إن المنافقين هم المنافقون مهما تباينت شعاراتهم وتعددت مشاربهم، ولقد نبأنا الله من أخبارهم بما يكفي لهتك أستارهم وفضح أسرارهم، إنهم ﴿يخادعون الله وهو خادعهم﴾.
فتنة الخداع والتلبيس
وهي من أشد أنواع الفتن وبخاصة في عصرنا الحاضر الذي تسلط فيه المنافقون على أكثر ديار المسلمين، وتمكنوا من وسائل التأثير والإعلام، التي تعمل ليل نهار في خداع الناس باسم الإسلام.
وإن من المنافقين من يكون قد تمرن وتمرد على النفاق، بحيث ينخدع له كثير من المسلمين لخفاء نفاقه ونعومته، کما انخدع بهم بعض الصحابة كما في قوله تعالى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 47]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ [المنافقون: 4]، بل إن من هؤلاء من تمرن على النفاق، حتى خفي حالهم على الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كما قال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة: 101]، ولذا كان فضحهم وجهادهم من أفضل أنواع الجهاد.
فالمنافقون أصحاب تذبذب وتقلب، وأرباب خداع وتلبيس، فيتكلمون بمعسول الكلام، وفصيح الخطاب، ويظهرون للناس في هيئة حسنة، ومظهر جذاب، فربما انخدع لهم الفئام من المسلمين، فمالوا إليهم وأصغوا إلى قولهم وتدليسهم، قال تعالى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 47]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ [المنافقون: 4].
التلون والتذبذب
إن هذا التلون والتذبذب يجعل خطرهم كبيرا، وشرهم مستطيرا، حيث يخفون كفرهم وضلالهم، ويتظاهرون بالإيمان والاهتداء.
ولذا: خفي على كثير من المسلمين حال بعض الزنادقة (المنافقين) في القديم والحديث، وكما قال الذهبي رحمه الله في شأن الحلاج: (فهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن: فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم منتسبون إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلم بهم، قال تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة: 101]، فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده صلى الله عليه وسلم على العلماء من أمته)1.
ومن خفاء نفاق بعض المنافقين أن يوجد بعض المسلمين – ومنهم بعض طلاب علم – من يحسن الظن بهؤلاء المنافقين. بمجرد تلبسهم ببعض الأخلاق النفعية أو جمال بعض عباراتهم وتلطفهم بها، فينسيه هذا فسادهم، وإفسادهم وخبث طويتهم. وهذا من خداع المنافقين الذي حذرنا الله منه في قوله تعالى: ﴿وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ .
من صور فتنة الخداع والتلبيس
دعوتهم لفصل الدين عن الحياة
أ- تسويغهم عزل الإسلام عن الحياة الاقتصادية والسياسية وغيرها من شؤون الحياة بقولهم: إن دين الإسلام دين الصدق والنظافة والتقوى، وكل هذا لا يتفق مع ألاعيب السياسة ومهاترات السياسيين وأكاذيبهم؛ فلهذا ينبغي أن يترفع بالإسلام عن دهاليز السياسة المتلوثة؛ كل ذلك بزعمهم حماية للإسلام ومحافظة عليه من هذه اللوثات.
ومع ذلك فقد يوجد من ينخدع بمثل هذا الكلام الفارغ الفاجر، ومن ثم يسقط في فتنة التضليل والتلبيس.
الإيقاع بالدعوة والدعاة ورميهم بالتهم الظالمة
ب- ومن صور الخداع والتلبيس التي قد ينخدع بها بعض السذج من الناس ويسقطون في فتنتها: ما يرفعه المنافقون في أكثر بلدان المسلمين في وجه أهل الخير والإصلاح والجهاد من أنهم دعاة شر وإرهاب وفساد، وما تجلبه وسائل الإعلام المختلفة وتدندن به على وصفهم ورميهم بهذه الأوصاف الظالمة حتى تأثرت بذلك بعض الأدمغة المخدوعة، فسقطت في فتنتهم، ورددت معهم هذا الظلم والخداع، ومن ثم تعرض أهل الخير للأذى والنكال باسم المصلحة الشرعية ومكافحة الإرهاب والفساد؛ وذلك بعد أن تهيأت أذهان المخدوعين من المسلمين لهذا الخداع والتلبيس.
وصور التلبيس والتضليل من المنافقين كثيرة جدا؛ والمقصود الحذر من فتنتها والسقوط في شباكها، والتفطن إلى أن المنافقين يستخدمون الإسلام دائما ویتترسون به في تمرير ما يريدون من أغراضهم الخبيثة، فهذا شأنهم دائما: التحريف، والتلبيس، وإثارة الشبهات؛ مستخدمين وسائل الإعلام الرهيبة في خداع الناس وتضليلهم. ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث قال: (لست بالخب ولا الخب يخدعني). ويعلق ابن القيم رحمه الله على هذه المقولة فيقول: (فكان عمر رضي الله عنه أورع من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع)2.
الإتيان ببعض المظاهر المبتدعة تمسحا في الإسلام
ج- اهتمام الحكومات العلمانية ببعض المناسبات الإسلامية کالاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم وهجرته، أو ليلة النصف من شعبان، أو الإسراء والمعراج… إلى آخر هذه المناسبات التي لا أصل للاحتفال بها شرعا، وإنما هي من البدع المحرمة؛ ومع ذلك ينخدع بهذا التلبيس كثير من دهماء المسلمين ، وتتحسن صور أولئك المنافقين الذين يضللون الناس بهذا الخداع، ويبدون في أعين المخدوعين أنهم يحبون الإسلام ويغارون عليه، وهم أبعد ما يكونون عن الإسلام وأهله، وهل يحب الإسلام ويعتز بالانتماء إليه من يرفض الحكم به والتحاكم إليه، ويبدل شرع الله المطهر بنحاتات الأفكار وزبالات الأذهان الجاهلة الظالمة؟ لا والله، إن مثل هذا يكذب في ادعائه حب دین الإسلام، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، فهل يعي هذا المخدوعون المضللون؟.
إقامة مؤتمرات وندوات ظاهرها للإسلام وباطنها لسحق الإسلام
د- ومما يلحق بالصور الآنفة الذكر من صور التلبيس ما يقوم به بعض المنافقين المحادين لشرع الله من إقامة بعض المؤتمرات أو الندوات الإسلامية، ويدعون إليها بعض العلماء والدعاة فيستجيب من يستجيب ويرفض من يرفض، وكل هذا من باب ذر الرماد في العيون وتخدير دعاة المسلمين بمثل هذه الصروح الخبيثة، التي هي أشبه ما تكون بمسجد الضرار، الذي بناه المنافقون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وادعوا أنه للصلاة وإيواء المسافرين في الليلة الشاتية المطيرة، فأكذبهم الله عز وجل وفضح نياتهم بقرآن يتلى إلى قيام الساعة نهي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن دخوله والقيام فيه، بل أمر بتحريقه، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 107 – 108].
فهل آن الأوان أن نعي مثل هذه الفتنة والخداع، فلا نستجيب لمثل هذه الدعوات، ولا نقوم في مثل هذه المؤتمرات أبدا؟ بل قد آن الأوان إلى أن تفضح مثل هذه اللافتات، ويحذر الناس من شرها والوقوع في فتنتها؛ ويبين لهم أنها ضرب من الخداع وصورة من صور النفاق الماكر الخبيث.
مساجد الضرار المعاصرة
يتحدث سید قطب رحمه الله عن الصور المعاصرة لمسجد الضرار فيقول: (هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتی تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة، التي يتخذها أعداء هذا الدين، تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه ! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتترس ورائها وهي ترمي هذا الدين ! وتتخذ في صورة تشکیلات وتنظیمات وکتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق ! … وتتخذ في صورا شتی کثيرة..
ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها، وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها، ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك البيان القوي الصريح: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 107 – 110].
والتعبير القرآني الفريد يرسم هنا صورة حافلة بالحركة، تنبئ عن مصير كل مسجد ضرار يقام إلى جوار مسجد التقوى، ويراد به ما أريد بمسجد الضرار، وتكشف عن نهاية كل محاولة خادعة تخفي ورائها نية خبيثة؛ وتطمئن العاملين المتطهرين من کل کید یراد بهم، مهما لبس أصحابه مسوح المصلحين:
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ .
فلنقف نتطلع لحظة إلى بناء التقوى الراسي الراسخ المطمئن. ثم لنتطلع بعد إلى الجانب الآخر لنشهد الحركة السريعة العنيفة في بناء الضرار. إنه قائم على شفا جرف هار. قائم على حافة جرف منها. قائم على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار. إننا نبصره اللحظة يتأرجح ويتزحلق وينزلق !. إنه ينهار! إنه ينزلق إنه يهوی! إن الهوة تلتهمه! یا اللهول! إنها نار جهنم. ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 109]. الكافرين المشركين، الذين بنوا هذه البنية، ليكيدوا بها هذا الدين!
إنه مشهد عجیب، حافل بالحركة المثيرة، ترسمه و تحرکه بضع کلمات!. ذلك ليطمئن دعاة الحق على مصير دعوتهم، في مواجهة دعوات الكيد والكفر والنفاق! وليطمئن البناة على أساس من التقوی کلما واجهوا البناة على الكبد والضرار.. ومشهد آخر يرسمه التعبير القرآني الفريد لآثار مسجد الضرار في نفوس بناته الأشرار وبناة كل مساجد الضرار ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
قد انهار الجرف المنهار. انهار ببناء الضرار الذي أقيم عليه. انهار بهم في نار جهنم وبئس القرار! ولكن ركام البناء بقي في قلوب بناته، بقي فيها ﴿ريبة﴾ ، وشكا وقلقا وحيرة. وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر . إلا أن تتقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور!
وإن صورة البناء المنهار لهي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار. تلك صورة مادية وهذه صورة شعورية. وهما تتقابلان في اللوحة العجيبة التي يرسمها التعبير القرآني الفريد.
وتتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان، فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة، حائر الوجدان، لا يطمئن ولا يستقر، وهو من انکشاف ستره في قلق دائم، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار)3.
ومما يلحق بمسجد الضرار تلك المساجد التي بنيت على الشرك ومحاربة أهل التوحيد ونشر البدعة والخرافة وبث الأفكار التي تعارض الفهم الصحيح للإسلام وشبيه بهذه المساجد إنشاء المدارس العلمانية والتبشيرية والجامعات التي يغلب عليها الانحراف ونشر الإلحاد والزندقة، والقنوات الفضائية والمحطات الإذاعية والجرائد والمجلات ومواقع الشبكة العنكبوتية التي لم تؤسس على التقوى بل على الكفر ونشر الشبهات ومحاربة التوحيد وأهله.
والخطير في الأمر أن القائمين على هذه الأعمال المضلة، يسعون إلى إثبات شرعيتها بدعوة من يثق الناس بدينهم لافتتاحها أو العمل بها بصورة غير مؤثرة، بحيث تبقى الهيمنة والإدارة والقرار بيد المنافقين الذين أسسوها.
وهذا عين ما فعله المنافقون في المدينة، فقد بنوا مسجد الضرار، وحاولوا إضفاء الشرعية عليه بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة فنهى الله عز وجل نبيه عن ذلك بقوله تعالى: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ ، وهكذا الحال في مساجد الضرار المعاصرة يجب أن لا يقام فيها أبدا.
يرفعون شعار “إنما نحن مصلحون”
ه- إظهارهم لفسادهم بمظهر الإصلاح وإرادة الخير بالأمة، كما قال الله عز وجل عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: 11].
يقول سید قطب رحمه الله عن هذه الآية:
(إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ﴾ ، لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير: ﴿قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ . والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدا في كل زمان يقولونها، لأن الموازين مختلة في أيديهم.
ومتی اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم، والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية)4.
تحريفُ النصوص بتأويلات باطلة
و- ومما يلحق بالصورة السابقة من صور الخداع والتلبيس ما يقوم به منافقو زماننا من تحريف لنصوص الشريعة وتأویلات باطلة لها في تسويغ فسادهم ومواقفهم الجائرة؛ فهم مع جهلهم بأحوال الشريعة نراهم يخوضون فيها بلا علم إلا ما أشربوا من هواهم؛ فنراهم يسوغون الترخص بل التحلل من الشريعة بقواعد التيسير ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغير الحال والزمان.. إلى آخر هذه القواعد التي هي حق في ذاتها، لكنهم خاضوا فيها بجهل وهوى فاستخدموها في غير محلها وبدون ضوابطها فهي حق أريد بها باطل.
ومع جهلهم بالشريعة وظهور القرائن التي تدل على خبث طويتهم، إلا أن هناك من ينخدع بهذه الشبه والتحريفات الباطلة، ومن عجب أمر القوم أنهم يرفضون الحكم بما أنزل الله عز وجل والتحاكم إليه، ولا يذعنون له، ومع ذلك نراهم في أحيان قليلة يرجعون إلى بعض الأدلة الشرعية ليمرروا ويبرروا من خلالها بعض فسادهم أو مواقفهم الباطلة؛ وإلا فما حاجتهم إلى الشرع في هذه المرة وهم کانوا یکفرون به من قبل؟ إنه الهوى والخداع والتلبيس على الناس، قال تعالى في فضح هذا الصنف من الناس: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [ النور: 48- 50].
فينبغي لكل مسلم أن يحذر من شبه المنافقين وخداعهم، وأن يقول لهؤلاء الذين يسوغون فسادهم بتحريف الأدلة الشرعية: ادخلوا في السلم كافة، وحكموا في الناس شرع الله عز وجل، وارفضوا ما سواه؛ أما أن تنحوا شرع الله عز وجل عن الحكم حتى إذا كان لكم هوى في تمرير فسادكم بشبهة دليل رجعتم إليه؛ فهذا الذي قال الله عز وجل عن أهله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [ البقرة: 85].
موالاتهم الكفار بدعوى المداراة وتحقيق المصلحة
ز- موالاة المنافقين للكفار، وبخاصة اليهود والنصاری، والإعجاب بنظم الغرب وتقاليده، وفتح الباب لفسادهم وأفكارهم. وهذه من أعظم فتن المنافقين التي طمت وعمت في أكثر بلدان المسلمين، مستخدمين في ذلك الخداع والتلبيس على الناس في ذلك بدعوى المداراة وتحقيق المصلحة ودرء المفاسد.. إلى آخر هذه التأويلات التي يخادعون بها الناس لتسويغ توليهم للكفار، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم أن هذه صفة لازمة للمنافقين، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الحشر: 11]، وقال عز وجل: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: 138 – 139].
دخول المجالس النيابية بحجة “صالح الوطن والمواطن”
ح- خداعهم لبعض المتحمسين لشرع الله وتطبيقه؛ وذلك بدعوتهم إلى مشاركات وطنية ومجالس نيابية يتعاون الجميع فيها على ما فيه صالح الوطن والمواطن کما زعموا! فيستجيب بعض الدعاة لهذا، وتجمعهم مع المنافقين الرافضين لشرع الله عز وجل مظلة واحدة، فيعرض الإسلاميون فيها مطالبهم کما یعرض العلمانيون والرافضة والشيوعيون مطالبهم الكفرية، ومعلوم ما في ذلك من مداهنة وتعاون على الإثم والعدوان، واستجابة لداعي الخداع والتلبيس الذي يتولى كبره المنافقون الذين يريدون من استجابة الإسلاميين لهم إضفاء صفة الشرعية على مجالسهم ونظمهم التي يحكمون بها؛ ومن ثم يتخدر الناس ويستنيم المطالبون بتحكيم شرع الله عز وجل ما دام أن للمسلمين صوتا في هذه المجالس النفاقية الماكرة، ويا ليت أن هناك مصلحة قطعية يمكن تحقيقها للمسلمين تربو على المفاسد التي تنشأ من المشاركة. إذا لهان الخطب! لكن الحاصل من هذه التجارب هو العكس؛ حيث إن المستفيد الأول والأخير هم العلمانيون المنافقون.
وقد لا يكون المشارك من المسلمين غافلا عن هذا الخداع، ولكنه يدخل بغرض إقامة الحجة والدعوة إلى تطبيق الشريعة ومعارضة كل ما يخالفها، ولكن هل هذا ممكن؟ وهل يسمح أهل الكفر والنفاق بذلك؟!!
الذي يغلب على الظن أن أعداء الشريعة لن يسمحوا إلا بالكلام فقط؛ وإذا تجاوز الإسلاميون ذلك إلى العمل، وتجاوزوا الخطوط الحمراء المرسومة لهم جاء دور الحديد والنار؛ وما تجربة الجزائر وحماس ومصر عنا ببعيد.
الهوامش
(1) سير أعلام النبلاء 14/343.
(2) الروح ص 244.
(3) في ظلال القرآن عند الآية (107)-(110) من سورة التوبة (باختصار).
(4) في ظلال القرآن عند الآية (11) من سورة البقرة.
اقرأ أيضا
فتنة المنافقين وأثرها على المجتمع .. (1-2)
فتنة المنافقين وأثرها على المجتمع .. (2-2)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق