في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ظهرت أثيوبيا كقوة عظمى في شرقي أفريقيا، وذلك إثر الحروب العدوانية والتوسعية التي قادها "الأباطرة الإثيوبيون"، النصارى، وبخاصة منليك الثاني (1889-1913)، العقل المدبر للإمبراطورية الأثيوبية، وذلك بمساعدة القوى الأوروبية الاستعمارية، أثناء هجمتها الشرسة على أفريقيا، قبل وبعد مؤتمر برلين الثاني 1884-1885، وهي الحروب التي أسفرت عن الاستيلاء على الأقاليم الإسلامية المجاورة، التي كانت جزءا من الممالك الإسلامية، التي حكمت هذه المنطقة، قرونا عديدة، بعد الإسلام، ومنها إقليم هرر، وإقليم أوجادين الصومالي، وإقليم أوروميو، ومنطقة الجالا، وغيرها. وهنا تبدأ حكاية هذا الإمبراطور المسلم.
بداية الحكاية:
كانت قبيلة الجالا، حينذاك، واحدة من أكبر القبائل المسلمة في الحبشة، وكانت قد اسلمت منذ قرون، على أيدي دعاة قدموا إليها من السودان واليمن والصومال، وكانت قد استقرت في الهضبة في بلاد الأمهرة، معقل النصارى، وكان زعيمها يدعى "الرأس" محمد علي. وكانت كلمة "رأس" العربية، تطلق في الحبشة، حينذاك، على أمراء المناطق. وبعد هزيمة منليك الثاني للرأس محمد علي، وإبادة وتشريد الكثير من أتباعه، أجبره على التنصر، وعلى تغيير اسمه إلى الرأس ميخائيل، فقبل بذلك ظاهريا، فيما يبدو، حفاظا على حياته، لان رأسه كان على المحك، وكانت سياسة أباطرة الحبشة، آنذاك، تجاه المسلمين، هي التنصر أو القتل أو التشريد. وكان الإمبراطور منليك الثاني، معجبا بالرأس ميخائيل، عدو الأمس، لشجاعته وبسالته، ولذلك فقد جعل منه، بعد تنصره، يده اليمنى. ولم يخيب الرأس ميخائيل ظن الامبراطور فيه، فقد أظهر قدرات كبيرة في حروبه ضد الإيطاليين، بل حتى ضد المهدويين السودانيين المسلمين، وصار رأس حربته في حروبه التوسعية في المنطقة، الأمر الذي عزز من مكانته لديه، وزاد من ثقته به، وجعله يتمسك به أكثر فأكثر. ولضمان ولاء الرأس ميخائيل، وربطه بالبيت المالك، بعد أن أحتل تلك المكانة، فقد زوجه الإمبراطور منليك الثاني ابنته (أرجاس)، فانجبت له، ليج أياسو عام 1895، فكان طبيعيا أن ينشأ الفتى في وسط ملوكي نصراني صرف. وفي عام 1909، اشتد المرض بالإمبراطور منليك الثاني، ولما لم يكن له أبناء ذكور، بحيث يتولى أحدهم الملك من بعده، فقد عهد لابن ابنته (ليج أياسو)، بولاية العهد، وبعد ذلك بأربعة أعوام، وتحديدا في عام 1913، مات الإمبراطور منليك الثاني، فاعتلى ليج أياسو العرش، خلفا له، دون أية عقبات أو معوقات، وكان عمره وقتها في حدود 19 عاما.
تحول ليج أياسو إلى الإسلام:
ولم يمر وقت طويل، حتى بدأ ليج أياسو في إظهار الشعائر الإسلامية، والميل نحو المسلمين، والتزوج من فتيات مسلمات، دون أن يعرف أحد، هل كان ذلك نتيجة لأن والده ظل معتنقا للإسلام سرا، وجعل ابنه ينشأ عليه، أو أن فطرته قد هدته لاعتناق الإسلام، دين اسلافه، هذا الدين الذي كانت الحرب عليه شديدة جدا في تلك المنطقة، حينذاك، وكان هو العدو الإسترتيجي للطبقة الأثيوبية النصرانية الحاكمة، والكنيسة الحبشية الأرثوذكسية. والمهم أن هذا الإمبراطور الشاب، أظهر الإسلام، ولبس العمامة، على طريقة السلاطين المسلمين، واخذ يربط نفسه بالعالم الإسلامي، وأعلن نفي صلته بالبيت السليماني، واتخذ لنفسه، بالمقابل، نسبا يعيده إلى أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، ونقل قاعدة حكمه إلى مدينة هرر الإسلامية، واستبدل علم الإمبراطورية بعلم في قلبه الهلال بدلا عن الصليب، وأرسله إلى القنصل العثماني، في أديس أبابا، بل إنه اتصل بالشيخ محمد عبد الله حسن، والذي كان يقود ثورة إسلامية ضد الانجليز، في شمالي الصومال، وعبر له عن دعمه ومساندته، فقد كان ليج أياسو معارضا لسياسات القوى الاستعمارية، التي كانت قد أطبقت على منطقة القرن الأفريقي وشرقي أفريقيا، حينذاك، ومشجعا على تحالف القبائل الإسلامية ضدها. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وقع ليج أياسو اتفاقا مع تركيا، ومال إلى جانبها في الحرب بحكم صلات العقيدة. وخشي رجال الدين المسيحي، ونبلاء الأمهرا، من تحول الأحباش إلى الإسلام، وبالتالي، تحول الحبشة إلى مملكة إسلامية، بسبب هذا الإمبراطور، الذي أعلن إسلامه، واخذ يلتصق بالقبائل المسلمة، ويكشف عن استبداد وظلم الكنيسة، وعوار النظام الملكي البالي، وكيف أن قلة قليلة من النبلاء ورجال الكنيسة، يستأثرون بالخيرات، دون باقي فئات الشعب، والتي تركت فريسة للفقر والحرمان والجهل والأوبئة الفتاكة.
موقف النصارى والقوى الأوروبية:
ولكل ذلك، فقد تكالبت على ليج أياسو قوى الشر وعلى رأسها الكنيسة الحبشية، ونبلاء الأمهرا، والقوى الأوروبية، ممثلة في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. فقد اعتبره نبلاء الأمهرا ورجال الكنيسة، خائنا، وأعلنو الحرب ضده، سرا وعلنا، ووصلت صيحة الفزع إلى الفاتيكان في إيطاليا، وأعلن البابا أن زعماء نصارى الحبشة في حل من قسم الطاعة لهذا الإمبراطور. وبدأت الدسائس حول ليج أياسو تعمل عملها، وأخذ القناصل الأوروبيون يضغطون عليه، ويثيرون حوله كل ما يمكن أن يهز صورته وعرشه، تمهيدا للإطاحة به، وتحطيم مشروعه. وبلغ التصعيد ضده ذروته، عندما أصدر الأساقفة بزعامة البابا ماتيوس بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، قرارا بحرمانه من التاج، وعزله عن كرسي الملك، بتهمة الكفر، والارتداد عن الدين المسيحي، واعتناق الإسلام، فتم الإعلان عن خلعه رسميا في 27 أيلول 1916، بمشاركة خالته زواديتو الابنة الثانية للإمبراطور منليك الثاني، والتي جرى تنصيبها، إمبراطورة بدلا عنه، تحت وصاية ابن عمها الرأس تفاري مكونن (الامبراطور هيلاسي لاسي، فيما بعد). وكان ليج أياسو وقت خلعه متواجدا في هرر، ولما بلغه ما جرى، جمع أنصاره وتوجه على رأسهم إلى العاصمة أديس أبابا سيرا على الأقدام، ليضع حدا لذلك، واشتبك مع القوة التي أرسلت لاعتقاله، لكنه هزم بعد معركة طاحنة مع تلك القوات، بيد أنه أفلت من محاولة القبض عليه، وعاد لتجميع أنصاره من جديد، والتحضير لهجوم جديد على سلطة الانقلاب، داعيا القبائل الإسلامية في المنطقة إلى التكاتف، والوقوف إلى جانبه، بيد أن الهزيمة لحقت به مرة أخرى، في أغسطس 1917. وذلك أن مناشداته للقبائل الإسلامية، لم تجد الاستجابة الكافية، وبخاصة لدى زعماء قبيلة الأورومو، أكبر قبائل أثيوبيا، بل إن هؤلاء لم يكتفوا بخذلانه، وإنما أنضم العديد منهم إلى جانب أعدائه النصارى.
الامبراطور المخلوع المطارد:
وبعد تلك الهزيمة الأليمة، أضطر ليج أياسو إلى الفرار، وأخذ يتنقل بين قبائل الدناكل والعفر، حتى استقر لاجئا لدى سلطان سلطنة أوسا، يايو محمد حنفري (1910-1927)، أحد سلاطين العفر. ولما رفض هذا السلطان تسليمه للسلطات الأثيوبية، أعلنت هذه الأخيرة عليه الحرب، وفي مارس 1919، غزت القوات الأثيوبية سلطنة أوسا، وقامت بتمشيطها منطقة منطقة بحثا عن ليج أياسو، وأثناء ذلك، قامت هذه القوات بقتل الناس على الهوية، ونهب الماشية، وحرق البيوت والزروع والمخطوطات الإسلامية، وفعلت الأفاعيل، بأهلها المسلمين، لتأييدهم له، ولكنها أخفقت في القبض عليه، وذلك أن السلطان كان قد آثر الانسحاب "تكتيكيا"، نظرا للفرق الهائل في ميزان القوى، ولجأ هو وضيفه، إلى بلدة في أطراف البلاد عصية على القوات الأثيوبية، تدعى (بلحو). لكن القوات الأثيوبية سرعان ما انسحبت من أراضي سلطنة أوسا، نظرا لتفشي الأوبئة في صفوفها، لذلك لم يلبث السلطان أن عاد إلى قاعدته، ومعه ليج أياسو، بعد أقل من ثلاثة أشهر من مغادرتها. ولما لم تكن ظروف هذا السلطان تسمح بالدخول في حرب ضد الإمبراطورية الأثيوبية، فقد آثر ليج أياسو مغادرتها، والبحث عن حلفاء جدد، في الهضبة الحبشية، وكانت عيون السلطات الأثيوبية، آنذاك، تترصده، ولذلك جرى اعتقاله في منطقة التجراي، في يناير 1921، قبل أن يعثر على ذلك الحليف، ليتم تسليمه بعدها، إلى عدوه اللدود، الرأس تفاري، الوصي على العرش، والحاكم الحقيقي لأثيوبيا، لينتهى به المطاف سجينا في قلعة بجنوب أثيوبيا على الحدود مع كينيا، قبل أن يقوم الامبراطور هيلاسي لاسي، الذي جلس على عرش أثيوبيا رسميا عام 1930، بتصفيته عام 1935. وهو العام الذي غزت فيه إيطاليا الفاشية الحبشة. وهكذا انتهت حياة هذا الإمبراطور المسلم، الذي لاتزال قصته تثير الجدل، حتى اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق