لطائف التقدير في الزلازل والنكبات
د. جمال عبد الستار
لا ينبغي أن ننظر إلى الأحداث التي تجري في كون الله من زاوية ضيقة صغيرة، بل ننظر إليها من زاوية الحكمة الربانية الشاملة، لا من زاوية النظرة البشرية القاصرة.
فقد اعتاد الناس في المصائب دائمًا أن يقوموا بإحصاء أعداد المفقودين، وأرقام المصابين، وتفصيل أزمات المشردين، ويجمعوا حجم الخسائر، وآثار النكبات، وعظم البلاءات، ويستفيض الناس في قولهم: كم فقدنا، وكم أضعنا، وكم خسرنا، وكم ابتُلينا… إلخ.
ولكن من ينظر إلى الحقائق يدرك الناحية الأخرى، ناحية العطاء لا ناحية الفقد، ناحية اللطف لا ناحية الشدة، ناحية الرحمة لا ناحية العقوبة، وتلك النواحي هي الأعظم قدرًا، والأوسع عطاءً، والأعجب تدبيرًا.
فإذا كان الله تعالى قد قدر أن يموت بضعة آلاف من خلقه بالزلازل والكوارث والنكبات، فإنه في ذات الوقت قد أحيا بالحادث نفسه الملايين من خلقه، وأنجى من الموت ما لا يُحصى من البشر، فإن كان سبحانه قد أمات آلافًا بحكمة التقدير، فإنه جل في علاه قد أحيا ملايين بلطف التدبير.
فعلينا أن نحمده على الإحياء أكثر مما نتألم من الإماتة، وأن نقرأ بتدبر وإشفاق قول العلي الأعلى: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾. (سورة الحجر: 23).
كما ينبغي أن ننظر في آثار رحمته في الإماتة؛ ففيها من العطايا ما يعين على الصبر والشكر، حيث قدر سبحانه أعمار الذين ماتوا قبل أن ينزلوا إلى الأرض، وأنهم لا محالة في هذا اليوم قد انقضى أجلهم، وانتهت فيه مهمتهم، وحانت ساعتهم، فكان من الممكن أن يموتوا في بيوتهم، أو أعمالهم، أو شوارعهم، أو مستشفياتهم.. إلخ، ولكن لحكمة ربانية جعل موتهم شهادة، فاصطفاهم بها، حيث قدر أن يموتوا تحت الهدم لينالوا مقام الشهادة الذي هو غاية أماني السالكين، قال صلى الله عليه وسلم: “الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد”. رواه مالك وأبو داود والنسائي.
ثم من آثار رحمته أن أطلق ألسنة الصالحين على وجه الأرض بالترحم عليهم والدعاء لهم بالمغفرة والرضوان، فهل بعد ذلك فضل وإكرام.
فلا تنظر كم ابتلى الله من عباده، دون أن تنظر كم عافى الله من عباده، فإن كان قد ابتلى الآلاف، فقد عافى الملايين، فلنصبر على بلاء من أصيبوا، ولنحمده سبحانه على نعمة من عافاهم.
ثم ننظر في رحمته بمن ابتلاهم بالجراحات والأمراض، فنجد أنه تعالى قد أحاطهم بلطيف عنايته، بأن جعل كل ألم يتألمونه، وكل هم وغم يعتريهم، بل كل شوكة يشاكونها، قربة إليه، ومغفرة منه، ورفعة في درجاتهم، وتنقية لصحائفهم، ودلالة على محبته لهم.
فلا تنظر فقط كم فقدنا
وقد أرشدنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى بعض لطائف الله بالمصابين والمبتلين، فقال صلى الله عليه وسلم: مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه”. متفقٌ عَلَيهِ.
وعنْ أَبي هُرَيرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ”. رواه البخاري.
وفي هذه القبسة النبوية النورانية عزاء وسلوة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ”. رواه الترمذي وحسَّنه الألباني .
فلا تنظر فقط كم فقدنا من الممتلكات، والأموال والمنازل والمؤسسات، ولكن انظر أيضا كم رزق الله الأمة بعباد كرماء، سلطهم على الإنفاق لرعاية المصابين، وقيض الآلاف من خيرة شباب الأمة ونسائها ليبذلوا جهودهم ليل نهار لإنقاذ المنكوبين، ومعالجة المرضى، وإيواء المشردين، وإطعام الجوعى، ومواساة المكلومين، فتلك والله ثروات وخيرات وعطايا لا يراها إلا أهل البصائر.
ثم لندرك من عظائم عطاءات المنان في المصائب والنكبات، كم من غافل تنبه وعاد إلى ربه، وكم من مذنب استيقظ وهرع نادمًا تائبًا، كم من مكروب يعاني آثار بعض المشكلات في حياته أدرك ما لله عليه من عظيم الستر، ووافر النعم، فسارع إلى ساحة الوهاب شاكرًا لأنعمه، مُثنيًا بها عليه.
لطف التدبير
إن المصائب وإن تألم الناس بآثارها، والنكبات وإن تزلزلت النفوس من هولها، فإن التفكر في حِكم التقدير، ولطف التدبير يجعل العبد يرى الرحمة سابغة في كل أمر، والعطاء أوسع من الأخذ، والنعم أوفر من النقم، فلم يمت أحد قبل موعده، ولم يصب أحد بمصاب فوق طاقته، ولم ينج أحد بحيلة دبرها، ولكنه تقدير العزيز العليم.
كما أن البلاء ليس لازمًا أن يكون دلالة غضب، وآية سخط، وأن العافية ليست دائمًا دلالة محبة، ولا آية تكريم، فلله في كل قضاء حكمة بالغة، فربما أعطى فمنع، وربما منع فأعطى، وربما أخذ فأغنى، وربما أعطى ففتن ومنع.
لا تنظر إلى رجة الأرض وزلزلتها عدة ثوان، من دون أن تنظر إلى عظيم النعمة الربانية الدائمة أبد الدهر، نعمة قرارها، وآية استقرارها، ورحمة الله تعالى بعباده، حيث خلق الجبال لتكون رواسي فتحفظ الأرض من الاهتزاز والاضطراب قال تعالى: ﴿وَالْجِبالَ أَوْتادًا﴾ [سورة النبأ: 7]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون﴾. [سورة الأنبياء: 31].
ولا تتوقف عند اهتزاز الأرض بضع لحظات ثم عودتها إلى الاستقرار، ولكن تذكر استمرار زلزلتها، وتصدع أرجائها، ونسف جبالها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾. (سورة الحج: 1).
فآيات الله للتخويف، وليست للاستغراق في التحليل والوقوف عند الأسباب الظاهرة فحسب، بل لا بد من الاعتبار، قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾. (سورة الإسراء: 59). وقال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. (سورة الروم: 41).
فالمقصد ليس الانتقام، ولكنه الرجوع والتوبة والاستقامة، تأمل قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، فحري بكل مؤمن أن يتفكر في قهر الله تعالى، وعظيم قدرته، وأن يفر إليه توبة وإنابة، فلا مفر منه سبحانه إلا إليه. وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه “كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة”. رواه أحمد.
فلنتأمل الحكم والعطايا، ولنشاهد خفايا لطفه في حكيم تدبيره، ولنتعرف عليه من آيات قهره وسابغ رحمته، فيقوى فيه الرجاء، ويتحقق منه الخوف، فيترسخ في القلب الإيمان، وينعم العبد بالهداية والاطمئنان، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. (سورة التغابن: 11).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق