أهم الأحداث بعد فتح مكة: غزوة حنين(2)
بعد أن فتح الله مكة على رسوله والمسلمين فانهارت بذلك مقاومة قريش التي استمرت إحدى وعشرين سنة منذ بدء الرسالة، تجمعت هوازن لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت معركة حنين التي تجد تفاصيلها في سيرة ابن هشام.
من دروس معركة حنين
في مقال سابق [ أهم الأحداث بعد فتح مكة: غزوة حنين(1)
] ذكرنا بعض هذه الدروس، ونكملها بمعونة الله وتوفيقه في هذا المقال.
النهي عن قتل الرهبان والنساء والشيوخ والأطفال
8 – وفي هذه المعركة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد، والناس متقصفون (مزدحمون) عليها، فقال: ما هذا؟ قالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من معه: أدرك خالداً فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل وليداً، أو امرأة، أو عسيفاً (أجيراً).
لا شك في أن النهي عن قتل الضعفاء، أو الذين لم يشاركوا في القتال، كالرهبان، والنساء، والشيوخ، والأطفال، أو الذين أجبروا على القتال، كالفلاحين، والأجراء (العمال) شيء تفرد به الإسلام في تاريخ الحروب في العالم، فما عهد قبل الإسلام ولا بعده حتى اليوم مثل هذا التشريع الفريد المليء بالرحمة والإنسانية، فلقد كان من المعهود والمسلم به عند جميع الشعوب أن الحروب تبيح للأمة المحاربة قتل جميع فئات الشعب من أعدائها المحاربين بلا استثناء، وفي هذا العصر الذي أعلنت فيه حقوق الإنسان، وقامت أكبر هيأة دولية عالمية لمنع العدوان، ومساندة الشعوب المستضعفة كما يقولون، لم يبلغ الضمير الإنساني من السمو والنبل حداً يعلن فيه تحريم قتل تلك الفئات من الناس، وعهدنا بالحربين العالميتين الأولى والثانية تدمير المدن فوق سكانها، واستباحة تقتيل من فيها تقتيلاً جماعياً، كما كان عهدنا بالحروب الاستعمارية ضد ثورات الشعوب التي تطالب بحقها في الحياة والكرامة.
إن المستعمرين يستبيحون في سبيل إخماد تلك الثورات تخريب المدن والقرى وقتل سكانها بالآلاف وعشرات الآلاف، كما فعلت فرنسا أكثر من مرة في الجزائر، وكما فعلت إنجلترا في أكثر من مستعمرة من مستعمراتها، وكما فعلت البرتغال في مستعمراتها في إفريقيا.
الرسول يغضب لقتل امرأة
كما أننا لم نعهد قط في التاريخ شعب من شعوب العالم القديم والحديث النهي عن قتل العمال والفلاحين الذين يجبرون على الحرب جبراً، ولكن الإسلام جاء قبل أربعة عشر قرناً بالنهي الصريح عن قتلهم، ولم يقتصر الأمر على مجرد النهي تشريعاً، بل كان ذلك حقيقة وواقعاً، فهنا في معركة حنين ترى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وهو صاحب الشريعة ومبلغها عن الله إلى الناس، يغضب لقتل امرأة، ويرسل إلى بعض قواده أن لا يتعرض للنساء والأطفال والأجراء، وحين جهز جيش أسامة لقتال الروم – قبل وفاته بأيام – كان مما أوصاهم به: الامتناع عن قتل النساء، والأطفال، والعجزة، والرهبان الذين لا يقاتلون، أو لا يعينون على قتال.
جيوش المسلمين والتزامهم بأسمى مبادئ الإنسانية
وكذلك فعل خليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين أنفذ بعث أسامة، وحين كان يوجه الجيوش للقتال في سبيل الله: في سبيل الحق والخير والهدى والعدالة.
وكذلك فعل سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه في فتوحه بالعراق، فلم يتعرض للأكارين (الفلاحين) العاكفين على زراعة أراضيهم بسوء.
وهكذا أصبح من تقاليد الجيش الإسلامي في كل مكان، وفي مختلف العصور هذه المبادئ الإنسانية النبيلة التي لم يعرفها تاريخ جيش من جيوش الأرض، ويدلك على حرص الجيش الإسلامي على هذه التقاليد معاملة صلاح الدين للصليبيين بعد أن انتصر عليهم، واسترد منهم بيت المقدس، فقد أعطى الأمان للشيوخ، ورجال الدين، والنساء، والأطفال، بل وللمحاربين الأشداء، فأوصلهم إلى جماعاتهم بحراسة الجيش الإسلامي، لم يمسسهم سوء، بينما كان موقف الصليبيين حين فتحوا بيت المقدس يتجلى فيه الغدر، والخسة، والوحشية، والدناءة، فقد أمن الصليبيون سكان بيت المقدس المسلمين على أرواحهم وأموالهم، إذا رفعوا الراية البيضاء فوق المسجد الأقصى، فاحتشد فيه المسلمون مخدوعين بهذا العهد، فلما دخل الصليبيون بيت المقدس ذبحوا كل من التجأ إلى المسجد الأقصى تذبيحاً عاماً، وقد بلغ من ذبحوا فيه سبعين ألفاً من العلماء، والزهاد، والنساء، والأطفال، حتى إن كاتباً صليبياً رفع البشارة بهذا الفتح المبين إلى البابا، وقال فيه مباهياً: لقد سالت الدماء في الشوارع حتى كان فرسان الصليبيين يخوضون في الدماء إلى قوائم خيولهم.
كذب الحضارة الغربية وخداعها
إننا لا نقول اليوم هذا للمفاخرة والمباهاة بتاريخ فتوحاتنا وقوادنا وجيوشنا التي قال فيها لوبون: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم ولا أعدل من العرب وإنما نقول هذا لننبه الى أننا كنا أرحم بالإنسانية وأبر بها من هؤلاء الغربيين وهم في القرن العشرين، والى أن هؤلاء الغربيين حين يتحدثون إلينا عن حقوق الإنسان ويوم الأطفال، ويوم الأمهات، تدليلاً منهم على سمو حضارتهم إنما يخدعوننا نحن، بل يخدعون السذج والسخفاء، وفاقدي الثقة بأمتهم وتاريخهم، ممن يزعمون أنهم أبناؤنا ومثقفونا.
نريد أن يكون جيلنا المعاصر واعياً لهذه الدسائس، واثقاً بدينه وتراثه الحضاري الإنساني النبيل، فلا يخضع لهؤلاء الغربيين خضوع الفقير الذليل أمام الغني القوي، ولا يتهافت على زادهم الفكري دون تمييز بين غثه وسمينه، تهافت الفراش على النار ليحترق بها.
لقد أثبت العلم أن الإسلام خير الأديان، وأقربها الى فطرة الإنسان، وأضمنها لصلاح الناس، وأثبت التاريخ أن حروب الإسلام أرحم الحروب، وأقلها بلاءاً، وأكثرها خيراً، وأنبلها هدفاً، وفي كل يوم جديد برهان جديد على أن الإسلام دين الله، وأن محمداً رسول الله، وأن المسلمين الصادقين صفوة عباد الله وخيرتهم من الناس أجمعين (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) [فصلت: 53].
توزيع الفيء وتأليف القلوب
9 – بعد أن تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من انهزم من هوازن الى ثقيف بالطائف، وحاصرها أياماً فلم تفتح عليه، عاد الى المدينة وفي الطريق قسم غنائم معركة حنين، وكانت ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشياه ما لا يدرى عدته، وقد أعطى قسماً كبيراً منها لأشراف من العرب يتألفهم على الإسلام، وأعطى كثيراً منها لقريش، ولم يعط منها للأنصار شيئاً، وتكلم بعضهم في ذلك متألمين من حرمانهم من هذه الغنائم، حتى قال بعضهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، أي إنه لم يعد يذكرنا بعد أن فتح الله مكة ودانت قريش بالإسلام، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وخطب فيهم فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأنصار! مقالة بلغتني عنكم، وجدة (أي عتب) وجدتموها عليّ في أنفسكم؟ ألم تكونوا ضلاّلاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ بلى! الله ورسوله أمنّ وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل، قال صلى الله عليه وسلم: أما والله، لو شئتم لقلتم فلصدقتم: أتيناك مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة (البقية اليسيرة) من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، وتركتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً (هو الطريق بين جبلين) وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى أخضلوا (بللوا) لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً.
وها هنا مسائل يمكن التعليق عليها:
أولاً: … الغنائم ليست بواعث إعلان الحرب في الإسلام
قضية الغنائم كجزء من نظام الحرب في الإسلام، وقد اتخذها أعداؤه وسيلة للطعن فيه على أنها باعث مادي من بواعث إعلان الحرب في الإسلام، ومنشط فعال للجنود المسلمين يدفعهم الى التضحية والفداء، ولذلك يتهافتون عليها بعد الحرب، كما في هذه المعركة، ولا ريب في أن كل منصف يرفض هذا الادعاء، فبواعث الحرب في الإسلام معنوية تهدف إلى نشر الحق، ودفع الأذى والعدوان، وهذا ما صرحت به آيات وأحاديث كثيرة صريحة، ومن الغرابة بمكان أن يضحي الإنسان بحياته، ويعرض مستقبل أسرته للضياع، طمعاً في مغنم مادي مهما كبر، والطمع في المغانم المادية لا يمكن أن يؤدي الى البطولات الخارقة التي بدت من المحاربين المسلمين في صدر الإسلام، ولا يمكن أن يؤدي الى النتائج المذهلة التي انتهت إليها معارك الإسلام مع العرب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي انتهت إليها معاركه مع فارس والروم فيما بعد، على أن أعداء الإسلام لم تكن تنقصهم المطامع المادية، فغنيمة أموال المسلمين ورقابهم في حال هزيمتهم كانت من نصيب أعدائهم حتماً، ولم يكن المسلمون وحدهم هم الذين يقتسمون أموال أعدائهم ورقابهم عند الانتصار عليهم، بل كان هذا شأن كل جيشين متحاربين، فلماذا لم تؤد المطامع المادية عند الأعداء إلى البطولات الخارقة، والنتائج المذهلة التي كانت تبدو من الجنود المسلمين، والتي أسفرت عنها الحروب الإسلامية؟
إحراز شرف الشهادة ونعيم الجنة
وفي وقائع الحروب الإسلامية ما ينفي نفياً قاطعاً بأن الدوافع المادية كانت هي الباعث الرئيسي في نفس الجندي المسلم، ففي معارك بدر، وأحد، ومؤتة، وغيرها كان البطل المسلم يتقدم الى المعركة مؤملاً في إحراز شرف الشهادة ونعيم الجنة، حتى كان أحدهم يقذف بالتمرة من فمه حين يسمع وعد الرسول للشهداء بالجنة، ويخوض المعركة وهو يقول: بخٍ بخٍ، ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا هذه التمرات، والله إنها لمسافة بعيدة، ثم ما يزال يقاتل حتى يقتل، وكان أحدهم يبرز لقتال الأعداء، وهو يقول: الجنة! الجنة! والله إني لأجد ريحها دون أحد (أي أقرب من جبل أحد، وكان ذلك في معركة أحد).
وفي معارك الفرس كان جواب قائد الوفد المسلم لرستم حين عرض أن يدفع للمسلمين أموالاً أو ثياباً ليعدلوا عن الحرب ويرجعوا الى بلادهم، والله ما هذا الذي خرجنا من أجله، وإنما نريد إنقاذكم من عبادة العباد إلى عبادة الواحد القهار، فان أنتم أسلمتم رجعنا عنكم ويبقى ملككم لكم، وأرضكم لكم، لا ننازعكم في شيء منها .. فهل هذا جواب جماعة خرجوا للمغانم والاستيلاء على الأراضي والأموال.
من هم الذين طلبوا الغنائم؟
أما أن يستشهد لتلك الدعوى الباطلة بما حصل عند تقسيم الغنائم بعد معركة حنين من استشراف نفوس كثيرين من المحاربين إليها، وموجدة الأنصار لحرمانهم منها، فذلك تعام عن واقع المعركة والمتحاربين، فقد كان الذين استشرفوا لتلك المغانم من حديثي العهد بالإسلام الذين لم تتمكن هداية الإسلام من نفوسهم كما تمكنت من السابقين إليه، ولذلك لم يستشرف لها أمثال أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عوف، وطلحة، والزبير، من كبار الصحابة السابقين إلى دعوة الإسلام، وما حصل من الأنصار إنما كانت مقالة بعضهم ممن رأوا في تقسيم الغنائم يومئذ تفضيل بعض المحاربين على بعض في مكاسب النصر، وهذا يقع من أكثر الناس في كل عصر، وفي كل مكان، وهذا المعنى مما يجده كل إنسان في نفسه في مثل تلك الظروف.
وليس أدل على إرادة الله وثوابه وجنته، وطاعة رسوله عند الأنصار، من بكائهم حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وكان مما قاله لهم: ألا تريدون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فمن فضلوا صحبة رسوله وقربهم منه وسكناه بينهم على الأموال والمكاسب، أيصح أن يقال فيهم: إنهم إنما جاهدوا للأموال والمكاسب؟
ولا معنى لأن يقال: لماذا جعل الإسلام الغنائم من نصيب المحاربين، ولم يجعلها من نصيب الدولة كما في عصرنا هذا؟ لأن القول بذلك غفلة عن طبيعة الناس، وتقاليد الحروب في تلك العصور، فلم يكن الجيش الإسلامي وحده دون الجيش الفارسي أو الرومي هو الذي يقتسم أفراده أربعة أخماس الغنائم، بل كان ذلك شأن الجيوش كلها، ولو أن مجتهداً اليوم ذهب إلى أن غنائم الجيش الإسلامي في عصرنا الحاضر تعطى للدولة، لما كان بعيداً عن فقه هذه المسألة وفق مبادئ الإسلام وروحه.
الحكمة من إغداق العطاء للذين أسلموا حديثاً
ثانياً: … أن إغداق العطاء للذين أسلموا حديثاً، يدل على حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بطبائع قومه، وبعد نظرة في تصريف الأمور، فهؤلاء الذين ظلوا يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمتنعون عن قبول دعوته، حتى فتح مكة، والذين أظهر بعضهم الشماتة بهزيمة المسلمين أول المعركة، لا بد من تأليف قلوبهم على الإسلام، وإشعارهم بفضل دخولهم فيه من الناحية المادية التي كانوا يحاربونه من أجلها، إذ كانوا – في الحقيقة – إنما يحاربونه وهم أشراف القوم إبقاء على زعامتهم، وحفاظاً على مصالحهم المادية، فلما خضد الإسلام من شوكتهم بفتح مكة، كان من الممكن أن يظلوا في قرارة أنفسهم حاقدين على هذا النصر، واجدين من هزيمتهم وانكسارهم، والإسلام دين هداية وإصلاح، فلا يكتفي بفرض سلطانه بالقهر والغلبة، كما تفعل كثير من النظم التي تعتمد في قيامها وبقائها على القوة دون استجابة النفوس والقلوب، بل لا بد من تفتح القلوب له، واستبشارها بهدايته، وتعشقها لمبادئه ومثله، وما دام العطاء عند بعض الناس مفيداً في استصلاح قلوبهم وغسل عداواتهم، فالحكمة كل الحكمة أن تعطى حتى ترضى، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدور التاريخي للمؤلفة قلوبهم
ولقد علم الله أن دعوته التي انتصرت أخيراً في جزيرة العرب، لا بد من أن تمتد الى شرق الدنيا وغربها، فلا بد من إعداد العرب جميعهم لحمل هذه الرسالة، والتضحية في سبيلها فإذا صلحت نفوس أشرافهم بهذه الأعطيات، تفتحت قلوبهم بعد ذلك لنور الدعوة، وحمل أعبائها، وهذا هو الذي حصل، فإنه بعد أن تألف رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوب هؤلاء الزعماء، زالت من نفوسهم كل موجدة وحقد على الإسلام ودعوته، فلما انساح الجيش الإسلامي في الأرض للتبشير بمبادئ الإسلام، وإخراج الناس من ظلمتهم إلى نوره، كانت الجزيرة العربية مستعدة لهذا العمل التاريخي العظيم، وكان هؤلاء الرؤساء المؤلفة قلوبهم في أوائل الراضين المندفعين لخوض معركة التحرير، وقد أثبت التاريخ بلاء كثير منهم في الفتوحات بلاءً حسناً، كما كان لكثير منهم بعد ذلك فضل كبير في تثبيت دعائم الإسلام خارج الجزيرة، وإدارة مملكته الواسعة، وقيادة جيوشه المتدفقة.
ولا يضر هؤلاء المجاهدين أنهم كانوا في أول إسلامهم ممن ألفت قلوبهم على الإسلام، أو تأخر دخولهم فيه عن فتح مكة، فكثيراً ما يلحق المتأخر بالسابق، ويدرك الضعيف فضل القوي، ويخلص العمل من لم يبدأه مخلصاً، وقد قال الحسن رحمه الله: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله. وقال غيره: طلبنا هذا العلم ولم تكن لنا فيه نية، ثم حضرتنا النية بعد. وحسب المتأخرين أن الله وعدهم بالحسنى، كما قال تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد، وقاتلوا، وكلاًّ وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبير) [الحديد: 10].
اهتمام الرسول باسترضاء الأنصار
ثالثاً: … وفي جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار واسترضائهم على حرمانهم من المغانم، دليل على حسن سياسته صلى الله عليه وسلم، ودماثة خلقه، فهو حين بلغه ما قاله بعضهم بشأن الغنائم، اهتم باسترضائهم وجمعهم لذلك، وقال لهم ذلك القول الحكيم، مع أنه يعلم أنهم يحبونه ويتبعونه، وقد بذلوا في سبيل الله دماءهم وأموالهم، فليس يخشى عليهم ما ينقص من إيمانهم، أو يوقعهم في غضب الله ورسوله، ولكنه أحب أن يزيل ما علق في أذهان بعضهم حول هذا الموضوع، وتلك سنة حميدة يجب أن يتبعها القادة والزعماء مع أنصارهم ومحبيهم، فإن الأعداء متربصون لاستغلال كل حادثة أو قول يضعف تعلق المحبين بقادتهم، والشيطان خبيث الدس، سريع المكر، فلا يهمل القادة استرضاء أنصارهم مهما وثقوا بهم.
الرسول يذكر فضائل الأنصار
ثم انظر إلى ذلك الأسلوب الحكيم المؤثر الذي سلكه عليه الصلاة والسلام لاسترضائهم وإقناعهم بحكمة ما فعل، فقد ذكر فضلهم على دعوة الإسلام، ونصرتهم لرسوله، ومبادرتهم إلى التصديق به حيث كذبه قومه وطاردوه، بعد أن ذكَّرهم بفضل الله عليهم في إنقاذهم من الضلالة والشتات والعداوة، ليسهل عليهم كل ما فاتهم من مال الدنيا بجانب ما ربحوه من السعادة والهداية، وبذلك أكد لهم أمرين: أنه لم ينحز إلى قومه وينسى هؤلاء الأنصار كما زعم بعضهم، وأنه كان حين حرمهم الغنائم، إنما كان يعتمد على قوة دينهم، وعظيم إيمانهم، وحبهم لله ولرسوله، ولعمري ليس بعد هذا الأسلوب أسلوب أبلغ في استرضاء ذوي الفضل والسبق في الدعوة ممن آمنوا بها مخلصين صادقين، لا يرجون جزاءً ولا شكوراً. فصلى الله وسلم عليه ما أصدق قول الله فيه: (وإنك لعلى خلق عظيم) [ن: 5].
الأنصار يضربون أروع الأمثلة في صدق الإيمان ورقة القلوب
رابعاً: … إن في موقف الأنصار بعد أن سمعوا كلامه، أروع الأمثلة في صدق الايمان، ورقة القلوب، وتذكر فضل الله في الهداية والتقوى، فقد ذكروا أن الفضل لله ولرسوله فيما قاموا به من النصرة والتأييد والجهاد، وأنهم لولا الله لما اهتدوا، ولولا رسوله لما استضاءت قلوبهم وبصائرهم، ولولا الإسلام لما جمع الله شملهم بعد الشتات، وصان دماءهم بعد الهدر، وأنقذهم من سيطرة اليهود إلى عز الإسلام وخلاصهم من جيرانهم المستغلين، ثم أعلنوا إيثارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ما تفيض به الدنيا من مال ومتاع، ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة لهم، ولأولادهم ولأولاد أولادهم، سالت مدامعهم فرحاً بعناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ودعوته المستجابة لهم، فهل بعد هذا دليل على صدق الإيمان، وهل هناك حب أسمى وأروع من هذا الحب؟ رضي الله عنهم وأرضاهم، وخلَّد ذكراهم في العالمين، وألحقنا بهم في جنات النعيم، مع رسوله الحبيب العظيم، والذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والمقربين.
وأخيراً فإن هذا الموقف وما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار، مما يجب أن يتذكره كل داعية، وأن يحفظه كل طالب علم، فإنه مما يزيد في الإيمان، ويهيج لواعج الحب والشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
المصدر
كتاب: “السيرة النبوية – دروس وعبر” مصطفى السباعي ص141-152.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق