مصر.. "حوار وطني" على مقاس السلطة
خليل العناني
في أواخر أبريل/نيسان الماضي دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى حوار وطني شامل مع "جميع القوى السياسية من دون استثناء أو تمييز"، وهي الدعوة التي أثارت، ولا تزال، كثيرا من الضجة على وسائل التواصل الاجتماعي وبين المراقبين السياسيين؛ فهي المرة الأولى منذ 2013 التي يدعو فيها السيسي إلى مثل هذا الحوار.
وبينما رحبت بعض القوى والشخصيات السياسية بالدعوة، ظل آخرون مشككين في أنها ستؤدي إلى أي تغيير حقيقي أو إمكانية أن تحقق اختراقًا في المأزق السياسي الذي تعيشه مصر منذ عام 2013. وهي الدعوة التي تثير أيضا جملة تساؤلات حول توقيتها ودوافعها، وإذا كانت خطوة حقيقية أم تكتيكًا سياسيا يستهدف التخفيف من الضغط الاقتصادي والاجتماعي المتزايد الذي يواجهه النظام المصري.
منذ الانتخابات الرئاسية في 2014 مارس النظام المصري كثيرا من التضييقات على المعارضة السياسية، والتجريم لأي أصوات تنتقد أو تعارض سياساته، فالنظام يرى أن المعارضة السياسية تشكل تهديدا للأمن القومي المصري وتقوّض قدرة الدولة على الحكم؛ ومن ثم فمن الواجب الوطني إبقاؤها تحت السيطرة. ولذلك فعلى مدى السنوات الثماني الماضية، قامت المؤسسة الأمنية والاستخباراتية بإدارة المشهد السياسي والسيطرة عليه بأكمله؛ وذلك بهندسة برلمان خاضع بالكامل، والإشراف على وسائل الإعلام، العامة والخاصة، وتوجيهها إلى السيطرة والتدخل في شؤون الأحزاب السياسية.
فضلا عن ذلك، فإن النظام على قناعة بأن سياسته القاسية مسألة ضرورية للحفاظ على الاستقرار والأمن في مصر حتى لو كان ذلك يعني إلقاء الآلاف في السجون، لذلك على مدار السنوات الثماني الماضية تم تهميش المعارضة وقادتها، بمن فيهم أولئك الذين أيدوا إطاحة الجيش للرئيس السابق محمد مرسي عام 2013. في الوقت نفسه يخشى النظام من أن أي بادرة انفتاح سياسي أو حرية في التعبير والإعلام، حتى لو كانت محدودة، يمكن أن تقوّض حكمه كما حدث في 2011. لذلك، فإن الدعوة للحوار بعد كل هذه السنوات من الإغلاق والقمع السياسي تثير العديد من التساؤلات حول أهدافها وإذا كانت خطوة تكتيكية أم جادة.
يمكن تفسير الدعوة إلى الحوار الوطني هذه بمجموعة عوامل:
أولها وقبل كل شيء يتعلق بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي يواجهها النظام، بخاصة في ضوء الحرب الروسية المستمرة على أوكرانيا والتي لها آثار خطيرة على الاقتصاد المصري؛ فقد شهدت مصر منذ بداية العام مشاكل اقتصادية متعددة تراوح بين ارتفاع معدلات التضخم والزيادة الكبيرة في الدين الداخلي والخارجي، وانخفاض الاستثمارات المباشرة السابقة، وهروب مليارات الدولارات من الأموال الساخنة بعد تخفيض قيمة الجنيه المصري في مارس/آذار الماضي.
كذلك أدت الحرب في أوكرانيا إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية في مصر التي تعد أحد المستوردين الرئيسيين للقمح وزيت الطعام الروسي والأوكراني، وهو ما دفع إلى إطلاق الدعوة لحوار سياسي لتخفيف حدّة الاستياء الاجتماعي المتصاعد وتجنب أي اضطرابات اجتماعية أو سياسية قد تنجم عن هذه المشاكل.
ثانيًا، يتعرض النظام لضغوط دولية بسبب انتهاكاته المروعة لحقوق الإنسان؛ فعلى سبيل المثال دعت وزارة الخارجية الأميركية أخيرًا إلى "تحقيق شفاف وموثوق من دون تأخير" في الوفاة الغامضة للباحث الاقتصادي أيمن هدهود الذي توفي أثناء احتجازه في مارس/آذار الماضي. كذلك من المتوقع أن تستضيف مصر مؤتمر المناخ أواخر هذا العام، ويأمل النظام من خلال الدعوة للحوار بتخفيف الضغط عليه فيما يخص ملف حقوق الإنسان.
ثالثًا، تسعى مصر للحصول على حزمة دعم مالي أخرى من صندوق النقد الدولي، والمفاوضات جارية حاليا بشأن قرض جديد بين الطرفين، لذلك فإن فتح المجال السياسي وإشراك بعض الشخصيات المعارضة في الحياة السياسية يمكن أن يُنظر إليه من قبل المانحين الدوليين على أنه علامة على التغيير السياسي الذي قد يعزز موقف الحكومة المصرية في المفاوضات.
وأخيرًا، ثمة تكهنات بخطط لإجراء تغييرات جديدة على الدستور تسمح للرئيس بالبقاء في السلطة مدى الحياة. فبموجب الدستور الحالي، لا يمكن له البقاء أكثر من فترتين كل منهما 6 سنوات، لذلك يأمل النظام من خلال الحوار الوطني أن يتمكن من تمرير هذه التعديلات واستخدام المعارضة لدعمها وإضفاء الشرعية عليها.
قطعاً لا يمكن أخذ هذه الدعوة على محمل الجد، أو أنها قد تفضي إلى حدوث اختراق سياسي ينهي الأزمة السياسية الممتدة منذ 2013، بخاصة أن آلاف المعتقلين السياسيين لا يزالون قابعين داخل السجون، فضلا عن استمرار الاعتقالات لكل من يعارض النظام وسياساته كما حدث أخيرا مع توجيه الاتهام للباحث والناشط أحمد سمير سنطاوي والحكم عليه بالسجن 3 سنوات، وإعادة اعتقال الناشطة الشابة آية كمال الدين بسبب منشور لها على منصة "الفيسبوك" ينتقد الأوضاع في مصر.
أما ما يثير الغثيان حقا فهو موقف بعض القوى والشخصيات والرموز السياسية من الحوار الوطني؛ فعلى ما يبدو أن كلا منهم يحاول استغلاله لمصالحه الشخصية والأيديولوجية بطريقة انتهازية فجة؛ فقد هرولت هذه القوى والشخصيات إلى تلبية دعوة السلطة للحوار، من دون أن يكون لديها أي ضمانات بنجاح الحوار، ومن دون القدرة على فرض أجندة واضحة ومحددة لهذا الحوار الذي يدار بالكامل من قبل أجهزة الأمن والمخابرات، وهذه القوى والشخصيات نفسها التي عانت من التهميش والإقصاء، وأحيانا السجن والاعتقال، على أيدي هذه الأجهزة على مدار السنوات الثماني الماضية، وتهرول الآن للحديث مع ممثليها كأن شيئا لم يقع، فهل بعد هذا البؤس بؤس؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق