لا مفاجآت في حقيبة الكاوبوي بايدن
وائل قنديل
جاء بايدن إلى المنطقة وذهب من دون أن يترك مجالًا لأحدٍ كي يندهش أو يستغرب، فقد كان الرجل متسقًا تمامًا مع معتقداته وأفكاره الواضحة منذ ما قبل وصوله إلى البيت الأبيض.
لا مجال هنا، إذن، للصدمة أو الإحباط أو تصنّع المفاجأة، إن على مستوى مقاربة الرئيس الأميركي للقضية الفلسطينية، أو من ناحية العلاقة مع ملفات النفط وحقوق الإنسان، فالرجل ينطلق في الأولى من المصلحة الإسرائيلية الكاملة، وفي الثانية من المصالح الأميركية وفق التصور البراغماتي الصريح.
وفي هاتين النقطتين تحديدًا، من العبث أن يظنّ أحدٌ أن ثمّة فوارق بين الديمقراطيين والجمهوريين الأميركيين، ذلك أن قيمًا ثابتة تحكم عقل الكاوبوي الأميركي، وتحدّد دوائر حركته في علاقاتها بالشرق الأوسط.
في الموضوع الفلسطيني، كان بايدن وفيًا لصهيونيته المعلنة، وكل ما صدر عنه ويهلل له أتباع والي رام الله هو إعلان موقفه الشخصي المؤيد حلّ الدولتين، من دون أن يقدّم ضماناتٍ أو يتحدّث عن آلياتٍ تجعل حل الدولتين هدفًا يمكن تحقيقه على الأرض، فالرجل يطرح موقفًا شخصيًا، لا يختلف عن موقف أي إنسان عادي من المفاضلة بين تشجيع برشلونة وتشجيع ريال مدريد مثلًا، هو فقط يشجّع، لكنه لا يملك قدرةً على التأثير في النتائج .. فقط من مشجّعي حل الدولتين، من خارج الملعب السياسي.
يهلل جمهور الاستبداد العربي لفكرة أن معسكر المستبدّين نفى وجود أي مشروعٍ لأحلافٍ عسكرية مع الكيان الصهيوني، بينما ينطق الواقع بأنهم يمارسون تحالفاتٍ ثنائيةٍ صريحةٍ على أرض الواقع، منذ فترة طويلة، وليس الشاهد على ذلك، فقط، أن رئيس أركان جيش الاحتلال الصهيوني يزور الرباط صبيحة انفضاض قمّة جدة، فالحاصل أن اجتماعات تنسيقية مشتركة بين عسكريي محور اعتدال العربي وعسكريي الكيان الصهيوني انعقدت في شرم الشيخ وفي المنامة، وستنعقد في عواصم عربية أخرى، فضلًا عن أن تبادل الزيارات الدبلوماسية على أرفع المستويات، المعلنة منها والخفية، يجري على قدم وساق، ولم يترك دولة من دول محور اعتدال، الذي هو بالأساس من بنات أفكار بنيامين نتنياهو. بالإضافة، بالطبع، إلى دلالة اختيار قمة جدة موعدًا لإعلان التطبيع الجوي الكامل بين الرياض وتل أبيب، وكذا التطبيع المباشر من خلال نقل تبعية جزيرة تيران إلى السعودية.
فيما يخصّ المواقف من حقوق الإنسان العربي، قدّم بايدن لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أكثر مما حصل عليه الأخير من دونالد ترامب، حتى على مستوى حميمية الصور والابتسامات المتبادلة، حيث جاء حاكم البيت الأبيض، وفي رأسه موضوع أساس، هو النفط، وهو ما عبرت عنه صحيفة "ذا غارديان" البريطانية أمس بعنوان "النفط يتفوّق على حقوق الإنسان مع اضطرار بايدن لتقديم تنازلات في الشرق الأوسط".
وظني أنها ليست تنازلات بقدر ما هي إظهار للوجه الأميركي الحقيقي، والذي لا تختلف ملامحه من ترامب إلى بايدن: المصلحة ثم أي شيء آخر.
احتاج جو بايدن أقل من ستة أشهر، لكي يستعيد أدوات دونالد ترامب في إدارة العلاقات الأميركية المصرية، فيما لم يكن السيسي بحاجةٍ إلى أكثر من ستة أيام، لكي يستعيد أدوات حسني مبارك، ويستردّ وظيفته في المنطقة، جسرًا تعبر فوقه مركبات التطبيع من كل الأحجام والأوزان.
على مستوى العلاقات الأميركية المصرية، لا جديد، فبايدن مع عبد الفتاح السيسي هو ترامب مع السيسي، وهو بوش وكلينتون وأوباما مع حسني مبارك: الهدف واحد (ضبط إيقاع العلاقة مع تل أبيب) والأدوات واحدة (توسيع رقعة التطبيع ومحاولة ترويض المقاومة الفلسطينية).
لو رجعت إلى مايو/ أيار من العام الماضي، وفي ظل تصاعد المواجهة بين المقاومة والاحتلال الصهيوني، وشعور الولايات المتحدة بالخطر على كيانها الصهيوني المحتل، قطع بايدن حالة التجاهل الممتدة للجنرال السيسي، وقرّر الاستعانة به لأداء وظيفته الاعتيادية في الضغط على المقاومة حتى تتوقف عن تهديد أمن الاحتلال.
قلت وقتها "إنها لحظة تكشف عن أن السيسي لم يكن فقط الدكتاتور المفضّل لترامب، الجمهوري الوقح الواضح في صفاقته وشعبويته، بل هو كذلك دكتاتورٌ مفضّل، لا غنى عنه، لبايدن الديمقراطي الهادئ ذي التهذيب المصطنع، مع فارقٍ بسيط بين الأميركيين الاثنين: أن الأول، ترامب، كان ينحاز إلى الصهاينة، للتربّح والتكسّب والاستثمار في المضمون، فيما يبدو الثاني صهيونيًا، قولًا وفعلًا، عن التزام أيديولوجي صارم".
الشاهد أن واشنطن لا تسمح بغير هذه النوعية التي يجسّدها السيسي في حكم مصر، ذلك أنه حين يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني، لا فرق بين ديمقراطي وجمهوري. ومن ثم، السيسي هو الدكتاتور المفضّل للإدارة الأميركية، باختلاف ألوانها السياسية، حتى وإن بدت في أوقاتها الديمقراطية مهتمةً بالحريات والديمقراطية، فإن هذا الاهتمام لا ينبغي بالنسبة لها أن يطغى على التزامها الوجودي بالاحتلال الصهيوني، وهذا ما بحّت أصواتنا في لفت الانتباه إليه، مع لوثة الأفراح والاحتفالات بفوزه من جانب من أسميتهم "المتبيضنين العرب" الذين كانوا يُمعنون في تلعيب الحواجب وتطليع الألسنة لأيتام دونالد ترامب الحزانى على سقوطه من جمهور المستبدّين العرب.
عقب لقاء بايدن والسيسي مباشرة على هامش قمة جدة، قرّر الأخير الإفراج عن مجموعة من الأسماء الرنّانة من بين عشرات الآلاف من المحبوسين ظلمًا، في رسالةٍ شديدة الوضوح مضمونها: كل المحبوسين ظلمًا أسرى ورهائن يتم استخدامهم في المقايضة وعقد الصفقات مع السيد الأميركي، وبقدر ما تدفع واشنطن من أثمان، سيحصل بعض المصريين على بعض الحرية .. يا لها من صفاقة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق