حدث سهم بن كنانة قال
قال #سهم_بن_كنانة: حصل في يومٍ كالح، أن خرج على الناس قصّاصٌ اسمُه صالح، يشكّكُ في صحيح الحديث، بأسلوبٍ ملتوٍ خبيث، فيتحدّثُ بلغة التطرّف الليبرالي عن “طغيان” السّنَد، مشيراً بذلك إلى أنّ متنَ الحديث وحده هو المعتمَد، فما وافق عقله الأهوجَ قَبِلَ به، وما لم يستوعبْه ردّه ولو صحّحه البخاري في كُتُبِه، وهو أمرٌ يفتح الباب للعبث بالسّنّة، فما أدري هل أراد بذلك التزلّفَ أم به جِنّة!
قال سهم بن كنانة: ثم راح القصّاص يشكو الفقه وضيق المذاهب، حتى ظنّ الناس أنه حاخامٌ أو راهب، وقد اصطلحت الأمّةُ منذ القرون الأُوَل، على مذاهب أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وابن حنبل، وخلَفَ من بعدهم أئمّةٌ بلغوا في العلم مراتبَ عليّة، كابن حزم والغزالي والنووي وابن تيمية، فلم يؤسّس أحدٌ منهم مذهبا، ولم يقل: إني أصبحت للفقه أبا، فليت شعري كيف أنزل المغامسي نفسَه هذه المنزلة التي تؤهّلُه لتأسيس مذهبٍ جديد، وهو لم يبلغْ في العلم ما بلغه الجويني وابنُ قُدامة وابنُ دقيق العيد، وما قدْرُه أمام قدْرِهم؟ إنه لا يساوي قطرةً من بحرِهم.
قال سهم بن كنانة: وزعم القصّاص أن في الفقه ثغراتٍ سيقوم بسدِّها، وخلافاتٍ سيوقفُها عند حدِّها، وأنه بعد تأسيس مذهبِه، سيجمع العالم الإسلامي من مشرِقِه إلى مغرِبِه، ولا ريب أن ذلك من الجهل، كما أنه محالٌ في منطق العقل، ففي الفقه كثيرٌ من المسائل، اختلف فيها الأواخرُ والأوائل، وما زالت محلَّ اجتهاد، وربما تظلّ كذلك إلى يوم المعاد، لا يبتُّ فيها عالِم، إذ لم يَرِدْ فيها نصٌّ حاسم، وما زال المجتهدُ يختارُ ما يرى صوابَه، منذ صدر الإسلام وعصر الصحابة، ولا يزعمُ أن اختيارَه حَسَمَ النزاع، أو حقّق بين الفقهاء الإجماع، بل كانوا يدركون أنّ الاختلافَ في بعض المسائل نعمة، وقد يكون للمسلمين رحمة، ولمّا اقترح المنصورُ على مالك أن يحملَ الناس في الأمصار على “الموطّأ” حتى لا يبقى أحدٌ يخالفُه فيه، اعترض رغم أنه لا ينافسُه في زمانه محدّثٌ ولا فقيه، فقال له: إنّ الصحابة تفرّقوا في البلدان، وعَمِل الناس بما أبلغوهم من حديثٍ وتِبيان، وإنّ ردَّهم عمّا اعتقدوا شديد، فكلٌّ يرى أن اختيارَه سديد، فدع أهل كلِّ بلدٍ وما اتجهوا إليه، فاستجاب المنصورُ ولم يعترض عليه، فهل بلغ بالمغامسي الطيش، أن يظنَّ أنّه أعلمُ بهذا الأمر من إمام دار الهجرةِ وفقيه قريش؟
قال سهم بن كنانة: ومن المعلوم أنّ المذاهبَ لا تنشأ بقرار، ولم يحدثْ ذلك قطُّ في عصرٍ من الأعصار، وإنما تنشأ من تراكم المعرفة، وما أفتى به العالم وألّفَه، وممّا وضع من قواعدَ ووسائل، وما قلّب من أوجهٍ للرأي ومسائل، ومن كلّ بذرةٍ له أو غرس، ومن كل بحثٍ له أو درس، فإذا اجتمعت له اختياراتٌ وعمل بها أهلُ بلدٍ ما صارت مذهبا، فأعرض عن هذا يا صالح فما كان الفقهُ مطيّةً لمن يشتهي ولا مرْكبا.
قال سهم بن كنانة: ثم إنّ أئمّة المذاهب الأربعة قد ابتُلُوا بسبب صدعِهم بالحق، وما للقصّاص المغامسي من ذلك حظٌّ ولا رزق، فقد حبس المنصورُ أبا حنيفة حتى قضى نحبَه، وشدَّ يدَ مالك حتى انخلعت من كتِفِه وأكثرَ ضربَه، وسِيق الشافعيُّ من اليمن مكبّلاً بالحديد، إلى الرّقة في الشام ليمثُلَ بين يدَيْ الرشيد، وضُرِبَ أحمد حتى غُشي عليه بين يدي المعتصم، وهو متمسّكٌ بالعروةِ الوُثقى التي لا تنفصم، فماذا فعل المغامسي سوى أنه وقف أمام المنكراتِ كالمكتوف، وأطاع السلاطين في غير المعروف؟
قال سهم بن كنانة: ولا غَروَ أن يعلوَ شأنُ هذا القصّاص، بعد أن غُيّب في السجونِ أهلُ العلمِ والإخلاص، فما تجفُّ الأرضُ إلا بعد انحباس القطْر، وفي الليلةِ الظلماءِ يُفتقدُ البدر، وإن اللهَ لا يقبضُ العلمَ بنزعِه، بل بقبض من يجتهد برعايتِه وزرعِه، حتى لا يبقى إلا رؤوسُ الجهالة، فيستفتيَهم الناسُ فيفتوهم بالضلالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق