واجب المرحلة من منظور الهجرة النبوية
د. عطية عدلان
(مدير مركز محكمات)
تُعَدُّ الهجرةُ النبويةُ الحدثَ الأبرزَ، والأكثرَ أثرًا في مسيرة الأمّة الإسلامية في صدرها الأول؛ حيث كانت الجسرَ الذي عبر عليه الجيل الأول من حال الذل والاقتهار إلى حال العزِّ والاقتدار، ولا يزال الحدث إلى اليوم والغد ملهما وباعثا؛ فكيف يمكن أن نوظف هذا الإلهام من أجل إحياء الأمة وبعثها من جديد؟ لتنتقل في زماننا هذا من حال التبعية والاستبداد إلى حال الاستقلال والرشاد؟ هذا هو السؤال الأجدى من بين الأسئلة التي تطرح نفسها على بساط الذكرى السنوية التي نحييها في رأس السنة الهجرية.
هل انقطعت الهجرة؟
وإذا كانت الهجرة من مكة إلى المدينة قد انقطعت بفتح مكة – كما جاء في حيث: “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية” – فإنّ الهجرة من الضعف إلى القوة، ومن التبعية إلى الاستقلال، ومن العبودية إلى الحرية، ومن الخنوع إلى النضال، ومن أغوار الجهل إلى أنوار العلم، ومن العَيِّ إلى الموَاثَبة والمغالبة، ومن الفُرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن اتباع كل نَاعِقٍ إلى اتباع الهدى بوسطيته وربانيته وحنيفيته السمحة، إنّ هذه الهجرة لا تنقطع – كما جاء في حديث آخر – “حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها”.
وإِذَنْ؛ فنحن بحاجة إلى هذا النوع من الهجرة قبل كل شيء، ولكي يتحقق لنا هذا لابد من توافر الإرادة والعزيمة، فإنّ الإرادة سابقةٌ لكل أمرٍ ذِي بالٍ يكون فيه صلاحُ الحال، والذي يراجع سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وكيف كان يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج من كل عام، يعرف كَمْ كانت إرادتُه متوجهةً بإصرار صوبَ التغيير، بل إنّك إن تأملت السُّوَرَ القرآنية التي كانت تنزل قبيل الهجرة – كَسُوَرِ القصص ويوسف ويونس وهود والإسراء والكهف وغيرها – لوجدتها تههيء الأمة المسلمة الوليدة للانتقال والتحول من حال الضعف إلى حال القوة والتمكين، هكذا يجب أن تُولَدَ فِينَا الإرادةُ، إرادةُ الخلاص، إرادةُ التحول، إرادةُ التغيير.
بين المعنوية والحسّية
لم تكن هجرةُ النبيِّ وصحابتِهِ هجرةً حسيّةً محضة، برغم انتقالهم بأشخاصهم وتحولهم بأجسادهم من مكة إلى المدينة، وإنّما كانت قبل ذلك هجرة بالمعنى الذي أشرنا إليه آنفا، ذلك المعنى الذي يعطي الهجرة صفة الدوام وينفي عنها وصم الانقطاع؛ لذلك جاءت العبارة الثانية في الحديث الذي أقرَّ الانقطاع على هذا النحو “ولكن جهاد ونية” فأشار بذلك إلى أنّ الجانب المعنويّ منها لا ينقطع، أمّا الحديث الذي نفى الانقطاع فقد قرنت الهجرة فيه بالتوبة، والتوبة هجرة معنوية من حال إلى حال، هجرة بهجر المعاصي واللياذ بالطاعات والقربات.
فإذا تقرر هذا واستقر صارت الهجرة الحسية مجرد وسيلة؛ ومن ثَمَّ لم يكن حكمها من الثوابت التي لا تتغير أو المحكمات التي لا تتحول، وإنّما صار خاضعا للتغير – شأنه في ذلك شأن سائر الوسائل – ودار مع المصلحة الشرعية حيث دارت، فإن لم يكن المرء مضطرا للهجرة من بلده، ولم يكن له ولا لأمته مصلحة راجحة في الهجرة، وغلب على ظنّه الوقوع في الفتن؛ كان الواجب هو بقاؤه في بلده يُنْتِجُ ويُعَمِّرُ ويتعاون مع المسلمين في إحيائها وإنمائها ورفع شأنها، وقام الحديث الأول شاهدا على هذا الواجب، أمّا إن كان مضطرا لذلك لتعرضه للاضطهاد، وكانت هجرتُه مصلحةً راجحة له ولأمته، ولم يخش الفتنة؛ ساغ له أن يهاجر، وقام الحديث الثاني شاهدا على الجواز والإباحة.
بين الحق والواجب
وفي إطار التنقيب عن الدرة المكنونة في الهجرة النبوية ينبغي أن نجيب على هذا السؤال الذي قد يبدو غريبا بسبب غربتنا عن الفهم الصحيح لكتاب الله تعالى، وهو: كيف نرتقي بالهجرة من كونها ممارسةً لحق إلى جعلها أداءً لواجب؟ فإنّ الهجرة – حسب معطيات القرآن – هجرتان، هجرةٌ تكون ممارسةً لحقّ، وهجرةٌ تكون أداءً لواجب، فأمّا الأولى فقد قررها الله تعالى في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً)، أي: لماذا استسلمتم للفتنة ولم تمارسوا حقكم بالهجرة في أرض الله الواسعة؟ وأمّا الثانية فهي التي قررها الله تعالى في قوله: (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).
ففي الآية الأولى تقرير لحق الهجرة، وفي الآية الثانية تأطير للواجب المنوط بها، فلكل إنسان حقٌ فطريّ شرعيّ في الهجرة إلى حيث يدرك أمنه وسلامته، فإذا استقر به المقام وحَصَّلَ رِزْقَهُ تعلق به واجبٌ، يكبر كلما كان كبيرا، وهو أن ينصر قضايا الحق؛ بما هيأ الله له من المراغَم والسعة، السعة في الرزق والمعاش، وفي الصلات والعلاقات، وفي أسباب الانتشار والتمكين، والمراغَم للظروف التي تضيق مع القعود والركود وتتسع مع الضرب في الأرض، والمراغمة للخصم الذي يسعى للظفر بالمهاجر فلا تطاله يده ولا كلابه، فبهذا المراغم والسعة يملك قدرة على تحويل هجرته من الممارسة للحق الفطري إلى الأداء للواجب الشرعي، عندئذ تؤول هجرته التي كانت في ابتدائها مجرد فرار من الظلم إلى هجرة في سبيل الله، فإن أدركه الموت عندئذ وقع أجره على الله.
لم أتحدث عن درس التوكل مع التدبير والأخذ بالأسباب، ولا عن دروس التضحية في سبيل الحق؛ لفرط تبديها وكثرة من تحدثوا فيها، لكن لعلنا إن استوعبنا هذا الدرس قادنا إلى بقية الدروس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق