طواحين النيوليبرالية.. حرب ضد الحضارة
لا شك أن الحرب ليس لها عنوان إلا الموت والدمار والتهجير، وهي قاسية ومكلفة على الجنس البشري، ومهددة لاستمرارية الحضارات ومؤذنة بزوالها، ومكمن "الشرط التاريخي" المتضمن صراعا أزليا بين الخير والشر، أو ما طوّع استلابا ليكون حقا أزليا لفئة معينة من البشر، هو مدى "استجابة القيم الإنسانية" لمعايير التضامن التي تفرضها الحرب وتداعياتها المخيفة، ومهما بدا لأي صراع استحالة الوصول إلى حلول فورية، إلا أنه لا يخلو من نية الاستجابة الفعلية لدعوات التهدئة والهدنة التي تمهد للوقف النهائي لقتل وتهجير المدنيين.
ولعل الحرب الطاحنة التي يشنها الاحتلال الصهيوني ليس على الفلسطينيين فحسب، بل على كل القيم الإنسانية والاخلاقية والقانونية التي تحفظ للحضارة استمراريتها، كانت تمثل تحديا كبيرا لمدى قدرة "طرفي الصراع" للحاجات الملحة لدخول المساعدات الإنسانية، وفتح ممرات آمنة لنزوح المدنيين من بؤر الصراع والقصف، وقد تكثفت جهود القطريين والمصريين الحثيثة للوصول إلى هدنة إنسانية مؤقتة يُسمح من خلالها الإفراج عن الأسرى ودخول المساعدات للقطاع، وفي الوقت الذي يعمل فيه القطريون على تمديد العمل بهدنة مستدامة، ودعوتهم لحل نهائي للمسألة الفلسطينية بقيام دولة قابلة للحياة، انبرت أقلام وأصوات تحركها الأيدولوجية والفشل الأخلاقي تجاه الحق الإنساني في المقاومة، زاعمة أن مخرجات الاتفاق القطري المصري لا يرقى إلى الخسائر البشرية والمادية للغزيين، من أجل ذلك يرافع هذا المقال عن ضرورة الهدن الإنسانية ودورها في إعادة جدولة عسكرة المقاومة ضمن استراتيجية إرباك العدو، كما أنّه يفضح المغالطات التي تسوقها طواحين التطبيع ضد المقاومة.
إننا بعيدون عن الجغرافيا التي يَألَمُ أهلها ويلات القصف الهستيري، وتكالب الاستعمارية الجديدة على المقاومة التي تريد اجتثاثها من أرضها وسلبها عزة شعبها ورهنها لمرتزقة المليشيات الصهيونية، لكننا، نَألَمُ لمصابهم ونجزع لخوفهم ونوقن بقوة الحق في زهق الباطل
في مهب النيوليبرالية
أن يموت أكثر من عشرين ألف شخص وتهدم بيوتهم ويهجر أهلهم، في سبيل أن يطلق سراح المئات من الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، لهو أمر لا يستحق كل هذا التهافت لتبرير تحركات المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، إذ يرى المطبوعون ممن لقّنوا مطويات الانبطاح للطغاة، أن دفع الشر بالشر ليس الغاية ولا الوسيلة التي قامت عليها الشريعة ولا المصلحة الفردية، بل إن التسليم المطلق للمفاوضات يمكن له أن يمهد لفعل أكثر نجاعة وقوة إن جاهد الفلسطينيون بالسنن، ومع أن المترصدين للمقاومة كثر بدءا من المدخلية المخابراتية والتي تم إعدادها جيدا في أقبية حفدة لورنس العرب، وصولا إلى اليسار العربي الذي لا تؤلمه صور الأطفال والنساء كيف يبادون بالمئات، فإن تلفيقات الاستعمارية الجديدة عن المقاومة لا تتجاوز عناوين خطت بأيدي عملاء الصهيونية.
ولعل ما قاله المتحدث باسم اليونيسف جيمس إلدر عن أهداف الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، والتي جسدت غطرسة الاحتلال وفوقيته على القانون الإنساني والحضاري، المزيد من القتل الذي يطال المدنيين من النساء والأطفال، وقد لخص الحرب بكلمته وهو يناشد العالم الحر، أنها حرب ضد الأطفال والمستشفيات، وفي الوقت الذي تقصف فيه طائرات الاحتلال المدن والمناطق الحساسة والمؤسسات الإغاثية، تستمر المؤسساتية النيوليبرالية بدعوة إسرائيل بالتقليل من الأهداف المدينة والإذعان للهدن الإنسانية، حيث لا تميز آلة القتل الصهيونية بين الأطفال والنساء والصحفيين كأهداف محظورة دوليا، تشبع بها غريزة الانتقام لدى قادتها، وما نقله جيمس إلدر من صورة طفل مبتورة رجله وهو يتمنى أن يلعب كرة القدم، لا يمكن لها أن تُسمع في عواصم حماة الهيكل الغربيين، إنهم رهائن سردية الرؤوس المقطوعة التي روجها اليمين الصهيوني المتطرف، وسجناء التلفيقات الكهنوتية لأسياد نتنياهو.
إننا بعيدون عن الجغرافيا التي يَألَمُ أهلها ويلات القصف الهستيري، وتكالب الاستعمارية الجديدة على المقاومة التي تريد اجتثاثها من أرضها وسلبها عزة شعبها ورهنها لمرتزقة المليشيات الصهيونية، لكننا، نَألَمُ لمصابهم ونجزع لخوفهم ونوقن بقوة الحق في زهق الباطل، ولولا صبر المرابطين وإيمانهم الصادق بعدالة المسألة الفلسطينية، لكان رعاة الإبل دمى النيوكولنيالية يقرعون أجراس الخنوع فوق مآذن الأقصى، بعدما أسلموا زمام ملكهم لشرذمة لا يأمن بعضها على بعض.
صدقت لؤلؤة الخارجية القطرية حين قالت أن غزة أحيت موات الأمة التي اغتالتها طغم وظيفية، وبعثت من جديد الجماهير نحو استعادة ذاتها وكرامتها وإنسانيتها الحقيقية، أمام غطرسة الاستلاب الوحشي للمادية الغربية، وكسرت بصلابة مقاومتها ازدواجية المعاير تجاه الملايين المهجرة من أوطانها
كيف يكون الإنسان أولا؟
في كلمتها من داخل قطاع غزة، رافعت لؤلؤة الخاطر وزيرة التعاون الدولي بالخارجية القطرية عن كل نفس، ووقفت بإجلال وتعظيم للتضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني ضد المحتل، ومع أن رسالتها المتضمنة الإخاء والدعم الإنساني للغزيين، إلا أنها تجاوزت حدود كلمات التضامن التي تتلوها البيانات والخطابات الجوفاء داخل أقبية الأمم المتحدة المستلبة الإرادة من شتات الأرض، كانت حقا أسطرا كتبت ليس من باب المواساة لأهل الضحايا ولا المهجرين، ولم تكن أحرفا تعيد سرد الحاكيات التافهة للسياسات الخارجية، بل حملت معاني حضارية وإنسانية لما جسدته المساعي الحثيثة لدولة قطر في ترسيخ الهدنة الإنسانية، وتحميل المحتل تبعات جرائمه المرتكبة بحق المدنيين، ودرس أخلاقي لأولئك الذين اجترتهم طواحين ماديات النيوليبرالية ممن ألفوا الانبطاح والاذعان للصهيونية.
صدقت لؤلؤة الخارجية القطرية حين قالت أن غزة أحيت موات الأمة التي اغتالتها طغم وظيفية، وبعثت من جديد الجماهير نحو استعادة ذاتها وكرامتها وإنسانيتها الحقيقية، أمام غطرسة الاستلاب الوحشي للمادية الغربية، وكسرت بصلابة مقاومتها ازدواجية المعاير تجاه الملايين المهجرة من أوطانها، فهذه الحرب ستكون "الجولة الأخيرة" في استفاقة المغيبين وإعادة ترتيب أولوياتهم نحو تساؤلاتهم الوجودية، أولئك الذين نسوا طعم الحرية وكيف تكون الكرامة، لا تسع معاركهم اليومية بعد صور الإبادة الممنهجة للغزيين، إلا أن يسكتوا إن عجزوا عن نصرة الضعفاء حول العالم، أو يرفعوا رايات التضامن والتعاضد لنصرة القضايا الإنسانية العادلة، وأن يسائلوا ذواتهم ورعاة أمرهم عن الخيبات التي ستلاحقهم إلى زنازين التاريخ. ويا للمفارقة بين من يحسن التدبير والوقوف بقدم ثابتة دعما للقضايا الإنسانية واستعادة للحق الإنساني في الحياة، وبين من يرتمي في وهم التطبيع الذي لم يأخذ منه سوى المذلة والامتهان، وشتان بين من تحمله قوافل إغاثته المساعدات الإنسانية تسوقها شخصيات بارزة من الحكومة القطرية، ومن هو مستعد لتحميل الآلاف من المدنيين تبعات صمودهم ضد محتل يعدد بشكل مستمر وجه الحضارة الذي لطخ بدماء الابرياء.
يقف العالم اليوم على خط فاصل للحضارة وقيمها الراسخة في وجدان القانون الإنساني والأممي، فاصل لا يعدو كونه خطا أحمر ترسمه إرادة الاستعمارية الجديدة، وأطرافها الوظيفية في المنطقة، إنه إرادة تحيي الالتزام الأخلاقي لأولئك الذين نهلوا من الحضارة مادياتها، وليعيد للتاريخ نفسه وسرديته نحو الخلاص من ثقافة النهب والسرقة، ومثلما جددت وزيرة التعاون الدولي القطري التزامها مع غزة، يرسم العالم الحر في ملاذات الصهيونية الآمنة خطابات ومواقف مشرفة، لكسر غطرسة الاحتلال وتوثيق جرائمه ضد الأطفال والنساء، ومهما تسارعت وتيرة الانتقام الصهيوني من العزل والأطفال والصحفيين، فإنه وأشياعه المطبعين معه، لا يحفرون إلا قبورهم بأيديهم، وهم جاثمون أمام إرادة شعب فلسطيني أذيق أبشع ويلات الحضارة وتمثيلاتها المخزية.
غزة التي علمت المرابطين على حواف العدم، كيف يكون الصمود وكيف تكون العزة، تهز برشاقتها وصرخات شعبها طواحين العواصم المادية، لتفضح هشاشة النظام الدولي وفشله في تحقيق سلام دائم يراه الاحتلال الصهيوني مهددا لاستمراريته، وما هي إلا إرادة والتزام، وصبر وتوكل، وعمل وتسديد، وحقيقة راسخة في وجدان وضمائر الملايين من الأحرار، وانشقاقات في صناع القرار الغربي، في مواجهة طواحين الغطرسة الاستعمارية الجديدة وكانتونات التطبيع المتصهينة، ومهما كان ثمن الدفاع عن المقدسات والأطفال والنساء، فالفلسطينيون باعوا والله اشترى منهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق