الخميس، 1 أغسطس 2024

إسماعيل هنية وأحمد ياسين.. التلميذ على خطى معلمه

إسماعيل هنية وأحمد ياسين.. التلميذ على خطى معلمه

شيرين عرفة
كاتبة صحفية وباحثة سياسية

“عاش من أجل فلسطين، ومن أجل الأقصى، وهذه اللحظة التي كان يتمناها، وعلى العدو الصهيوني أن يفهم أن استشهاد الشيخ أحمد ياسين هي  حياة للمقاومة، حياة للقدس، حياة لفلسطين، وحياة لهذه الأمة إن شاء الله”..

كانت تلك كلمات الشهيد إسماعيل هنية، التي نعى فيها باكيا استشهاد معلمه وقائده ومؤسس حركة حماس، الشيخ المجاهد أحمد ياسين، بصاروخ إسرائيلي استهدفه أثناء خروجه من صلاة الفجر في مسجد بحي صبرة بغزة، في 22 مارس/ آذار 2004.. وتمر الأيام والسنون، ويصبح من كان مساعد الشيخ ومدير مكتبه رئيسا لحركة حماس، ورئيسا لوزراء فلسطين، وبعد 20 عاما من هذا الموقف وتلك الكلمات، يُستشهد هنية قبيل فجر الـ 31 من يوليو/ تموز 2024 بصاروخ إسرائيلي، اغتاله في مقر إقامته أثناء زيارته للعاصمة الإيرانية طهران، ليلحق التلميذ بمعلمه، بعد أن سار على نهجه، والتزم الطريق.

وظل الموت يلاحق هنية على مدار حياته، فهو الذي نجا من محاولة اغتيال في غارة إسرائيلية نفذها الطيران الصهيوني عام 2003، خرج منها بجروح في يده؛ ونجا مرة أخرى في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2006 من محاولة اغتيال بإطلاق النار على موكبه الذي استُشهد فيه أحد مرافقيه، وأصيب 5 آخرين بينهم نجله ومستشاره.. كذلك نجا من محاولة اغتياله في 28 يوليو/ تموز 2014، بعد قصف الاحتلال لمنزله في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين بعدة صواريخ، خلال معركة العصف المأكول على قطاع غزة.

إلا أن ذلك كله، لم يُثنه عن مواصلة جهاده من أجل تحرير أرضه ومقدساته، وهو ما عبر عنه بنفسه خير تعبير بكلمات للشاعر “سليم عبد القادر” في مهرجان إعلامي، أعادها منشدا:

ماضٍ وأعـرف ما دربي وما هدفي

والموت يرقص لي في كل منعطف

وتابع مع نشيد محمد إقبال:

وحياتنا أنشودة، صيغت على لحن الكفاح

وطريقنا محفوفة بالشوك، بالدم، بالرماح

يمكننا القول، إنه لم يجتمع لقائد في زمننا هذا، من مناقب ومواقف وصفات وبطولات ما اجتمع في الشهيد إسماعيل هنية، ولم يُبتلَ قائد ويؤذى في نفسه وأهله وعرضه مثلما أوذي هنية؛ فالشاب الذي درس الأدب العربي في الجامعة الإسلامية، وانخرط في العمل الطلابي، حتى أصبح رئيسا للكتلة الإسلامية، تم تعيينه معيدا بالجامعة بعد تخرجه منها عام 1987، لكنه لم يركن لحياته الأكاديمية، فجاء اشتراكه في الانتفاضة الفلسطينية، وانتماؤه لحركة حماس، مسوغا لأن تعتقله السلطات الإسرائيلية عدة مرات، قضى في إحداها، ثلاث سنوات من عمره في سجون الاحتلال.

بعد الإفراج عنه، نُفي إلى مرج الزهور على الحدود اللبنانية الفلسطينية، وهناك أمضى عاماً مع مجموعة من ‏خيرة قادة حماس، وعقب عودته إلى غزة في عام 1993، لاح أمام عينيه مرة أخرى مستقبله العلمي، حين تم تعيينه عميداً للجامعة الإسلامية‎، لكن حب الجهاد وحرصه على النضال كان بالنسبة إليه أعظم من أي شيء، فتولى في عام 1997 منصب مساعد الشيخ أحمد ياسين ورئيس مكتبه، وعقب استشهاد الدكتور “عبد العزيز الرنتيسي” في ‏عام 2004، أصبح هنية رئيساً لحركة حماس في قطاع غزة‎.

ولم يبقَ هنية قائدا ومجاهدا عسكريا وحسب، بل انخرط في العمل السياسي، حيث ترأس قائمة “التغيير والإصلاح” في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وهي القائمة التي ‏فازت بأغلبية أصوات الناخبين في فبراير/ شباط 2006، وحينها أصبح أول رئيس وزراء فلسطيني منتخب، فجمع هنية بين دوره كرئيس لحركة مقاومة هدفها تحرير فلسطين، وبين دوره كسياسي ومسؤول حصل على ثقة وأصوات الناخبين الفلسطينيين.

وبجانب كل هذا، لم يتخل عن دوره كأكاديمي ومربٍّ للنشء والجيل، كما عرفته الأمة خطيبا بارعا ومتحدثا مفوها، يؤم المصلين، ويذكر المسلمين بقضيتهم وواجبهم تجاه مقدساتهم. وفي أعقاب الانقلاب عليه من قِبل السلطة الفلسطينية، نادى هنية بالمصالحة الشاملة مع حركة فتح، وأعلن قبوله مرات عدة التنازل عن رئاسة الحكومة، وتنازل عنها فعليا في 2 يونيو/ حزيران 2014، كما تم انتخابه رئيسا للمكتب السياسي لحركة حماس خلفا لخالد مشعل في عام 2017.

وقد وُصف هنية من قبل أعدائه قبل محبيه بأنه صاحب خطاب سياسي رصين ومنفتح على الجميع، وقال عنه القيادي بحركة حماس، الشهيد نزار ريان: عندما اخترنا أبو العبد لخلافة الدكتور الرنتيسي قائدا للحركة في القطاع، لم يكن أبو العبد الأقدم بيننا، ولا الأكبر سناً، لكنّه كان الأكثر إجماعاً وحباً بين الجميع.

وكما اجتمع فيه من الخصال والمناقب والأدوار ما لم يجتمع في غيره، فقد عانى كذلك، ولاقى من الابتلاءات ما لم يشهده أحد من قبل؛ فهنية الذي ذاق مرارة السجن والظلم والاعتقال، المسؤول السياسي الذي حاربته دول العالم وخانه الأشقاء، وتمت محاصرته والتضييق عليه، ووُضعت العراقيل أمامه، وحاولوا إفشاله، حتى أنه مُنع من العبور إلى قطاع غزة بعد زيارة خارجية له، فأُغلق في وجهه معبر رفح في عام 2006 بأمر من إسرائيل، وتواطؤ من النظام المصري.

وحينما اشتد الخناق على قطاع غزة، وزاد الضغط عليه وعلى حماس، قال هنية جملته الشهيرة في خطبة جمعة ألقاها أمام أكثر من عشرين ألف مصلٍّ في المسجد الكبير بمخيم جباليا، في أكتوبر/ تشرين الأول 2010 :”سنأكل الزعتر والملح والزيتون، ولن نطأطئ الهامات إلا لله رب العالمين، ولن نهون ولن نتراجع”.

هنية تعرض لأكبر حملة تشويه وتضليل واغتيال معنوي ونشر للأكاذيب، دعمتها أنظمة عربية كبرى وموّلتها بسخاء، لكن ذلك لم يثنه عن نضاله ومقاومته للمحتلين.. هنية فقد ما يزيد عن 60 من أفراد عائلته وأقربائه، وحينما تم إبلاغه بنبأ استشهاد أبنائه وأحفاده، قال عبارته الشهيرة: “دماء أبنائي وأحفادي الشهداء ليست أغلى من دماء أبناء الشعب الفلسطيني، أنا أشكر الله على هذا الشرف الذي أكرمني به باستشهاد أبنائي الثلاثة وبعض أحفادي”.

لم يذق هنية طعم الراحة والاستكانة، ولم يقبل يوما بالرضوخ والاستسلام، ومن أشهر مواقفه التي سيخلدها التاريخ، أنه حين خطب في الذكرى الـ21 لانطلاقة حركة حماس، هتف قائلا‎:‎‏ “سقطت يا بوش،‎ ‎ولم تسقط قلاعنا، سقطت ‏يا بوش،‎ ‎ولم تسقط حركتنا، سقطت يا بوش،‎ ‎ولم تسقط مسيرتنا”.. وخلال حفل إفطار جماعي نظمته حماس بحضور قيادات الحركة وعدد من قادة الفصائل، في أغسطس/ آب 2009 قال: “لن تسقط القلاع، ولن تُخترق الحصون، ولن يَخطفوا منا المواقف بإذن الله‎ ‎الواحد القهار”.
ومن كلماته المحفورة في عقول ووجدان الناس، ما كان حين وقف أمام عشرات الآلاف من أنصار الحركة، في مهرجان نظمته حماس في العام 2010 داخل قطاع غزة المحاصر، وطائرات الاحتلال الإسرائيلي تحلق فوق الرؤوس، إذ هتف بقوة وحسم: “لن نعترف، لن نعترف، لن نعترف بإسرائيل”؛ 
وكذلك كانت عبارته الشهيرة: “نحن قوم نعشق الموت كما يعشق أعداؤنا الحياة، ونعشق الشهادة على ما مات عليه القادة”.

حصل هنية على ما تمناه، فاز بالشهادة، وبلقاء أبنائه وأحفاده ورفاقه الذين استشهدوا من قبل.. فاز بلقاء أحمد ياسين والرنتيسي والجعبري والعطار وعدنان الغول ويحيى عياش، وكل قادة ‎حماس الذين حملوا قضية تحرير ‎فلسطين، وعلموا أن الاستشهاد هو أعظم نهاية ينتظرونها.

وكسبت الأمة نموذجا جديدا من القادة، لو أردنا الحديث عنه، لما اقتنع أحدٌ بما نقول، ولاعتُبِر ذلك ضرباً من الخيال العلمي، فلدينا رئيس وزراء منتخب وسط ديكتاتوريات عربية عتيقة، مسؤول عربي يناضل من أجل تحرير بلاده ويرتقي شهيدا، فيتداول العرب بعد وفاته أحاديثه عن الجهاد وقتاله الأعداء، ومشاهد إمامته للمصلين، وتلاوته العذبة للقرآن، وإنشاده للأناشيد الحماسية.. مسؤول وصل إلى منصبه بأصوات الناخبين، وبعد موته تبكيه الشعوب العربية والإسلامية جميعا.

فاز هنية، وفازت الأمة، وخسرت إسرائيل باغتيالها لزعيم سياسي، وانتهاكها لسيادة دولة أخرى، وترسيخ صورتها ككيان إرهابي مارق مجنون، لا تحكمه أخلاق، ولا يتقيد بقوانين؛ فالشهيد الذي كان يرأس المكتب السياسي لحركة حماس، أكد من قبل أن العمليات العسكرية على أرض ‎غزة يقودها أبطال آخرون، وأنه فقط المتحدث باسم الحركة، ومسؤول عن التمثيل السياسي لشعب فلسطين.

ذهب هنية للقاء ربه، لكنه صنع مجدا وسطّر تاريخا، وسيظل اسمه يتردد، ليس فقط في كتب الملاحم ونضال الشعوب، لكن أيضا على الأرض وفي ساحات القتال.. وكما عرفنا قذيفة الـياسين، وبندقية الغول، ربما نجد قريبا طائرات مسيرة أو مدافع باسم “هنية”، يحملها أبطال يواصلون الجهاد ويُكملون المسير.

فرحمة الله عليك يا أبا العبد، ومغفرته ورضوانه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق