بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان والأرض في كتاب الله (1)
د. عطية عدلان (مدير مركز محكمات)
الحمد لله .. الصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لن نتعرض في حديثنا هذا لشيء مما يتعلق بالآيات الكونية في خلق الأرض، والدالة على قدرة الله وربوبيته، ولا لشيء من دلالات الآيات القرآنية المتعلقة بطبيعة الأرض، والشاهدة على ظاهرة الإعجاز العلميّ في كتاب الله، ولا لغير ذلك من الموضوعات التي لا تقل أهمية عن موضوعنا هذا؛ لأنَّ موضوعنا على وجه التحديد والدقة هو علاقة الإنسان بالأرض في كتاب الله تعالى، وهو موضوع مستقل في معناه وفحواه وفي منطلقاته وغاياته.
هذا الموضوع غاية في الأهمية؛ إذ ينبني على تصور العلاقة بين الإنسان والأرض مناهج عيش ونظم حياة، فالحضارة الغربية عندما قامت غرست قوائمها في تربة الفكر الحداثيّ، الذي يصور علاقة الإنسان بالأرض على نحو يبرز الإنسان كسيد لهذا الكون كله بما في ذلك الأرض، ويعكس الصراع الأزليّ بين هذا السيد وبين الطبيعة المتوحشة البليدة في زعمهم، فعندهم – على حد قول روبرت بويل – أنَّ ” الإنسان خلق ليمتلك الطبيعة ويحكمها”( )، ومن ثمّ وجب أن نلتمس في كتاب الله طبيعة العلاقة بين الإنسان والكون على وجه العموم والأرض على وجه الخصوص.
ولا سيما وقد تأثرت مناحي الحياة المعاصرة كلها بهذا المنطلق الفكريّ، فساد التوجه العلمانيّ الذي يعزل الدين وكل ما ينسب للسماء إن بصدق أو بكذب عن النشاط الإنساني والحياة الإنسانية، والذي في جوه نبتت كل النظريات الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وكانت النهاية على هذا النحو الذي يصوره أحد كتاب الغرب: “إنَّ ثلاثة قرون من النمو العلمي والتكنولوجي قد تركت حضارتنا في وضع يتعذر الدفاع عنه، وجعلتنا في نزاع مع البيئة الطبيعية، وعلى المستوى الأعمق في نزاع مع الروح الجماعية”( )
واستقراء الآيات القرآنية التي تحدثت عن هذا الموضوع الكبير الخطير يعطي صورة واضحة وجلية للعلاقة الحقيقية بين الإنسان والأرض، تلك العلاقة التي تمثل جزءاً من التصور الإسلاميّ للكون والحياة وعلاقة الإنسان بهما، ذلك التصور الذي يمثل مع جملة من التصورات الخلفية العقدية والأصل الأيديولوجي لكل النظم الإسلامية التي تحكم الحياة وتسيرها حسب شريعة الله تعالى.
ويبدأ القرآن بتقرير هذه الحقيقة التي ينساها أو يتناساها الإنسان؛ في غمرة زهوه بما حققه من إنجازات علمية أو تكنلوجية، وهي خضوع هذه الأرض لأمر خالقها ومالكها، فما كان ينبغي للإنسان أن ينسى أنَّ هذه الأرض ومن فيها مملوكة لخالقها وباريها (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)) (المؤمنون 84-85)، ومن ثَمَّ فسيدها هو الله وليس الإنسان، ودينونتها وخضوعها إنَّما هو لله وليس للإنسان، فها هي في الابتداء أَتَتْهُ مع السماوات طائعة، وفي الانتهاء أذنت له وحُقَّت، قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت 11)، وقال سبحانه: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)) (الانشقاق 3-5) أي:“فعلت في انقيادها لله حين أراد انشقاقها فعل المطواع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع”( ).
لكن سيدها ومالكها وخالقها سخرها للإنسان، وجعلها قرارا ومهدا وفراشا له، ووطأ أكنافها لتكون تحت قدمه ذلولا منقادة؛ نعمة منه وفضلا، ومنَّة منه وإحسانا، وليتحقق الابتلاء والامتحان في هذه الدار، وقد تنوعت عبارات القرآن الكريم في وصف هذا الواقع الذي يصر الإنسان على إغضاء الطرف عنه.
فهذه طائفة من آيات القرآن تقرر الحقيقة الساطعة الرائعة: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك 15) ومعنى ذلولا: مُذَلَّلةً سَهْلَةَ( )، (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا) (غافر 64) أي جعلها لكم مستقرا بساطا مهادا تعيشون عليها وتتصرفون فيها وتمشون في مناكبها وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم( )، (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) (النبأ 6) والمهاد: الوطاء والفراش( )، (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) (البقرة 22) يعني: بساطا، (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) (لقمان 10) (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (النحل 15) ومعنى أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ:كراهة أن تميل بكم وتضطرب( )، (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)) (نوح 19-20) ومعنى بساطا: تستقرّون عليها وتمتهدونها، ومعنى: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا) أي: لتسلكوا منها طرقا صعابا متفرقة؛ والفجاج:جمع فجّ، وهو الطريق( )، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة 29) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (الحج 65) (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)) (الرحمن 10-13) ومعنى وضعها للأنام أي مهدها للخلق( ).
هذا هو الواقع المنير: أنَّ الأرض ملك لخالقها، وأنَّ خالقها ومالكها سخرها ومهدها وذللها للإنسان؛ رحمة منه وإحسانا، وسخر له ما فيها من خيرات؛ منة منه وفضلاً؛ فما الذي يترتب على هذا الواقع؟
(يُتْبَعُ إن شاء الله)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق