تقنيات التجديد لعلم “الإيمان والتوحيد”
د. عطية عدلان
من التقليد والترديد إلى التجديد والتوليد؛ ينبغي أن نحقق في عصرنا هذا الانطلاقة الكبرى والنَّقْلَة العظمى في علم “الإيمان والتوحيد”، لا نريد تَفَلُّتًا من ثوابت عقيدتنا، ولا تَمَلُّصًا من حقائق ديننا، كلا ولا نَنْتَحِي التقليد لمناهج أولئك المناكيد، الذين ما أرادوا من التجديد إلا إفراغ النصوص من محتواها، وإسباغ الشكوك فوق مغزاها وفحواها، ولكن نريد استدعاء التليد المجيد في ثوب قشيب جديد، فما ضَلّت أمتنا بعد هدى، ولا تاهت في الشعاب والأودية بعد طول رشاد وسداد، ولا خارت قواها وانهارت عزائم رجالها بعد أمد غير قصير من العزّ والتمكين؛ إلا يوم أنْ تحول التوحيد والإيمان فيها إلى “كلام!” تتنازع فيه الأفهام، وتتناوش حوله الألسنة والأقلام، وإلى “عقائد!” يتخذها قوم ذريعة للإبعاد والإقصاء، ويمتطيها آخرون لبلوغ الآراب وإشباع الأهواء.
إنَّ أمتنا اليوم – رغم آلامها الجارفة وجراحها النَّازفة – تستشرف من بعيد تحولا حضاريا هائلا، وتتطلع إلى تحقيق وعد الله الذي لا يُخْلَف: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5)، فهي – إذن – بحاجة إلى طاقة إيمانية جبارة، هذه الطاقة لا توجد إلا في نصوص حالت بيننا وبينها جبال وتلال من العلوم التي ذهبت في الترف العقليّ إلى أبعد مدىً، واستغرقت مع الفعل الفلسفي ورد الفعل السلفي إلى أن غرقت في لُجّة من الجدل الفارغ واللجاج الأجوف؛ حتى غدونا وبيننا وبين قوى الدفع العظيمة في ديننا كَمَا بين السهول الخصبة والأنهار العذبة الرطبة من جبال شمَّاء وجسور صمَّاء.
نحن بحاجة إلى التجديد في علم الإيمان والتوحيد، ولن يتسنى لنا التجديد إلا بعودة ميمونة إلى القديم التليد، إلى النبع الذي منه استمد الجيل الأول طاقته الخلاّقة التي بها طوى الأرض وزوى المشارق والمغارب في أقل من ربع قرن من الزمان، هل نستطيع أن نفجر النبع من جديد؟ صحيح أنّ الآيات والأحاديث بين أيدينا غضة طرية لم تحرف ولم تبدل ولم تعمل فيها عوامل التلف والبِلَى، لكنّنا نحن لم نعد في وضع يؤهلنا للانطلاق منها؛ فلقد ترسبت في أذهاننا ومشاعرنا طبيعة أصابتنا بالجمود والتحجر، وأضعفت أجهزة الاستقبال تجاه عطاءات الأحاديث والآيات.
وعلى الرغم من ضخامة التحول، لن نجد صعوبة في الانتقال السريع من النهج العقيم السقيم في تناول العقيدة إلى النهج السوي القويم في التأثر والانفعال بها؛ لأنّ النصوص حاضرة وذاخرة، ولأنّها موافقة تمام الموافقة ومتسقة غاية الاتساق مع الفطرة التي فطر الله العباد عليها، ولسبب آخر ربما يغفل عنه الكثيرون، وهو أنّ الأمة توَّاقةٌ إلى ذلك العهد وإلى كل ما كان فيه من مؤهلات خارقة نقلت الأمة ونقلت معها البشرية نقلة بعيدة لم تكن لتخطر على بال إنسان.
لذلك ستكون الإجراءات التي نتخذها والتقنيات التي نسلكها ونتبعها سهلة وبسيطة وتلقائية، ولن نضطر إلى ركوب متن المعاظلة التي اضطر إليها الحداثيون أصحاب الهرمونيطيقيا والفلولوجيا والسيميائية وغيرها من تقنيات الحداثيين؛ لأنّ هذه التقنيات الخشنة الغليظة لا تناسبنا ولا تلائم تراثنا، وإنّما تناسب الغرب وتلائم تراثه كله؛ لأنّ تراث الغرب بما فيه الكتب المقدسة غارق تحت ركام الأحداث البركانية المدمرة والانكسارات التاريخية الحادة، غائص في ظلمات المجهول الغريب المريب، أمّا عندنا فلا تجدي هذه التقنيات منفعة ولا تخلو من مضرة؛ لأنّ تراثنا مُوَثَّق بأعلى مراتب التوثيق، ولأنّ مجتمعاتنا لم تَغْتَرب عن تراثها، ولم تُصَب بزلازل تفصلها شعوريا أو مفاهيميا عن النبع الصافي.
يجب علينا – أولا وقبل كل شيء – أن نستقي الإيمان والتوحيد من نصوص القرآن والسنة بشكل مباشر، دون قولبة كلامية، ودون تلك المعاظلات الفلسفية، وأن نعتمد في هذا على التفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم وعلى الدراسة الموضوعية للسنة الشريفة، وأن نستصحب أثناء قيامنا بهذا الاستقاء والاستمداد السيرة العملية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام؛ لنربط بين النص وما أحدثه في الواقع من أثر مباشر، وهذا يستلزم بطبيعة الحال الخروج من الأطر الشكلية والموضوعية التي اعتقلت التفسير في قلاع الأكاديميا والتنظير.
أمّا اللغة فهي لغة القرآن، لغة قريش التي تحدث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت قد استوت بعد أن اصطفت على مرّ العصور صفوة كلام العرب، ونفت خشنه وغريبه وتحاشت وحشيه وغليظه، هذه اللغة زادها القرآن وثوقا وتوثيقا، وزادها الجيل الأول شهرة ونصاعة باستعمالاته وتفاعلاته، فالاعتماد على هذه اللغة ولاسيما باستصحاب معالجات من تفاعلوا بها مع النص وتلقوا بها الوحي أمر يكاد يكون ضروريا وحتميا، ولا ننسى الشعر الذي واكب التنزيل وسبقه بزمن غير قليل؛ فهو ديوان العرب، ومنه يهتدي الباحث في مكونات النص إلى المعنى وما وراء المعنى من فحوى ومغزى.
وأمّا الأبستمولوجيا التي بمنظورها نستخرج الأحكام ونستخلص الحقائق من النص المقدس فهي كامنة في عقل الأمة وفي نصوصها المقدسة، وفي طرائق الجيل الأول في النظر والاستدلال، وهي التي لم يضعها الشافعيّ والأصوليون الأوائل، وإنّما اكتشفوها بتتبعهم لفتاوى السلف ودراستهم لطرائقهم، ورتبوها وبلوروها وقدموها للأمة في مؤلفات مفردة، وهي وإن كانت تحتاج إلى مزيد من التهذيب والتشذيب صالحة لفهم النَّصِّ واستخراج الحقائق والأحكام منه، أمّا ما دخل من علم الكلام القياسيّ والمنطق الصوريّ فلا نأخذ منه إلا بالقدر الذي لا يعكر المنبع ولا يكدر صفوه.
تلك كانت (التقنية الأولى) لممارسة التجديد في علم الإيمان والتوحيد، وهي تقنية لابد من اتباعها كذلك للتجديد في علم التفسير الذي يُعَدُّ الظهير الأول لكل العلوم الشرعية، وعلم شرح الحديث الذي يُعَدُّ الظهير الثاني لها جميعا، لابد من التخلص من كثير من قواعد المنطق الصوري الجافة وقوالب علم الكلام الأكثر جفافا، والاكتفاء بالقواعد والأصول التي اهتدى إليها الأوائل منذ عهد الشافعيّ وقبله وبعده بقليل، تلك القواعد والأصول التي لم يجلبوها من ثقافة غريبة ولا من أيديولوجيات بعيدة.
أمّا (التقنية الثانية) فهي إلغاء المسافة التي وضعت بلا مبرر بين الإيمان والتوحيد وبين الآثار التي أنتجها الإيمان والتوحيد في واقع الحياة؛ إذْ ليس ثَمَّ مبرر لهذا الفصل المعتسف وهذا الفصام المفتعل، إنّ آيات القرآن لم تفصل بين الإيمان وأثره في الحياة؛ فلماذا نفصل نحن؟! قد يحملنا المنهج العلميّ على الفصل بين التخصصات؛ لتمييز العلوم بعضها عن بعض، ولأغراض أخرى منهجية، وهذه ضرورة لا مفر منها، ولكن ما الذي يحملنا على فصل أعضاء العلم الواحد وتمزيقها؟ وما الذي يجعلنا نقدم العلم الواحد للناس أصولا بلا فروع، وجذوعا بلا أغصان، إنّ الإيمان وأثره في السلوك الإنسانيّ علم واحد ونسيج واحد؛ لذلك جاء في السياق القرآنيّ سبيكة واحدة متماسكة.
ولا أعني بذلك الدمج بين علميّ الإيمان والتزكية، ولا تذويب علوم التربية والتزكية والسلوك والتصوف في علم الإيمان والتوحيد، فإنّ تلك العلوم لها تفاريع كثيرة غاية في الأهمية؛ وتستحق أن تفرد بالاهتمام المنهجيّ، وتحتاج هي الأخرى إلى تجديد يعيد ترتيبها وتبويبها في ضوء ما استجد من معارف سيكولوجية وسسيولوجية وأنثروبولجية وغيرها مما له دور كبير في التنمية البشرية، لكنّ الذي أعنيه هو الإبقاء على الخط الواصل بين الإيمان وأثره؛ للحيلولة دون تقلص الإيمان في الأذهان وتحوله بمرور الزمن إلى قناعات عقلية جامدة وباردة وباهتة، لا يعدو أثرها مجرد الفعل الآليّ لما يقتنع المرء به.
وبالمثال يتضح المقال؛ يقول الله تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)) (المؤمنون: 84-89)، فهذه الآيات تُبرز صورة من صور الربوبية وآثارها في الوجود، انظر كيف سيقت الحقائق الإيمانية في موجات متتابعة؟ وكيف ختمت كل موجة منها بما ينتج الآثار الإيمانية؟: (أفلا تذكرون) (أفلا تتقون) (فأنّى تسحرون)، إنّه الربط بين الربوبية كأحد مكونات الإيمان وبين ما تنتجه في واقع الناس من أثر، وتكاد جميع المواضع التي تحدث القرآن فيها عن الإيمان والتوحيد على كثرتها وامتدادها تكاد كلها لا تخلوا من هذه الظاهرة اللافتة للنظر؛ فما الذي يجعلنا نغفل عن هذه المنهجية القرآنية؟ لماذا لا ننسج على منوالها في تناولنا لعلوم الإيمان والتوحيد في خطابنا الشرعيّ؟
ثم إذا أعدنا النظر في المثال السابق من سورة المؤمنون، سنجد ظاهرة أخرى متكررة في كتاب الله بذات الطريقة التي تكررت بها الظاهرة السابقة، وهي ربط حقائق الإيمان بالظواهر الكونية، وهذه هي (التقنية الثالثة) من تقنيات التجديد في علم الإيمان والتوحيد، إنّ ربط القرآن الكريم بين حقائق الإيمان وبين مظاهر الربوبية في هذا الكون لها حكمة عظيمة، فالإنسان جزء من نسيج هذا الكون، وهو – وإن كان مفضلا مكرما مميزا بين مخلوقاته – محاط به لا يخرج منه ولا يند عنه؛ والاتصال بين الإنسان وبين ما حوله من كائنات ومخلوقات وظواهر وآيات اتصال وثيق متين؛ فقيام الإيمان على دعم هذا الاتصال يقويه ويقوي به أثر الإيمان في النفس الإنسانية التي هي قطعة لا تنفصل عن هذا الكون.
وإنّ لدينا فرصة عظيمة في ذلك التقدم العلميّ الهائل، ونحن أسعد بهذا التقدم من غيرنا، حتى من الذين سبقونا إليه؛ لأنّنا لدينا كتاب الله الذي تزداد حقائقه رسوخا وشموخا وتغلغلا في الضمير البشري وفي الشعور الإنسانيّ بازدياد هذا العلم واتساعه، فإذا قال الله عزّ وجلّ لنا في سياق آيات ترسخ الإيمان بعظمته وقدرته وربوبيته: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40)، ورأينا بمنظور العلم الحديث كل الأجرام الكونية من الذرة إلى المجرة تدور بطريقة واحدة في أفلاكها؛ ازداد يقيننا وقوي إيماننا، وتغذى شعورنا وإحساسنا المرتبط بهذا الكون من حولنا ارتباطا وثيقا، تغذى بالطاقة الإيمانية الدافعة.
وتأتي (التقنية الرابعة) لتشكل مع الثانية والثالثة مثلت التأثر، فعندما يتم الربط بين الإيمان والتوحيد وبين أثرهما في الحياة، ثم الربط بينمها وبين آيات الله الكونية، ثم يتم تقديم هذه المادة الإيمانية المترابطة كما يقدمها القرآن في خطاب متعدد التأثير، يخاطب العقل والوجدان والحس والشعور، ويأخذ الكينونة البشرية من جميع أطرافها؛ عندئذ يبلغ التأثير بخطاب الإيمان مبلغا عظيما، هذه التقنية تتعلق بطريقة التناول، التي لا تخاطب العقل وحدة بجمل علمية جافة، ولا تخاطب الشعور والوجدان بكلام شعري يثير العاطفة دون أن يحرك العقل الواعي، ولا تخاطب الحس الغليظ والجسد المادي بما يلبي الغريزة ولو تعارض مع القيم، وإنّما يخاطب الإنسان بما أنّه إنسان، يخاطبه بكل قنواته وأجهزة استقباله.
ولقد استوقفني كثيرا قول الصحابيّ الجليل جبير بن المطعم بن عديّ عن ذكرياته مع أول آيات سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ربما كانت سببا في فتح منافذ قلبه للإسلام، قال: “سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ …} كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ” (صحيح البخاري برقم 4854) وساعتها مَرَّرْتُ على ذهني معنى الآية الأولى (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) في قالب جدلي هكذا: إنّها احتمالات ثلاثة لا رابع لها، فإمّا أن يكونوا قد خُلِقوا من غير خالق خلقهم، وإمّا أن يكونوا قد خَلَقوا أنفسهم، وإمّا أنّ خالقًا خلقهم، فأمّا الاحتمال الأول فهو باطل عقلا، وأما الثاني فهو باطل حِسًّا، وببطلان الأول والثاني لا يبقى إلا الثالث، وهو أنّ خالقا خلقهم وهو الله تعالى، وقلت عندئذ: سبحان الله كم هو سياق – على ما فيه من شقشقة منطقية – باهت وبارد وجاف ومجدب! أمّا الآية الكريمة فبرغم الإيجاز الشديد قدمت المعنى كاملا لكن في لغة رقيقة مؤثرة وأسلوب إنشائي غاية في الإثارة، فلماذا لا ننسج على نفس المنوال؟ ولماذا لا نعول كثيرا على طريقة القرآن في عرض الإيمان بخطاب شامل لكل المؤثرات؟!
أمّا (التقنية الخامسة) فتتمثل في الكفّ عمّا كَفَّ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف هذه الأمة؛ لأنّهم لم يكفّوا عنه غفلةً ولا جهلا ولا إهمالا؛ إذْ يستحيل هذا على رسول الله وعلى الجيل الذي تلقى منه مباشرة، وإنّما كفوا عنه لعلمهم أنّ الخوض فيه لا جدوى منه ولا نفع فيه، ليس هذا وحسب بل وفيه المضرة البالغة والمفسدة الغالبة، فلم يسأل أحد من الصحابة رسول الله، ولم يسأل رسول الله ربّه، لم يسألوا ولم يستخبروا عمّا أخبر القرآن به من الغيب :كيف هو؟ لم يمارسوا مع الله تلك الحالة الجدلية التي مارسها بنوا إسرائيل مع الله عندما أمرهم أن يذبحوا بقرة، بل اكتفوا بما جاءهم به الوحي في شأن الغيب؛ لذلك سمي بالسمعيات؛ لأنّ طريق العلم به إنّما هو السماع من الوحي فقط، وكفّوا عن الخوض فيه فكانوا حقّا كما أخبر القرآن: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).
وعندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وهم يتحاورون ويتجادلون في القدر بحثا عن سره ومحاولة لاستكناه حقيقته، هل خاض معهم وحاول تصويب آرائهم؟ أم أقرهم على ذلك وسر بهم، كلا، وإنّما كان التشنيع والتفظيع لما فعلوا، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، وقال: (ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم ) مسند برقم (6668).
وعندما أخبرهم القرآن بأنّ الله تعالى سميع بصير وأنّه فعال لما يريد وأنّ القرآن كلامه وأنّه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش؛ لم يسألوا كيف سمعه وبصره، لم يسألوا عن كلام الله أهو قديم بقدم الله أم إنّ الله متكلم بما يشاء وقتما شاء، ولم يسألوا عن الاستواء: أكان استواء لا يشبهه فيه استواء المخلوق أم كان استيلاء واستحواذا وسطانا، لم يسألوا في ذلك ولا في غيره مما تكلم فيه المتكلمون بالفعل أو برد الفعل، بالفعل كما فعل المتكلمون والفلاسفة أو برد الفعل كما اضطر إليه الأثريون والسلفية، وربما أدرك مالك أواخر الصفاء وأوائل التكدير عندما سأله شاب: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه: 5)، كيف استوى، فقال مالك: “الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة” وطرده من مجلسه؛ لأنّه آنس منه استحداثا غير مستحسن.
لقد تلقى الصحابة من الوحي أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، فلم يسألوا! أَوَسِعَهم ألا يسألوا؟ أَوَسِعَهم جميعا – وهم الجيل الذي يستحيل أن يجتمع على ضلالة – أن يكفّوا عن السؤال وأن يكتفوا بما علموه من الوحي؟ أَوَسِعَهم أن يؤمنوا بما أخبرهم الله تعالى من أسمائه وصفاته، دون أن يخوضوا فيما وراء ما جاء به القرآن من التفاصيل المملة، التي خاض فيها من بعدهم، فلم تَزْدَد بها الأمة الا تفرقا ولم تَزْدَد بها الأجيال إلا وسوسة وتشككا؛ أَوَسِعَهم ذلك أم لم يَسَعْهُم؟ والجواب بالقطع: أَجَلْ .. وَسِعَهُم، وهنا ينشأ السؤال الذي يتوجه بحد نَصْلِه إلينا: أفلا يَسَعُنا ما وَسِعَهم؟!
أجل .. يَسَعُنا ما وَسِعَ الصحابة، يَسَعُنا ما وَسِعَهم وإلا فَلْنبحث لنا عن جيل أخذ الدين عن رسول الله غيرهم، وأين نجده؟ إنّ الأمة لم تكن بحاجة إلى تلك الدراسات التي غاصت بالعقل المسلم فيما وراء الكون؛ لِتَسْتَكْنِهَ حقيقة القدر أوّلًا، ثم لتبحث في حقيقة كلام الله ثانيا، ثم لتغوص في تفاصيل كلامية جدلية عن صفات الله وأسمائه ثالثا، ثم لتتقسم الأمة إلى “أشعرية” و”ماتريدية” و”سلفية أثرية”، كل يدعي احتكارا لاسم أهل السنة والجماعة، حتى كادت الأجيال تنسى الاسم الذي رضيه الله لنا فأوحى به لإبراهيم ثم إلى محمد: (هو سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج: 78).
إنّ الحداثيين الذين يزعمون أنّ إشكالية التراث الإسلاميّ بدأت بوضع الشافعيّ للأبستولوجيا الاتّباعية، وأنّ قَرْنَيّ الاعتزال والكلام والفلسفة أسَّسا للأبستمولوجيا الإبداعية، إنّ هؤلاء الحداثيين يقلبون الحقائق، ويزورن التاريخ، وإنّ تاريخ الثقافة الإسلامية لم يمرّ بمنعطف أهال التراب وأثار الدخن على تراث الأمة كذلك المنعطف النَّكِد الذي عاصر الترجمة للتراث اليوناني والروماني وشهد الاعتزال والفلسفة والكلام، إنّ أمتنا لم تكن في ميادين الشريعة كلها، ولاسيما ميدان علم الإيمان والتوحيد – الذي سمي بعد تفرق الأمة بعلم “العقائد!” – لم تكن بحاجة إلى تراث الإغريق ولا الرومان؛ لأنّه لم يكن يبعد كثيرا عمّا هدمه القرآن من تراث الجاهلية، كما أنّ أمتنا اليوم ليست بحاجة إلى تقوية علوم الإيمان بدعم الفلسفات المعاصرة التي خاضت في الإلهيات، إنّما حاجتنا تمثلت قديما وتتمثل حديثا في العلوم الكونية والرياضية وأمثالها مما لا يتعارض ولا يتصادم مع معطيات ديننا العظيم.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَرُدّ أمته في شأن من شئون دينها إلى تراث أهل الكتاب؛ فأولى بنا ألا نبحث في تراث الإغريق الوثنيين ولا الرومان الطغاة الظالمين عن شيء من أمر ديننا، بل المشهور عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يغضبه إلى أن يبلغ الغضب منتهاه أن يجد أحدا من الصحابة يحتفي برقعة فيها شيء من التوراة المحرَّفة، عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب وقال: (أَمُتَهَوِّكُون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به، أو بباطل فتصدِّقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا، ما وسعه إلا أن يتبعني) (رواه أحمد في مسنده برقم: 15156).
و(التقنية السادسة) تتمثل في تحويل مجرى القصص القرآنيّ ليصب في نهر الإيمان والتوحيد؛ لأنّه لهذا أُنزل، فمعركة الإيمان والتوحيد مع الكفر والشرك دارت رحاها بعمقها التاريخيّ في كتاب الله، وكان ميدانها الكبير هو قصص الأنبياء مع أقواهم، لذلك لا يمكننا فهم مفردات الإيمان والإسلام والعبادة والألوهية والربوبية والتوحيد فهما عمليا مؤثرا إلا من خلال التجربة الواقعية التي سلكتها الإنسانية بهذه المعاني، عبر أحداث الرسالات ومواقف الأمم منها، بما في ذلك أحداث السيرة النبوية.
صحيح أنّ قصص الأنبياء مبثوثة في كتب التفاسير، وفي المؤلفات التي أفردها بعض العلماء لها، لكنّ تناولها من خلال درس الإيمان والتوحيد سيكون له أثر عمليّ وعلميّ كذلك، لأنّه يحول المفاهيم والمعاني إلى صور حركية تلامس الواقع، فكأنّ القصص تطبيق للقواعد العلمية والحقائق النظرية الدائرة في فلك الإيمان والتوحيد، فنحن لن ندرك حق الإدراك وتمام الإدراك حقيقة التوكل وتفويض الأمر لله حتى نتمثل المعنى ساريا في موقف هود: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود: 56)، وفي موقف شعيب: (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (الأعراف: 89)، وفي موقف المؤمنين الحنفاء: (وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم: 12)، وهكذا في جميع المعاني الإيمانية، التي بنيت على حقائق إيمانية، والتي لها دورها الكبير في بناء الشخصية المؤمنة.
وتأتي (التقنية السابعة) في تحديد الموقف من التراث الإسلاميّ في مجال الإيمان والتوحيد، فأمّا ما كان منه في القرون الأولى قبل دخول الكلام والفلسفة وقبل ترجمة الثقافات الدخيلة وقبل بدعة الاعتزال وما تلاها؛ فهو مظنّة الاستفادة الكبيرة، لكن مع ترتيبه وتبويبه بكل معاصر، ومع إلباسه ثوب المعاصرة، من حيث الاهتمامات والأساليب، وأمّا ما كان بعد ذلك مما تفرقت فيه وبه الأمة؛ فيبقى تراثا ثقافيا يدرس في أروقة الأكاديميا كعلم من العلوم التاريخية التي يستفاد بها في تنمية العقل وتغذية الفكر.
ولا يصح أن نوالي أو نعادي عليه، لاسيما ما دار في الدائرة الواسعة لأهل السنة، فمثلا: الأسماء والصفات إذا أمعنا النظر في إنتاج كل فصيل من فصائل أهل السنة وجدناهم جميعا طلبوا أمرين صحيحين، طلبوا التنزيه والإثبات، أي تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات، وإثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، ونجدهم يبغون تنزيها بلا تعطيل وإثباتا بلا تمثيل، غير أنّ الأشعرية مثلا غلب عليهم التنزيه فوقعوا في بعض التعطيل، وأنّ السلفية غلب عليهم الإثبات فوقعوا في بعض التمثيل، والكل مجتهد مغفور له، وما جرهم جميعا إلى هذا الغلو إلا ما فتحته المعتزلة والفلاسفة من نقاشات وشبهات حول هذه الأمور الشائكة، وقد كانت الأمة غنية عن كل هذا؛ لأنّ الإسلام نفسه مستغن في خطابه الصافي عن الخوض في أي شيء من هذا، ونحن اليوم في حاجة إلى الانطلاق من قيود هذا الركام وأغلاله.
قد يفهم من هذا أنّها دعوة إلى تحويل علوم العقائد إلى مواجيد ومواعظ، وقد يفهم أنّها ليست سوى عملية دعم للتزكية بحقائق الإيمان والتوحيد ومفردات العقيدة، وربما فهم البعض أنّها عملية تسطيح تبتعد بالعلم عن العمق العلميّ، وكل هذا وارد حصوله نظريا ووقوعه عمليا إذا لم نفهم المراد فهما صحيحا أو إذا لم نسلك إلى تحقيقه سبيلا قويما، نحن لا نريد إلا استعادة هذه العلوم في صورتها الأولى مع تقديمها في ثوب جديد، وهذا لا يتم إلا بنفض ما علق بها مما ليس منها بمر الزمان، وذلك الذي استفضنا آنفا في الحديث عنه، بل إنّ الاستغراق في المباحث الكلامية والتشقيقات الفلسفية هو الذي صرف الأمة عن التعمق الحقيقيّ المنتج للمعاني والمثري للأفكار الناهضة الوثّابة، والله وحده هو المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق