العلاقات الشعبية المصرية السودانية عصية على الفتن
الفتنة الأخيرة بين الشعبين المصري والسوداني بسبب مباراة ناديي الأهلي المصري والهلال السوداني لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة بين الشعبين، لكنها مثل سابقاتها –وحتى لاحقتها- ليست أكثر من سحابة صيف تمر سريعا، وتتساقط بفعل دفء العلاقات التاريخية وصلات النسب المتبادلة التي قد لا تتوفر بين شعوب أخرى بالطريقة ذاتها.
لا أظن أن زيارة الفريق البرهان إلى القاهرة يوم السبت الماضي كانت بهدف تلطيف الأجواء، بل كانت لأهداف أخرى تخص الوضع السياسي الداخلي، وما يستتبعه من استحقاقات على المستوى الإقليمي والدولي.
التداخل الأسري
نحن أمام علاقات عميقة تعود إلى عصور ما قبل الميلاد، وفي العصر الحديث ظلت مصر والسودان مملكة واحدة حتى استقلال السودان عام 1956، وفي ظل تلك المملكة توثقت روابط النسب بين الشعبين، إذ تزوج مصريون من سودانيات، وتزوج سودانيون من مصريات ونشأت أسر مختلطة على امتداد الوادي، ومثلت هذه الأسر المتداخلة “الإسمنت” الذي يربط أحجار البنيان.
دعوني أضرب نموذجا لهذه الأسر، التي أعتبر نفسي واحدا منها، إذ تبدأ القصة بثورة 1924 السودانية التي تأثرت بثورة 1919 المصرية، وكانت تحمل نفس المطلب وهو الاستقلال، والتي قادتها جمعية اللواء الأبيض بقيادة الضابط علي عبد اللطيف وكان من قادتها الستة الأميرالاي السيد فرح صالح بطل قصتنا، الذي تزوج لاحقا عمة والدتي وصار أول محافظ لمرسى مطروح بمصر (في ظل المملكة)، ولا يزال بيته فيها حتى الآن مع جزء من عائلته، والسيد فرح صالح ابن عمدة دلقو كان أخا في الرضاعة للرئيس المصري الأسبق محمد نجيب الذي تربى طفلا في السودان، حسبما كتب عنه في مذكراته “كنت رئيسا لمصر”، كما أنه كان صديقًا شخصيًا ومستشارًا عسكريا للقائد الليبي عمر المختار شاركه أهم معاركه ضد الطليان خلال رحلة هروبه..
خلال ثورة 1924 ضد الإنجليز في السودان حُكم على الضابط السيد فرح بالإعدام واضطر إلى الهرب عابرا نهر النيل باتجاه الحامية المصرية في الخرطوم بحري، التي أمنت نقله إلى مصر حيث اتخذ الرجل من الواحات مقرا لإقامته، ومن هناك انتقل إلى بلدتنا في محافظة المنيا متخفيا باعتباره تاجرا، حيث أقام فيها لبعض الوقت ثم تزوج، وبعد توقيع معاهدة 1936 ناله العفو السياسي الذي تضمنته المعاهدة، وكرمته حكومة النحاس باشا بتعيينه أول محافظ لمرسى مطروح بعد أن تنقل في وظائف أخرى من مأمور للواحات إلى مأمور لقنا، وقد ظل محافظا حتى أحيل للمعاش بعد يوليو 1952، ومن طرائف قصته أن زوجته المصرية اختارت أن تعيش معه في السودان بينما اختارت زوجته السودانية أن تعيش مع أبنائها في مصر.
لاحظوا هذا التمازج الأسري فأول رئيس لمصر يعيش طفولته في بيت سوداني، وهذا القائد السوداني يجد أمانه في مصر ويتزوج مصرية ويتولى أرفع المناصب بها، وهذا ليس أمرا مقتصرا عليه فقد سبقه ولحقه سودانيون آخرون في مصر، ومصريون في السودان.
تياران وحدوي وانعزالي
في مصر كما السودان تيار وحدوي عتيق (يطالب بوحدة الدولتين)، فحركة اللواء الأبيض التي قادت ثورة 1924 في السودان كانت ضمن هذا التيار، وكان يناظرها في مصر حزب الوفد أعرق الأحزاب المصرية، لكن الأمر لم يقتصر عليهما، ففي السودان نشأ الحزب الاتحادي والذي تقوده منذ تأسيسه أسرة الميرغني، وإلى جانبه الأحزاب والحركات القومية والإسلامية، والحال كذلك في مصر فبالإضافة إلى حزب الوفد هناك الأحزاب والحركات القومية والإسلامية أيضا مثل الأحزاب الناصرية وجماعة الإخوان المسلمين وبقية القوى الإسلامية، فالأحزاب القومية تؤمن أساسا بفكرة الوحدة العربية وترى أن وحدة مصر والسودان هي خطوة على هذا الطريق والقوى الإسلامية تؤمن بفكرة الوحدة الإسلامية وترى أيضا أن وحدة مصر والسودان خطوة على هذا الطريق.
هذا التيار الوحدوي يقابله تيار انعزالي في كلا البلدين أيضا، وهذا التيار الانعزالي يمثله في مصر كما السودان بعض القوى العلمانية، كما تمثله بعض السياسات السلطوية التي تستخدم النعرات الوطنية للتغطية على إخفاقات أو مشاكل تعانيها، وهو ما تكرر كثيرا في البلدين خلال العقود الماضية، فبعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995 اتهمت مصر الحكومة السودانية بالضلوع في المؤامرة وشنت حملة عسكرية ضد الجيش السوداني في مثلث حلايب، ومؤخرا جاءت مباراة فريقي الأهلي والهلال في ظل حالة احتقان واستقطاب غذتها تصرفات رسمية أو شبه رسمية في كلتا الدولتين للتغطية على مشاكل داخلية أخرى.
شماعة حلايب
وبمناسبة الحديث عن حلايب فمن الواضح أن هناك رغبة مشتركة على إبقائها شماعة تظهر دوما عند اللزوم، وأذكر أنني زرت المثلث عقب حرب 1996، في مغامرة صحفية صعبة، وقد وصلت إلى قناعة عبرت عنها في عنوان أحد تقاريري بأن تلك المنطقة “في الهم مدعية وفي الفرح منسية”، ذلك أنني اكتشفت من خلال مشاهداتي وحواراتي الرسمية والشعبية أن ذلك المثلث (شلاتين وأبو رماد وحلايب) لم يكن يحظى بأي اهتمام رسمي، وكان أهله يعيشون حياة بائسة، ولكن مع تفجر النزاع انهالت عليه المساعدات والخدمات، وبنيت لأهله المدارس والمستشفيات .. إلخ.
وبعد عودة العلاقات الطبيعية بين نظامي مبارك والبشير عاد الإهمال مجددا إلى المثلث الذي يمثل بدوره رمزا للتداخل العائلي الواسع فقبيلتا البشارية والعبابدة اللتان تقطنانه ممتدتان في شمال السودان وصعيد مصر، ولذا فإن الحل الأنسب والدائم لهذه المشكلة هو تحويلها إلى منطقة تكامل وسوق مشتركة بين الدولتين حتى لا تستخدم مجددا لتأجيج الخصومات والخلافات بين الشعبين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق