الزواج للجميع!
في عالمٍ مكتظ بمحاضري التنمية البشرية، وخبراء "البيزنس" الذين كان أكبر مشروع في حياتهم هو حسابهم على "إنستغرام"، والكثير من الفقاعات التي انتفخت بفعل تعطّش الناس إلى من يبيع لهم الوهم، وجهل البعض الآخر بأنّ الذي أمامهم محتالٌ كبير في هيئة "كوتش" أو "إنفلونسر"، فمن الطبيعيّ جدًّا والحال هذه، أن تجد مَن يحدّدون الزواج بدخلٍ معيّن، ومن يريدون من الآخرين أن يقيسوا حياتهم حسب معاييرهم الماديّة البحتة.
فتجد من يقول إن كان دخلك أقل من 10 آلاف جنيه مثلًا فلا تتزوّج، وإن كان أقل من 15 ألفًا فلا تنجب، كأنه يأخذ مهمة "الله" في تحديد الأرزاق، ويوّزعها حسب ما يكتبه هو لا ما هو مكتوب عند الرزاق وحده، وتتغلغل الرأسمالية (وإن كان المتصرّف وفقها لا يعرف تعريفها) التي لا تكتفي بأن تتغذّى على عرَق الناس، بل تأكل كذلك من اجتماعياتهم، فتجعلهم يتجهون نحو الفردانية، متخلّين عن مشاعر وأحاسيس واحتياجات نفسية في سبيل المادّة لا أكثر.
منذ الخليقة والبشر يتزوّجون على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ودرجاتهم الوظيفية ومعدّل رواتبهم، الفقير يتزوّج، والغنيّ يتزوّج، والذي دخله 3 آلاف يتزوّج، ومن دخله مليون دولار يتزوج، لأنّ الزواج هو آخر ما تبقى للناس من دنياهم، من دون أن يملك أحدٌ حق مصادرته منهم، ويعيشون به على قدر ما يُرزقون.
تجد مَن يحدّدون الزواج بدخلٍ معيّن، ومن يريدون من الآخرين أن يقيسوا حياتهم حسب معاييرهم الماديّة البحتة
ذلك من دون أن نأتي للحديث عن الرزق في الزواج، وأنا بشكل شخصي أشهد على ذلك، وكذلك هي حكايات الكثيرين من الناس، فحُقَّ على الله أن يعين ثلاثة؛ منهم ناكح يريد العفاف، فيجد رزقه معقوداً باجتماعه بزوجته تحت سقف واحد، حتى يظن أنه لم يرَ قبلها (إن كانت صالحةً) خيراً قط.
وصحيح أنّ ما نعيشه من ظروف تجعل الخطوة مهيبة وحساسة، لكن الأمور لا تقاس بالمال فقط، وأعلم أنه "كليشيه" مشهور جدًّا، ولكنها الحقيقة بالفعل، أنّ هناك من الأمان والعِشرة والرحمة والاحتياج النفسي والطمأنينة والإشباع والسكون ما لن تجده في دخلٍ كبير وحضنٍ خالٍ، وإنما قد تجده بقدر كبيرٍ في دخل يسير يضمن لك ولزوجتك قوت يومكما وحاجاتكما مع حضن يحتوي به كلّ منكما الآخر.
ولا أدري كيف يضمن المرء أصلًا دخله بعد الزواج إذا دخَله براتب معين ثم نقص؟ ثم طُرد من الشركة التي يختال بها؟ ثم فقد كلّ شيء فجأة؟ هل يعود ويطلّق حتى يصل إلى الحد الأدنى الذي حدّده حمقى السوشيال ميديا؟ ومن يجزم كذلك بأنّ العكس لن يحدث؟ أليس وارداً الغنى بعد الزواج؟ أليس للرزق أسرارٌ تفصح بها الأيام لمن يريد الله له البركة؟
أليس من حق الفقراء الزواج أيضًا، وممارسة حقهم الفيزيولوجي في التناسل، وحقهم العاطفيّ في الحب؟!
ثم إنّ من يطرحون ذلك الطرح يستثنون نصف البشر تقريبا من حقهم في التزاوج والتناسل بسبب فكرة ماديّة ساذجة تحسب الأمر كلّه من زاوية ضيقة واحدة، وتضعه في سياق محدود الفكر، مشوّش الرؤية، مغيّب البصيرة، فمن يملك منع هؤلاء؟ أليس من حق الفقراء الزواج أيضاً، وممارسة حقهم الفيزيولوجي في التناسل، وحقهم العاطفيّ في الحب؟!
هذا الرأي يمكن وضعه تحت تصنيف الجبن وغياب الحكمة والمسؤولية والشجاعة لمواجهة الحياة، حيث يهرب صاحبه من مواجهة السلطة التي تُفقر الناس وتشاركهم قوت يومهم وتفرض عليهم جباية في حركاتهم وسكناتهم وحتى أنفاسهم، وهي المسؤولة الأولى عن توفير العيش الكريم لهم، وبدلًا من ذلك كله، فأن يذهب لمحدود الدخل يفقده الركن الأخير الذي قد يأوي إليه، ويقول له: "من فضلك لا تتزوج". فهو هنا لا يهرب من السلطة بل يتبنى خطابها، ويتحدث بلسانها، ويتألى على الله فيما فرضه لعباده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق