الظاهر: نعم؛ ولذا نقول: هذا مكلف، وهذا غير مكلف، وسن التكليف.. وهي استعمالات شائعة لدى الفقهاء، ويشهد لها قوله تعالى: (( لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ))[النساء:84]، وقوله: (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ))[البقرة:286]، وقول النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، وهي لا تخلو من مشقة محتملة، والمداومة عليها تتطلب صبراً ومصابرة، ولهذا جاء في التنزيل: (( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ))[مريم:65]، وقال: (( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ))[طه:132]، من الابتلاء؛ أن تسجد ولسانك يتحرك بالتسبيح، لا يراك ويسمعك إلا الله فهو تعزيز للإيمان، واختبار لصدقيته.
أن تصوم وبمقدورك أن تفطر دون أن يدري أحد من البشر، ومجرد نية قطع الصوم هي فطر، فذاك يقيس مدى إيمانك بالله المطلع على الخفايا والأسرار، وإيثارك رضاه على محبوبات النفس.
أن تتوضأ
أن تغتسل من الجنابة..
ولذا عد النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله من الإيمان.
الكلمات التي تلقاها آدم: (( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ))[البقرة:37]، كلمات التسبيح والاستغفار والتوبة، وأن صدق الرجوع إلى الله يعيد العبد إلى ما كان عليه قبل الذنب وأفضل..
والكلمات التي تلقاها إبراهيم وابتلي بها: (( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ))[البقرة:124].
قيل: هي شرائع الإسلام، قال ابن عباس: [ ما ابتلى الله أحداً بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم، ولذا كتب الله له البراءة فقال: (( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفي ))[النجم:37] ].
ومنها: الابتلاء بذبح إسماعيل؛ الذي هو قمة الاستسلام لله، والطواعية لأمره، والرضا بحكمه.. (( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ))[الصافات:104-105].
ومن لطيف الابتلاء هنا دخول النظافة الجسدية في الأمر، كما قال ابن عباس: [ قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الشعر، وقلم الأظافر، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل الفرجين بالماء ].
وفي آثار عديدة أن إبراهيم هو أول من فعل ذلك، كما جاء عن سعيد بن المسيب وغيره.
الابتلاء إذا يكون بما تحبه النفوس وتميل إليه من ألوان التحسين، والتزيين، والتجمل، والطيب، واللباس.
كما يكون بما تكرهه النفوس وتتحاشاه، حتى يصل إلى الاختبار بتقديم طاعة الله على حب الولد..
ومن فرع ذلك المسؤولية الدنيوية بالرئاسة والإدارة، فهي أمانة في القيام بها، والعدل، وتجنب الفساد والإفساد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته )، فلم يقسم الناس إلى رعاة ورعايا، بل جعل كل امرئ راعياً ومسؤولاً، وليس احتسابه في الإصلاح تدخلاً فيما لا يعنيه، ولا افتياتاً، ولا إلغاء لمسؤوليات الآخرين، وإن كانت المسؤولية تتفاوت.
ولذا جاء في حديث رواه أحمد عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: ( ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل أو يوبقه الجور ) قال : بإسناد جيد ورجاله رجال الصحيح.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ).
متى يتولد هذا الإحساس النبيل بالمسؤولية؛ لدى معلم يشرف على عشرة طلاب في الفصل، أو رئيس يدير مجموعة من الموظفين، أو امرأة في منزلها، أو عسكري، أو مدني، أو كبير، أو صغير، أو وزير، أو أمير، أو حاكم.. لتكون الرقابة الأولى هي رقابة الله فوق عرشه بعلمه المحيط وسلطانه التام، وأين تهرب من ربك وهو في طريقك حيثما ذهبت؟ (( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ))[الفجر:14].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق