية أو عرقية أو دينية. ناموا مثلما ينامون كل ليلة، يحتضنون آمالهم وآلامهم، يحلمون بالفرج والتيسير ويرنون بأعينهم المغمضة إلى آفاق سعيدة تتحقق فيها أحلامهم، ويتخلصون من معاناتهم، كل حسب عمره وظروفه ومسؤولياته. لم يخطر ببال أحدهم -على الإطلاق- أن موعد المغادرة سيكون هذه الليلة، وأن مغادرتهم ستكون فجأة، وأنهم لن يتمكنوا من لملمة متاعهم، ومعانقة أحبابهم، وطلب عفوهم ومسامحتهم، وكتابة وصاياهم، والتأكد من إغلاق محابس الماء والغاز والكهرباء في منازلهم، واصطحاب أوراقهم الثبوتية، وشيئاً من ذكرياتهم.
شكل المغادرة
لا أحد يتمنى مغادرة الحياة تحت أنقاض الزلزال على هذا النحو. إن مجرد التفكير فيه أمر مرعب، لكنه رغم قسوته ليس الأكثر رعباً، فكم من البشر يموتون سنوياً تحت أنقاض القصف، أو تحت أنقاض الأوبئة والأمراض، أو تحت أنقاض الحوادث العارضة التي تزدحم بها الحياة. يموتون فجأة أو بعد طول انتظار مع الألم والخوف والقلق يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، ودقيقة بعد دقيقة. تتعدد أشكال المغادرة ولكن الموت واحد.
جاء الزلزال في فترة استثنائية في تاريخ تركيا، احتدم فيها التنافس السياسي بين أحزاب الحكومة وأحزاب المعارضة، وانبرى كل طرف منهم لمواجهة خصمه، محاولاً إقناع الشعب التركي بوعوده القادمة وسلامة موقفه وصدق ما يقول
موعد مع الموت
كانت الساعة الرابعة فجراً موعداً مع الموت، ليختار من يشاء -بقدر من الله- كي يغادروا فوراً، فأخذ من الرضع والأطفال ما شاء، ومن الشباب والشياب ما شاء، ومن الأزواج والعزاب ما شاء، ومن الأحباب والمتخاصمين ما شاء، جمع بين بعضهم وفرق بين آخرين، حتى أنه أخذ الأم وترك وليدها الذي ولدته تحت الأنقاض، ليرجئهم إلى موعد آخر لا يعلم توقيته ولا مكانه ولا كيفيته إلا الله. ورغم الألم الذي نشعر به ونحن نشاهد حجم الكارثة ومستوى الدمار وتفاصيل عملية الإنقاذ والإخلاء، إلا أن هذا الموت حقيقة نعيشها يومياً فيما يصلنا من أخبار، وقد اعتدنا عليها حتى بتنا لا نتأثر بها إلا عندما تقترب منا فتصيب عزيزاً أو قريباً.
توقيت الزلزال
جاء الزلزال في فترة استثنائية في تاريخ تركيا، احتدم فيها التنافس السياسي بين أحزاب الحكومة وأحزاب المعارضة، وانبرى كل طرف منهم لمواجهة خصمه، محاولاً إقناع الشعب التركي بوعوده القادمة وسلامة موقفه وصدق ما يقول، ولينقسم الشعب على إثر ذلك ما بين مؤيد لأحزاب الحكومة أو مؤيد لأحزاب المعارضة، أو متردد بين هؤلاء وهؤلاء؛ فجاء الزلزال ليذكر جميع الساسة بمسؤولياتهم التاريخية تجاه الدولة والشعب، وليضعهم جميعاً على منصة واحدة تعمل من أجل القيام بهذه المسؤولية. وبانتهاء أعمال الإنقاذ والإخلاء وكفكفة الدموع وزوال الأحزان، ستحتدم المنافسة من جديد لكسب أصوات الشعب الذي يستعد بعد 3 أشهر للتوجه إلى صناديق الاقتراع، لانتخاب رئيس جديد وحكومة جديدة، وسيحرص كلا الطرفين، الحكومة والمعارضة، على الاستفادة من دوره في هذا الحدث لتعزيز موقفه الانتخابي والفوز بأصوات الناخبين.
من بين ضحايا الزلزال من الحزب الحاكم نائب رئيس حزب العدالة والتنمية في ولاية "أداميان" مع عائلته، وكذلك مسؤول حزب "الجيد" في ولاية "غازي عنتاب"
سياسيون تحت الأنقاض
هذه الحوادث لا تميز بين ذكر أو أنثى، ولا بين غني وفقير، ولا بين موظف ومسؤول، ولا بين مواطن وقائد سياسي، ولا بين منتسب للحكومة ومنتسب للمعارضة، ولا تجدي معها المناصب والثروات والامتيازات والحراسات، فكان من بين ضحايا الزلزال من الحزب الحاكم نائب رئيس حزب العدالة والتنمية في ولاية "أداميان" مع عائلته، وكذلك مسؤول حزب "الجيد" في ولاية "غازي عنتاب"، وهو من المعارضة. فهل ينتبه الطرفان إلى أنه مهما كانت التطلعات والمصالح السياسية الحزبية، فإن المصير واحد، والوطن واحد، والشعب واحد ينتظر من الطرفين أن يقدما له أفضل ما لديهما لتحسين حياته، وتحقيق آماله. ومهما بلغت الخصومة السياسية، فإنها ينبغي أن تظل محصورة في حدود العمل السياسي، وفقاً لما نصّ عليه الدستور والقانون.
هبّت جميع الولايات التركية والمحافظات السورية لنجدة الولايات والمحافظات المنكوبة، وهبّ عشرات الآلاف من المتطوعين الأتراك والسوريين وإخوانهم، للمشاركة في عمليات الإنقاذ
التضامن الإنساني
عدد كبير من الدول العربية والإسلامية والغربية سارعت إلى مساعدة تركيا في محنتها في مواجهة آثار الزلزال، متناسية -بصورة مؤقتاً- خلافاتها وتنافسها الإقليمي والدولي والأيديولوجي مع تركيا، في وقفة إنسانية لم تحتج إلى قرارات من مجلس الأمن والمنظمات الدولية. وهو أمر يستحق الإشادة والتقدير، ويشير إلى أهمية التضامن الدولي الإنساني ليس في مواجهة الكوارث الطبيعية فحسب، وإنما في مواجهة الكوارث السياسية، وما تخلفه من ضحايا ودمار، فلو تحرك العالم قبل الهجوم الروسي على أوكرانيا بهذه الروح، لما حدث ما حدث، ولكان بالاستطاعة منع وقوع الحرب، والمحافظة على سلامة أوكرانيا وشعبها.
ولم يكن هذا التضامن على المستوى الرسمي الخارجي فحسب، فقد هبّت جميع الولايات التركية والمحافظات السورية لنجدة الولايات والمحافظات المنكوبة، وهبّ عشرات الآلاف من المتطوعين الأتراك والسوريين وإخوانهم، للمشاركة في عمليات الإنقاذ، أو تقديم الدعم والمساندة عن طريق التبرع بالدم والمال وما تجود به أنفسهم من مساعدات عينية. هي جهود نرجو أن تفلح في إنقاذ أكبر عدد ممكن ممن يقبعون تحت الأنقاض، وفي التخفيف عن مئات الآلاف من المنكوبين الذين وجدوا أنفسهم فجأة دون مأوى ودون طعام أو شراب.
تعتبر الفجأة أبرز ما يميز وقوع الزلازل، وأنه يصعب التكهن بمكان وقوعها، ولا زمانه، ولا حدته، وقد فاجأ هذا الزلزال ملايين البشر
الجشع
لم تردع مشاهد الدمار والموت الذي يخيم على المناطق المنكوبة بعض ضعاف النفوس من التسلسل لنهب بعض المحلات التي انهارت واجهاتها وفتحت أبوابها، بل إن البعض لم يكتف بسرقة المواد الغذائية، بل انشغل بسرقة الأجهزة الكهربائية. وهذه الأحداث على ندرتها، تكشف عن بعض جوانب النفس المظلمة وقسوتها، بحيث يطغى جشعها وأنانيتها على شعورها الجمعي وانتمائها للمناطق المنكوبة والفاجعة الإنسانية التي أصابتها، بحيث لم تستطع التمييز بين القيام بالواجب وانتهاك الواجب، ولا بين الأخلاقي واللاأخلاقي.
كن مستعداً
تعتبر الفجأة أبرز ما يميز وقوع الزلازل، وأنه يصعب التكهن بمكان وقوعها، ولا زمانه، ولا حدته، وقد فاجأ هذا الزلزال ملايين البشر، دون سابق إنذار، وأخذ الموت منهم من أخذ، ممن كان منهم مستعداً للقائه وممن لم يكن، وهذا يبعث لنا برسالة عاجلة لنكون مستعدين للقائه دوماً ليلاً ونهاراً، تحسباً للزلازل ولغيرها، فالموت يأتي فجأة، وهو أقرب للمرء من شراك نعله، ولا يخصّ كبيراً دون صغير، ولا مريضاً دون سليم، فكن مستعداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق