الجمعة، 16 أغسطس 2024

في مذبحتَي رابعة وغزة.. القاتل واحد وإن اختلفت صوره

 

في مذبحتَي رابعة وغزة.. القاتل واحد وإن اختلفت صوره


  
شيرين عرفة
كاتبة صحفية وباحثة سياسية


“كنت في ميدان رابعة منذ بداية الاعتصام وحتى يوم الفض، حين وصلتنا بعض الأخبار تقول إنه سيحدث هجوم من قوات الأمن، قام المعتصمون وقتها ببعض التجهيزات، جمعوا شكائر الرمل في مداخل الميدان، ووضعت كل خيمة في مقدمتها برميلا ملأته بالمياه، كنا نخطط لإبطاء تقدم القوات أثناء اقتحامها، ومواجهة القنابل المسيلة للدموع، بإلقائها داخل المياه، لكن ما رأيناه في هذا اليوم لم يكن يتخيله عقل أحد منا، ولم يخطر على البال!.

فقد حاصرت قوات الأمن من الجيش والشرطة الميدان منذ ساعات الفجر، وفي تمام الساعة السابعة إلا ربع صباحا، وبدون أية مقدمات، بدؤوا بإطلاق النيران من جميع الاتجاهات، كانت زخات الرصاص الحي تنهمر علينا كالأمطار، ثم اقتحمت المجنزرات والدبابات والسيارات المصفحة مداخلَ الميدان.


قاموا بتجريف الخيام وأشعلوا فيها النيران، رأينا القناصة يصوبون بنادقهم إلينا من فوق الأسطح، ومن داخل طائرات مروحية تُحلّق في سماء الميدان، كانت الجثث تملأ المكان، والقنابل المسيلة للدموع تُلقى بكثافة عجيبة، حتى إننا شعرنا باحتراق أعيننا وجلودنا، وتوفي العديد من الأطفال بفعل الاختناق.. ما زلت حتى اليوم، حين أتذكر وقائع ما حدث أجهش بالبكاء”..

كان هذا جزءا من شهادة أحد الناجين من أحداث فض ميدان رابعة العدوية في 14 أغسطس/ آب 2013، الذي اعتصم فيه بشكل سلمي لمدة 47 يوما المعارضون للانقلاب العسكري، الذي قاده عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع حينها، وأطاح من خلاله بالرئيس المصري المنتخب محمد مرسي وقام بسجنه، وحلّ الدستور والمؤسسات، وكانت أعداد المعتصمين في هذا اليوم- وفقا لتقارير صحفية- تتراوح ما بين 70 ألفا إلى 80 ألفا.

وفي فيلم وثائقي بعنوان “ذكريات المذبحة” من إنتاج فضائية “مكملين”، قدَّمت طبيبة مصرية شاركت في علاج المصابين بالمستشفى الميداني أثناء الفض شهادتها على تلك الأحداث. 
تقول:
حينما زادت أعداد القتلى والمصابين بشكل كبير، ومُنعت أنابيب الأكسجين والتجهيزات الجراحية والأدوية من الوصول، بدأ الأطباء يختارون بين الجرحى.. من الذي علينا أن نستسلم لفكرة موته؟ ومن يمكنه أن يحظى بفرصة للنجاة؟. 
وأثناء عملنا رأينا ضباطا مُقَنَّعين يرتدون ملابس القوات الخاصة، ويطلبون منا الخروج والإخلاء، فأخبرت قائدهم أنني لا يمكنني ترك الجرحى الذين أتولى علاجهم، فأعادها عليّ بلغة حادة: “اخرجي، وإلا ستموتين”! توسلت إليه بأن إصاباتهم خطيرة، ولا يجب أن يُتركوا، فأخرج سلاحه وقتلهم جميعا، وقال لي: “لم يعودوا جرحى، يمكنك تركهم الآن”.. تضيف: حينها أدركت أن حياتي قد توقفت عند تلك اللحظة، وأنني لن أستعيد توازني الإنساني مرة ثانية.

لاحقا، تم إحراق المستشفى الميداني بما تحمله من جثامين، وربما بما فيها من مصابين، كانوا حينها ما يزالون على قيد الحياة، كما أُحرق مسجد رابعة، وعشرات من خيام المعتصمين، وتم تدمير الميدان.

تنص المادة رقم (19) من اتفاقية جنيف الأولى لسنة 1949م على أنه “لا يجوز بأي حال الهجوم على الوحدات والمنشآت الطبية الثابتة، والوحدات المتحركة التابعة للخدمات الطبية، بل تحترم وتُحمى في جميع الأوقات”، ويُعتبر الهجوم العسكري على منشأة طبية من جرائم الحرب المنصوص عليها في القانون.

قدمت قناة الجزيرة تقريرا مصورا لها بعنوان “شهادة على مذبحة رابعة”، ظهر فيه عدد من المسعفين في مستشفى رابعة، التي استطاع بعض المعتصمين نقل أعداد من المصابين وجثامين الشهداء إليها بعد إخلاء المستشفى الميداني، فتحدثوا عن إصابات لم يروا مثلها من قبل، عن رصاص يُفجّر الجماجم ويُخرج الأمخاخ، عن بطون متهتكة، تتدلى منها الأمعاء، عن ثقوب بأحجام ضخمة في صدور وأعناق الشهداء، فيصرخ أحدهم في ذلك التقرير: هذه ليست مذبحة بل إبادة، والغرض منها قتل كل المعتصمين.

لم تكن تلك الفصول المروعة كلَّ ما تضمنته مذبحة رابعة، والتي- وفقا لمنظمات حقوقية- تراوحت أعداد القتلى فيها ما بين 1000 و3000، بالإضافة إلى أكثر من 4000 جريح، وأُطلق عليها اسم “مجزرة القرن”، بوصفها عملية قتل جماعي ضخمة لمعتصمين سلميين.

لكن الاعتقال والاختفاء القسري، والأحكام التعسفية بالسجن والمؤبد والإعدام، كانت هي المصير الأكثر إيلاما لكثيرين ممن نجوا من الموت والسحل يوم فض الاعتصام؛ ففي سبتمبر/ أيلول 2018، قضت الدائرة الثانية- إرهاب، المنعقدة بمجمع محاكم طرة، بالإعدام شنقا لـ75 متهما، من بينهم القادة في جماعة الإخوان المسلمين، ومنهم الدكتور “محمد البلتاجي” البرلماني الشهير، والبرلماني الدكتور عصام العريان (رحمه الله)، والعالم الأزهري الدكتور “عبد الرحمن البر”.

كما قضت المحكمة كذلك، بالسجن المؤبد على مرشد الجماعة، الدكتور “محمد بديع”، والدكتور باسم عودة، وزير التموين زمن الرئيس الراحل محمد مرسي، الذي عُرف بنشاطه وإنجازاته الفريدة في وزارته، كما قضت بأحكام بين المؤبد والمشدد والسجن لباقي المتهمين، وعددهم في تلك الدعوى، يتجاوز الـ600 متهم.

وحتى يومنا هذا، ما يزال العشرات من الأبرياء ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام، وتضيع أعمار الآخرين خلف القضبان، ويموت بعضهم في السجون بالتعذيب والإهمال.. كل هذا لمجرد مشاركتهم في اعتصام رابعة، بينما نجد كثيرين ممن حُكم عليهم غيابيًّا أُجبروا على مغادرة مصر خوفًا من الاعتقال والمحاكمات الجائرة، ويعيشون في المنفى غير قادرين على العودة إلى البلاد.

ولم تقتصر تبعات المذبحة على من لقوا مصيرهم، أو من فروا من بطش النظام، بل ورثت عشرات العائلات تلك المعاناة؛ فحتى الآن، ما زالت أُسر مصرية تبحث عن إثبات لوفاة أو اختفاء أقاربهم قسريًا في ذلك اليوم، فبعض من اعتقلتهم السلطة أنكرت وجودهم في السجون، وكثير من الجثامين، التي شوهدت تحملها الجرافات وتنقلها عربات الجيش، دُفنت في أماكن صحراوية على أطراف القاهرة (وفقا لشهود عيان).

ومازال عديد من المصريين يعيشون على أمل معرفة مصير أهلهم وأبناء عائلاتهم ممن شهدوا الاعتصام، وبعضهم ممن أجبرته الظروف أن يحضر أحداث الفض، لمروره من تلك المنطقة آنذاك.

لكن أصعب فصول تلك الإبادة على الإطلاق كانت الحملة الدعائية المرعبة، التي شنتها أذرع السيسي الإعلامية، عبر عشرات المواقع والصحف والفضائيات التابعة للنظام، والتي صوّرت الضحية كمجرم، وأظهرت القاتل كبطل مغوار، وبات ضحايا المذبحة هم المتهمون، ليس في نظر القضاء وحسب، لكن أيضا في أعين شريحة كبيرة من المجتمع، ممن غُسلت أدمغتهم بفعل التضليل الإعلامي الرهيب، وبات على أهالي الشهداء والجرحى والمعتقلين أن يتعايشوا مع آلام فقدهم لذويهم وأحبابهم- أولا-، ثم يتأقلموا- ثانيا- مع الوضع المرير بغياب العدالة وإفلات المجرم من العقاب، ثم يتقبلوا- ثالثا- الشماتة والضحكات الساخرة من إعلاميي النظام، ومن يصدقونهم.

مع متابعة الكذب الفج، والتزوير الفاضح، في مسلسلات أخرجتها شركات إنتاج تابعة للمخابرات، مهمتها ترويج الأوهام والافتراءات لتغيير سردية ما حدث في عقول المصريين، عن حقبة ما بعد الانقلاب، مرت الذكرى الحادية عشرة لمذبحة فض رابعة هذا العام، مختلفةً عما سبقها تمام الاختلاف..

فمذبحة غزة الوحشية، وحرب الإبادة المتواصلة منذ ما يزيد عن 10 أشهر، ومشاهد القتل الجماعي للفلسطينيين، واقتحام قوات الاحتلال الصهيوني لمستشفيات القطاع، ذلك يتزامن مع صمت مصري وصل إلى مرحلة التواطؤ مع حكومة نتنياهو على تلك الحرب المتوحشة، بالإضافة إلى اتهامات من منظمات حقوقية دولية ضد نظام السيسي، تتهمه بحصار أهل غزة وتجويعهم، والمشاركة في سفك دمائهم.

هذا ينبئنا اليوم بحقيقة مفادها أن مذبحتي رابعة وغزة.. القاتل فيهما واحد، حتى وإن اختلفت صوره.

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق